مي التلمساني
في بيت أبي، كانت غرفة المكتب هي محور الارتكاز والضوء. تطل بلكونتها على ميدان واسع وغابة من الأشجار تحولت فيما بعد إلى متحف للطفل على طرف ميدان أبي بكر الصديق بمصر الجديدة. بيت صغير نسقته أمي وفقا لذوق الطبقة المتوسطة، وإن ظلت غرفة المكتب المكان الوحيد الذي حافظ عليه أبي بمنأى عن الذوق السائد. احتفظ فيها بكتبه ولوحاته ومقتنياته الفنية وأصبحت بالنسبة لنا كأطفال صومعة أو محرابا! تلك الهالة التي أحاطت بأبي وبغرفة مكتبه كانت ترافقها نغمات الموسيقى الكلاسيكية، وأحيانا أغنيات سيد درويش والشيخ إمام، وبرامج إذاعة البي بي سي ومونت كارلو العربية.
هادئة بطبعي! باستطاعتي وأنا في سن مبكرة أن أقضي ساعة في غرفة المكتب أنصت لشوبان أو باخ أو شوبرت دون أن أتبادل مع أبي كلمة حوار واحدة. أقرأ. أسرح في الملكوت. هادئة لدرجة أن أقضي مع عمي حسن أسبوعا كاملا في بيته الريفي دون أن يتصل حديثنا أكثر من عشر دقائق يوميا. الإفطار بسيط، والغداء أيضا، والنوم يأتي مبكرا، والقراءة والتأمل جزء من الروتين اليومي. التقط لي صورة بالأبيض والأسود ظلت من أجمل صوري في تلك المرحلة، في سن السابعة عشر. تذكرني تلك الصورة بالفتاة ذات قرط اللؤلؤ، لوحة فيرمير الشهيرة، وتذكرني بصباحات الندى في القرية، غير بعيد عن تكعيبة العنب الوارفة وشجرة المانجو العتيقة.
علاقتي بمكتبتي علاقة عائلية، هي بعض أسرتي وبعض أصدقائي وبعض أولادي (لو أضفنا إليها الكتب التي كتبتها وترجمتها).هي علاقة تطمئنني على موقعي من العالم، كأني موجودة بفضلها، بفضل أصدقائي من الكتاب وأهل الفن، من الفارابي إلى ادوارد سعيد، ومن فولتير إلى بروست وكونديرا، ومن صنع الله ابراهيم وابراهيم أصلان إلى منتصر القفاش وأحمد يماني وعادل عصمت. اللوحات أيضا لها مكانتها، زيت وأكواريل لحسن التلمساني، زيت وأكريلك لخالد حافظ ويوسف ليمود وجابر لطفي، حبر وجواش وتماثيل لهشام نوار، فوتوغرافيا لإيمان حرم، مستنسخات لفينيجن وموديلياني وشاجال.
بعد الهجرة إلى كندا، أصبحت لدي مكتبتان، مكتبة في كل قارة. وبالرغم من أن المشوار بينهما طويل إلا أنني لا أشعر أنه قد ينتهي إلا عندما ألتقي بكتبي وأوراقي ولوحاتي وفراشي الذي يتوسطها ويمد بينها خطوط المودة.
في بيتي القاهري، مكتبة كبيرة أغلبها باللغة العربية موزعة على غرفتين والجزء الثالث موجود في غرفة نومي. نشأت مع هذه المكتبة علاقة فيها قدر كبير من مشاعر الحب والاحترام لأبي ولتاريخه، فقد ورثتها عن أبي وفيها تتجاور الفنون جميعا. حافظت على كتبها القديمة من التلف وأضفت إليها كتبا حديثة كي تحيا وتنتعش.
في بيتي الكندي حيث أقضى معظم شهور السنة، يبدأ النهار بفنجان نسكافيه وزيارة لغرفة المكتب. في هذه الغرفة أهم كتب اقتنيتها على مدار ثمانية عشر عاما من الهجرة، باللغات الثلاث العربية والإنجليزية والفرنسية. كتب في تاريخ الفن والأدب، في السينما والفلسفة، في الرواية والشعر. تجاورها صور بالأبيض والأسود من أفلام كامل التلمساني، لوحات حبر وأكواريل لحسن التلمساني وصورة باسمة لأبي تصاحبني في الغربة وتذكرني بمعنى كلمة فن، عائلة، وطن.
المكتبة التي ورثتها عن أبي وأضفت إليها ليست عنوانا للثقافة أو واجهة اجتماعية، ليس فيها كتب ثمينة أو نادرة، وليس فيها أهم الموسوعات ومجلدات الأعمال الكاملة الأنيقة، فيها كتب تعكس تاريخ أبي وتاريخي في القراءة، وفيها قدر من التنوع وفرحة الاكتشاف. لذا، لا تجدني أبدا وحيدة، لأني أصحو وأنام بصحبة الكتب وونسها، ومن دونها لا يستقيم حال البيت.