بوركابي أو لعنة الزيوت الفاسدة

جمال أزروفي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

جمال أزروفي

استهلال لابد منه

المغرب، شتنبر 1959 على بعد بضع سنين فقط من الاستقلال، لكل طريقته في تحصيل غنائم ما بعد الاستعمار…هؤلاء الذين تستحضرهم القصة فضلوا ارتكاب أكبر جريمة انسانية في تاريخ هذا البلد: تسميم الفقراء بزيت محركات الطائرات الامريكية…رغم هول الكارثة ورغم المحاكمات الصورية والادانات لم يعتب المجرمون يوما باب السجن.

الجريمة نفسها سترتكب في حق الضحايا بشكل رمزي للمرة الألف حين حوصرت قضيتهم وانمحت من ذاكرة التاريخ الرسمي قانونيا وإعلاميا طوال ستين عاما.

الى روح هؤلاء، وإلى الذين لازالوا يقاسون ويلات العجز الحركي بكل تلاوينه بمن فيهم أقرباء، معارف وجيران.للنبش في ذاكرة مأساتهم كتب هذا النص.

***

المدينة صامتة، مبهورة، وكأنها خرجت للتو من هزة أرضية مفجعة…في الأفق سراب جاحظ يراقص دوامات الغبار الدائرية، يثير الهلع ويضاعف الإحساس باقتراب شيء مهول.

الناس في غفلة من أمرهم، شاردون في سَيْرِهِمْ يَجُرُّونَ الخطوات ثقيلة وكأنهم فَيَالِقَ من عبيد مُوَثَّقَةٌ أَرْجُلُهُمْ وأيديهم. وجوههم لامعة مزيتة، وعيونهم غائرة متعبة. يرمق بعضهم بعضا بتوجس واحتراز.

يبدو الناظر وكأنه يتربص لحظة الانقضاض على المنظور إليه. لا فعل ولا ردة فعل. يتفادى بعضهم بعضا ويتواصلون فقط لحاجة مُلِحَّةْ. يتفادون قدر الإمكان تجاذب أطراف الحديث أو الغوص في لغط ما دون جدوى، فلم يعد للغة أي معنى ولا للكلام معنى.

يتواصل الناس بالترقب والتلصص، حتى الغضب والصراخ انسحبا بلطف من معيش هذه القرية وتركا متسعا فائضا من الصمت المُمِلْ والانتظار المضني. فمنذ أيام داهم سكان القرية نوع من التعب الشديد والخور المرضي الذي يعجز صاحبه عن مباشرة أدنى حاجياته اليومية فتكوم الجميع على نفسه ينتظر إجابة مريحة على التدهور المفاجئ الذي لحق بأجسادهم التي كانت عواقب الزمن قد هدتها قبل هذا الطارئ المفاجئ.

 أغلقت المتاجر أبوابها، وهجر الناس الأسواق وحلقات المهرجين وَالقَرَّادِينْ وبائعي وَصَفَاتِ التداوي بالأعشاب وحفلات الراقص المخنث، ولعبة الفأر وشقالبة اولاد سيدي حمايدو موسى …صارت كل هذه الأمور لا تغري بالنظر ولا تبعث على المرح.

لم يعد للحرفيين ولا للتجار صدى يرن في الآفاق. كسدت تجارتهم، فتراكمت سلعهم، وتَرَهَّلَتْ دون أن يُسْأَلَ فيها. ملامح بائعيها حزينة متوجسة.

ارتفعت هضبات الأتربة وتكدست الأزبال ومخلفات البهائم وبقايا المتلاشيات. ما استقام وتعبد بالأمس من اسفلت وطرقات، اعوج وتحفر عميقا، وما لمع من طلاء بهت وانمحى أثره. ما عاد للأشجار لون النبات الأخضر بل أطياف غابات محروقة دون أوراق وكأن الخريف استقر الى ما لا نهاية، كلما حان وقت رحيله عاد ليقوض ما تبقى من أثر الاخضرار. وحدها أشجار الدفلى ظلت مزهوة باخضرارها المشبوه وكأنها تكرس هذا الإحساس بالفاجعة لقدرتها الخارقة على التحدي، لذلك حق لها أن تكون مفخرة اليابانيين لأنها كانت أول نبتة خرجت إلى الوجود من أرض هيروشيما بعد الانفجار اللعين…أي اشجار شيطانية هذه.

يوما بعد يوم، شُلَّت الحركة ونَدَرَتْ أشباح القامات في المسالك والأزقة، واكتسحت المدينة رياح عاتية حارة لم تزد الأمر إلا اختناقا ونفورا من المغامرة خارج أسوار الاكواخ والمنازل. لازمت البهائم والدواجن عقر الديار، واشتد بها الهزال، بل داهمها الموت ولا من يكترث لحالها.

تهاوت السيقان شيئا فشيئا وتجمدت العروق وجثمت الأبدان ولم يعد أغلب الناس يقوى على الوقوف والمشي. فلقد انتشر المرض بسرعة فائقة، وراجت أخبار بين الناس عن فناء الدنيا ونهاية الكون وقرب ظهور المسيح الدجال.

