سأهتم بالوجبات الجيدة لاسيما المعكرونة الأصابع. وأتناولها سريعًا بنهم وأنا راكنة عند باب المطبخ أفكر في كل شيء يوقفني هنا ويشوّه صورتي المندمجة مع العالم .سأفكر بمصادقة البيئة للمرة الأخيرة بأن آتي بالنجار ينحت نصف شجرة في مكانها فأجلس إلى طاولتك السامقة أحاول الاقتراب من أخضرك المجرّف. نبدأ..سأكون نباتية هذا أول شيء؛ كي أحمي الأغبياء الحيوانات أمثالي. وأزهر أزهر من جديد كل يوم بذرة واحدة لرمانة, وفي السنة حبة, وفي العالم…. أخشى أن تكون لي جذور هوائية.. أريد أن أموت كالشجر لا يكفّن. سأصادق السمك أيضًا. السمك القريب فقط من الشاطئ. أملأ به قلبي المغمور. أما الغائر في عروق البحر, فهو للهجرة التي أزاولها بنجاح دون ماء وملح.
أفهم كل ما يجري. أحاول فهم كل ما يجري..أفكر بالحزن الذي لا يُشعرني بالسعادة. تسقط دمعات حياديّة, ربما تساعدني في هضم نفسي, لا أتعرّف إليها فأنا آكل وأفكر في كوني طفلة غبية وامرأة خرشوفة. وشيئا غير مرغوب فيه بالمرّة . لا أعرف..كيف كنتُ حين لا أجيد الرقص. أو الطبخ. ولا أحسن عقد النهاياتالمدلقة.أعود من العمل في موعد محدد كل يوم. وفي ذات الموعد لا أعود معي. لا أتذكر شيئا على الإطلاق غير شاشة سوداء, قالوا: انتهى العرض. ولم أرافق البطل إعجابا به في الممر الأخير. كنت زوجته في دور على طاولة مستديرة في مطعمنا النباتيّ, وكنتُ راقصته التي استعدت لتعلم الأداء لكن يفشلها غباؤه, وكنت حبيبته التي يكرهها بصدق ويقترب منها ليبتعد. حيث يؤثر أنانية الظلام المفترس في نفسه. ويدّعي أنه نباتيّ. وكنت جلجلة صكوك معدنية أُكسبها له يظنها ذاته بحصوله عليها. على أحد وجوهي: رسمة. على أحدهما: كتابة.
كنت كل ما لا يناسبني, أصبح عدد الكراسي يكشف غيابي. وجودي لا يشعرني بالسعادة مرة أخرى. مرّات أخرى.
“ما الذي تعيش من أجله؟!
هو الحب الذي سيشعرك بالسعادة.
كل شيء في الوجود خلق لأجل غرض ما.
على سبيل المثال هذا الحجر
لا أعرف لأي غرض وجد هذا الحجر..
لكن لا بد وأن له فائدة.
وإلا سيصبح كل شيء بلا معنى”.
Richard Basehert كان يقول:
على طريق فليني.
هائم في المعنى. ما وصلني أنه: لم يصلك. ومن وراء شاشة العرض الزجاج, كنتُ ألتقط “جولسمينا” الداخلية. تحدثت روحها الهلامية في مداد. بتوازٍ معها أخبرتني عني. تحدثنا في الأتموسفير سحابتين دامعتين كلُّ على “زامبانواه”.
كتبتها بشفافية كما خلقت بداخلي “شيئا”. حتى وقّعت بالحبر السري كي لا تلوّث احتياجي للحياة. رأيتها/ رأيتكما من خلف الزجاج. تموت في واقع المشهد. كخبزة يابسة على رصيف. الهواء يجفف الدمع. والدم الذي أصله نبات. وأنت تصفرّ مع الورق.
في الواقع ماتت جولسمينا,في واقع المشهد. ماتت فقاعة. حفنة من الهواء للتنفس. وأخرى للاختناق.
وكنت قرينتها على ناصية طريق باردة أخرى. الزجاج أصبح شاشة سوداء. وجولسمينا هادئة في ثوبها الأبيض. لأنها غصن يابس. أريد أن أموت كالأشجار بلا كفن.
توزّعت الأرواح, حتى ارتجفت الطرقات الضيقة كأيد في الوداع. سقطنا في منتصفها باردتين / لقاء الموت.
لكني سأقول أنك تحبني لكنك لا تفهمني. وأترك الوجبة ساخنة على رف المطبخ الأقرب من ناحية الباب. وفوق ملابسي العادية أرتدي معطفا طويلا للسرعة أو ربما للجهل. وأهبط إليك على دراجة نارية بعد أن دفعني لفعل هذا أحد الأصدقاء المقربين. بل كل أصدقائي المحنطين في الرماديّ الشفاف.. وأنتظرك عند باب السجن. سجن روحك الفسيح.
أحاول أن أنفصل عن الرمانة. أن أكون بذرة قليلة لأنجو. أن أكون بذورًا مختلفة.
-ينبتُ حزن واحد بالقلب-
سأقتلع شجرة الرمّان. شجرة الرمان ستذبل كلها مرة واحدة. والرمانات كلها. والبذور الصغيرة.
لن أنام عند الطريق الباردة يا “زامبانو”/ يا…,أوقفووه, أوقفوا العربة.. والحصان المتمرّس. أطفئوا العالم حين ذبول شجرة الرمان.
_______________________
*من وحي فيلم:الطريق، إخراج: فدريكو فيليني، بطولة: أنطوني كوين، جوليتا ماسينا. إيطاليا، 1954، أبيض وأسود 103 دقيقة(بالإيطالية مترجم للعربية)هو أول فيلم يحصل على جائزة الأوسكار لأفضل فليم أجنبي لعام 1954
*شاعرة مصرية
خاص الكتابة