بينج بونج

بينج بونج
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

800x600 Normal 0 false false false EN-US X-NONE AR-SA MicrosoftInternetExplorer4 /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman","serif";}  محمد خير

سحبتني هدى من يدي إلى الشرفة، أشارت إلى الشرفة المقابلة وشرحت الحادثة:

- وَقف هناك للحظة، على السور، ثم قفز، أيقظ الارتطام الشارع كلّه.

تطلعتُ إلى الشرفة المغلقة، على سورها بعض أصص الصبّار، وفي الأعلى قفص عصافير خاو، وتخيلت "حازم" بجسده الفارع –كما أتذكره قبل سفري الطويل- يطلع السور بخطوة واحدة، يقف- أو يتردد-  تلك اللحظة، ثم يقفز.

- كان واضحًا أنه سيفعلها.

تؤكد شقيقتي وهي تجلس على الكرسيّ البامبو مواصلة النظر إلى الشرفة التراجيدية.

 كنتُ أعرف أن لا أحد شاهد الحادثة فعلا، وأن الشارع كان نائما كعادته ثم استيقظ الجميع على الدويّ، لكن هدى – تعويضًا عن أحلامها الإعلامية القديمة- تحبّ أن تصف الأحداث.

-كنتُ أراه من هنا كثيرا في أيامها الأخيرة- تشير نحو نافذة موصدة- ينقل ليلى في أرجاء البيت بحذر، يكاد يحملها أو يحملها فعلا، كأنها ابنته أو أمه، يطعمها في فمها ويصب القهوة، يمسح عرقها بيديه، يتأملها وهي تنعس في الشرفة، ويبكي.

تسكت لحظة وتتابع:

 – كان صوت بكاءه يصل إليّ في غرفة النوم.

اعتدتُ مبالغات هدى فأمّنت على كلامها بهزة رأس، وتطلعتُ من موقعي إلى صالتها التي خلت من ضجيج أسامة، انفصلا أثناء سفري، ويبدو أن ذلك الانفصال، والهدوء، حوّلاها إلى برج مراقبة لحازم وليلى، رفيقيّ الجامعة القدامى، اللذين سبقا هدى وأسامة إلى السكن في المنطقة، عرفتُ –في البلد البعيد حيث أعمل- بمرض ليلى الجميلة ورحيلها، ثم نهاية حازم المفجعة، وشعرتُ – حيث جلسنا في الشقة نصف الخاوية- بثقل هائل، وكدتُ أقترح على هدى أن تنتقل  وابنتها – النائمة الآن- من هذا الحيّ، أو من تلك البناية على الأقل، لكن ثقل صدري جعلني قليل الكلام، وخفتُ التورط أثناء أجازتي القصيرة في مسؤوليات إضافية.

لكن كان لأسامة –على المقهى-  رأي آخر:

        لم ينتحر، أنت تعرف أختك وخيالاتها.

يقول أسامة بلهجة تكاد- لولا مأساوية الظرف- أن تكون ساخرة، ويتحدث بين نفس أرجيلة وآخر: المنتحر يترك رسالة، وصيّة، وغالبا ما تكون له سوابق، محاولات انتحار، حازم ينتحر؟!

في مقهانا القديم، حيث كنا- في الأيام الخوالي-  نلعب الاستميشن طوال الليل ونأكل من عربة الكبدة التي اختفت الآن، يشرح أسامة: سَقَط، كما يسقط الناس من الشرفات، وأغلب الظن أنه كان ثملا كالعادة.

يسحب نفسًا طويلا وينفثه: يا رجل، لم يتوقف عن السُكر حتى أثناء مرضها، المرأة مريضة، وهو، العواطلي، يصرف نقودها على الزفت.

كنت أتذكّر حازم كخبير في الفشل والمشروعات البائسة، بين تجارة خطوط الموبايل أو الشراكة في سيارات أجرة، وتذكّرت أنني – حين عرفت بزواجه من ليلى – اندهشت من ارتباط تلك المجتهدة بذلك الكسول، أما أسامة فقد واصل هجومه على الفقيد:

        أقسم بالله أنني سمعته يضربها أكثر من مرة، ارتاحت منه يا رجل.

        ها قد لحق بها.

        طبعا، ليطلب  نقودا أخرى.

وأخذ يتحشرج في ضحكة دخانية، راقبتُ قسوته وشعره الذي انحسر كثيرا عن مقدمة الرأس، والترهّل الذي أصابه ولابد أصابني أيضا، وخيّمت عليّ كآبة.

وربما كان خطأ أنني ألمحتُ لهدى عن حديث المقهى، إذ توقفت للحظة عن الإشراف على المرأة التي تنظف بيتي، بيت العائلة القديم، ورمت نظرتها الغاضبة إلى لا مكان: يضربها؟ أقل واجب!

ولم تصبر طويلا أمام نظرتي المتسائلة: أنت تتذكر ليلى، أليس كذلك؟

ثم بصوت أخفض: كانت، يعني، لم تكن مخلصة تماما.

فاجأني هذا فعلا، أتذكر عيون ليلى الطيبة، الخجولة تقريبا، مشيتها الجدية وصوتها الرقيق، أتذكر أيضًا إصرارها على حازم رغم بؤسه الواضح الذي أزعج أهلها، لم يكن حبًا من الذي يتحاكى عنه طلبة الجامعة، لكنه كان حميما وأليفا ويشيع نوعا من الطمأنينة، كطائرين اعتادا المبيت على نافذتك من آن لآخر.