تبدأ أعراض الداء بعجز يصيب أصابع الأطراف السفلى ويسري الشلل الى باقيها. تختلف الأعراض عن الطاعون وَالسُّلِّ والكوليرا، يجهل الجميع مصدره …تنوعت الأخبار وراجت الإشاعات. كان الانطباع الأول خاطئا بعد أن كان شبه يقين وزاد من حيرة الناس حين أعلن الراديو بأن أغلب مدن البلاد أصابها مرض أطلق عليه عامة الشعب اعتباطا “مرض “بوركابي” وبأن ماء الشرب ليس مسؤولا عن ذلك.

لم يسلم بيت إلا وفيه مقعد هَدَّهُ المرض أو أكثر، إلا القلة منهم ولأمر غير مفهوم. ارتفع عدد الموتى في القرية وفي غيرها من المدن بنسب متفاوتة…

لم تنفع وصفات النباتات الطبية في رد المرض أو الشفاء منه، ولم ينفع أي علاج ولا أي دواء من الحد من سريان المرض في جسد المصابين. تصلبت الشرايين وخمدت الحركة وطال الانتظار دون جدوى.

الحيرة والخوف وحدهما كانا عملة التداول تلك الايام العصيبة، تسقط الضحايا تباعا وتختلف الانباء من يوم الى آخر…اسابيع كاملة كانت كافية لان تزرع الرعب وسط الجميع، وصار الايمان بالنهاية يقينا لا مفر منه. فشد الناس الرحال إلى مدن أخرى يبتغون العلاج أو تجنب العدوى، أو حتى اتقاء لعنة نزلت بهذا البلد على ناس بسطاء لم يسمح لهم شظف العيش وبؤس الحياة حتى بارتكاب حماقات قد تستحق عقوبة الله وغضبه.

ما ألم بهم للحظة هو نفس الكابوس الذي حل بالريف سنوات خلت فيما عرف ب “عام البون” حيث جاءت المجاعة والطاعون على الأخضر واليابس فهلك من هلك وفر من فر إلى مدن أخرى، وفيهم من أرغمته نخوته وعزته المعروفة لدى سكان الريف على عدم تحمل المهانة بالتعاطي للتسول وتعريض ذويه للمخاطر ففضل رفع ابواب المنازل من الداخل والموت جماعة مع ذويه حفاظا على كرامته.

الأمر يختلف هذه المرة، “فبوركابي” لا يسعف حتى على الحركة او التنقل وكأن القدر هذه المرة أبى إلا ان يصيب في هذا المكان وينتهي الجميع هنا دون قدرة على تغيير الوجهة.

في صبيحة يوم السوق الأسبوعي، تناهى الى سمع جميع الاحياء بان مناديا قد امر جميع السكان بالكف عن استهلاك زيت الغزال واتلاف ما تبقى منها في المخازن والمطابخ ومنع بيعها وشرائها.  

لم يفهموا اول الأمر مراد السلطات من هذا النداء، لكن الأمر سرعان ما اتضح ولاح جليا فيما كان يردده صوت المذياع الذي تجمع حوله الجميع وهم ينصتون فقيه الحي يترجم بالريفية نشرة الأخبار العربية:

…”وقد تبين أن الاسباب الحقيقية لمرض بوركابي هو استهلاك زيوت طعام فاسدة معروفة تحت علامة الغزال.

وقد كان وراء هذه الكارثة الغذائية التي لم يسبق للمملكة الشريفة أن عرفتها مجموعة من المجرمين وعديمي الضمائر الذين عمدوا إلى الاستحواذ بطرق ملتبسة على ما خلفته القوات الامريكية التي رحلت من قواعدها العسكرية بسيدي يحيى الغرب والنواصر وسيدي سليمان من الاف الاطنان من زيوت ومواد كيميائية تستعمل لصيانة محركات الطائرات، استولت عليها جهات غير معلومة حتى الآن، وخلطتها بزيت الطهي لتبيعها بثمن زهيد تسهيلا لترويجها.

وبعد ان التجأت السلطات المغربية الى الاستعانة بمنظمة الصحة العالمية في تحديد نوع الوباء الذي عم ارجاء المملكة الشريفة، اتضح بعد تحليلات مختبرية دقيقة بان الزيت المعروف بعلامة الغزال تم دمجه ب 67% من زيوت محركات الطائرة و33 % فقط من الزيوت الاستهلاكية.

وقد تبين ان هذه المواد السامة تؤدي الى الشلل، وفي حالات كثيرة الى الموت.

وقد اتخذت السلطات المعنية التدابير اللازمة لإيقاف المجرمين وتقديمهم للعدالة، بينما لازال سحب المنتوج المعني بالأمر من الاسواق جاريا في كل المدن المغربية”.

 سمع الناس الخبر بإمعان، فتهاوى هذه المرة ما تبقى من أمل في الشفاء أو حتى في حياة عادية.

 

 

مقالات من نفس القسم