وتختصر هدى في تفاصيل الكلام لإن “عندنا بنات”، لكنها تهزّ رأسها وتهمس كما لو كانت تحدث نفسها: الرجل تحمّل وسامح، وهي، ماذا أقول؟ رأيتُها بنفسي، استغفر الله، وحين مرضَت لم يكن لها غيره، تموت بين يديه ويرعاها وفي قلبه النار، وتستكثر عليه كأسين؟

وتضرب بكفيها كأنني قلتُ كلاما لا يمكن تصديقه، وتلحق بالمرأة الأخرى إلى المطبخ، وتتذمر: كيف استطعت المبيت في هذه المزبلة؟

وعاهدت نفسي ألا أعود –إذا التقيت أسامة- إلى هذا الحديث، لكن الليل طال في المقهى وأردنا- بلا اتفاق- أن نتجنب مشاكله مع شقيقتي، فلم يكن هناك بدّ من الكلام، وفاجأني أسامة بدوره: المرأة معذورة!

ولم يترك لي الكثير لأخمّنه “حازم كان “منظر” بلا صحة، لابد أنك تتذكر”.

قفزت إلى ذاكرتي مشاهد هائمة لحازم في مستشفى ما، لكني لا أذكر أنه كان أمرا خطيرا، وربما حتى لم يكن حازم.

ويخفض أسامة صوته: لم يمر على زواجه أسابيع حتى بدأ يسألني – وسط الكلام- عن أقراص ووصفات، ثم لم يعد إلى هذا الأمر، لكني تيقّنت من سوء حظ المرأة التعيسة، تحدّت أهلها من أجله، ثم ماذا؟ لا مال ولا صحة أيضا.

سكتنا، وأخذ أسامة يضبط شعلة الأرجيلة، ويتمتم: لا أنسى تلك المرة، رأيتها تحت البيت في سيارتها المتوقفة، رأسها مائلة على المقود وتبدو كمن فقدت وعيها، نقرتُ على الزجاج، رفعت رأسها مفزوعة ورأيت وجهها، ماذا أقول لك؟ لم تكن لتصدق أن هذه ليلى.

أخذ يهزّ رأسه دون أن يشرح السبب في عدم تصديقي المفترض، لكني تخيلت وجه ليلى الصبوح، وقد ملأته كدمات حمراء كبيرة، أو ربما محض دموع.

وتابع أسامة وقد بدا عليه – للمرة الأولى – شيء من الإشفاق: واكتملت الطامة بالسكّري، اللهم احفظنا.

لم أستطع أن أحدد الطرف الذي يشفق عليه أسامة، لكنه أوضح وهو يضبط مجددا شعلة الحجر: يعني، رجل مريض، فليسرّحها بإحسان، لكنه ابتزّها  بالحب، ربطها حتى أمرضها.

ضاق المكان عن أي نسمة هواء، التقطتُ شهيقًا وصاحبه – كعادتي كلما سمعت حديثا عن المرض- نغزة في يسار الصدر، ولفّني حنين مفاجيء إلى بيتي في الغربة.

لكن هدى، في اليوم التالي، وضعت يديها في وسطها:

 – هي التي أمرضته يا أخي، ألم تدخله السجن؟

– سجن؟

رددتُ بذهول هذه المرة.

أكملت هدى:

لم يبق هناك إلا أياما، لكنه انكسر، خرج رجلا آخر، كانوا يزوروننا – تشير نحو الكنبة العريضة فأكاد أراهما- ويمكنك رؤية الذلّ في عينيه، تتحكّم حتى في ألفاظه، والرجل يحبها لكنه مكسور النفس، امرأته تعمل وهو يتعثر، وفي واحد من مشاريعه إياها سجنه شركاؤه، ونقول لها كلّمي أهلك يا ليلى، المسكين مقطوع من شجرة، تقول لنا سأتصرف، كبرياؤها فوق كل شيء، اتصلتُ أنا بأهلها، دفعوا المال وأخرجوه، خرج من السجن ودخل الهمّ، وما الذي ورّطه في ذلك؟ أراد رفع رأسه أمامها،  أذلّته.

“لا يا حبيبي”

يقول أسامة، في لقاءنا الأخير قبل عودتي إلى الغربة، “سَجَنه طمعه وكسله، لا يريد أن يعرق، امرأته تهلك في العمل وهو يريد الكسب من الهواء، طيب يا حبيبي هذه مسألة تحتاج الذكاء، وحازم يعني، أنت تذكر طبعا”.

ويضحك.

 وتطلعت نحو زاويتنا القديمة، رأيت الشبان يضحكون ويلعبون كأنهم نحن في تلك الأيام، وكانت الشاشة العريضة تعرض مباراة أجنبية ما، لكن أحدا لم يكن يتابع، وقفزت لقطة من قديم: الشمس تضيء  شبابيك المدرّج الواسعة، وحازم يتعثر في الكلام مع الطالبة الفاتنة التي جلست جواره، وورائهما نجلس أنا وأسامة، ننادي على حازم بتكرار مزعج، وكلما التفت إلينا غرقنا في الضحك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*من مجموعة “رمش العين” تحت الطبع

خاص الكتابة

 

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب