عاطف محمد عبد المجيد
في حَيِّ بولاق الدكرور أو في الصين الشعبية، كما يُطْلقُ عليْها، وُلِدَ الكاتبُ الروائيُّ خيري عبد الجواد في الرابعِ والعشرين مِنْ شهر يوليه مِنْ العامِ ألف وتسعمائةٍ وستينْ. بدأ مشوارَ الكتابةِ وهو على أعتابِ عامه العاشر وكان ذلك في مَطْلعِ الحقبة السبعينية من القرن الماضي.
شيء غريب
كان خيري عبد الجواد يُدْمنُ قراءةَ القصص البوليسية والألغاز في ذلك الوقت، وحتى آخر أنفاس حياته كما قال، ولهذا فقد كانت أول قصة يكتبها هي قصة بوليسية مُتأثرًا فيها بالطبع بما قرأ. وظلَّ طوال حياته مُولعًا بالقصص البوليسية لِمَا تتمتع به من مُتعةٍ خاصةٍ لا تتوفر في أجناس أخرى من الكتابة. غير أنَّ بداية خيري عبد الجواد الحقيقية كانت مُصاحبةً لنَشْرِ أول قصةٍ له في شهر أكتوبر من العام (1980) وكانت في مجلة الجديد التى كان يشرف عليها آنذاك الناقد الكبير د. رشاد رشدي. وما بين أول قصةٍ منشورةٍ ونَشْرِ أول مجموعة قصصية نُشرتْ لخيري عبد الجواد ثلاثون قصة في الصحف والمجلات غير أنه لمْ يخترْ قصةً واحدةً من بين تلك القصص لتكون ضمن قصص مجموعته الأولى وهذا ما كان يصفه هو بالشيء الغريب. كانت أولى مجموعاته القصصية التي صدرتْ في العام (1987) تحت عنوان: حكايات الديب رماح.
ثقافةٌ عشوائيةٌ
في حي بولاق الدكرور ولد خيري عبد الجواد وعاش الجزء الأكبر من حياته مُتشبِّعًا بالبشر وبما يحملون داخلهم من ثقافات شعبية مختلفة ومتباينة ينتمي بعضها إلى مدن الجنوب / الصعيد المصري، فيما ينتسب بعضها الآخر إلى مدن الشمال والدلتا، وتأتي ثقافة العاصمة بينهما. لقد رضع خيري عبد الجواد، كما كان يقول يرحمه الله، من هذه الثقافة العشوائية، بتعبيره، وعَبّرَ عنها في كل كتاباته، حتى إنَّ الناقد إدوارد الخراط تساءل في الدراسة التي قدّم بها كتاب خيري الأول قائلًا: هل هذه الكتابة حكايات شعبية أم قصص حداثية؟
وانتهى إلى أنَّ ما يكتبه خيري عبد الجواد هو قصص حداثية تنهل من بئر الخرافات الشعبية.
تقنيات تراثية
لم يكن خيري عبد الجواد، يرحمه الله، يعتبر نفسه مثقفًا يكتب عن هذه الطبقة الشعبية التي ولد وعاش بين أهلها، بل كان يُعدُّ نفسه ابنًا لها. لقد تطوَّر وعي خيري عبد الجواد بهذه الثقافة الشعبية منذ صدور مجموعته القصصية الثانية ” حرب أطاليا “، فراح يُكْملُ تِجْواله مُتنزِّهًا بين ألف ليلة وليلة والسِّيَرِ الشعبية وحكايات الجان وكتب السحر وأهازيج الأطفال وكتب الأخبار والرحالة العرب والأساطير سواء أكانت شفهية أم كانت مكتوبة والتراث المحكي العربي. وقد وجد في كل هذا بعض الأشكال والتقنيات التراثية القديمة التي تصلح لإثارة الدهشة في هذه الأيام.
بورخيس العربي
في روايته الأولى ” كتاب التوهمات ” استخدم خيري عبد الجواد شكل التوهم الذي استخدمه الحارث المحاسبي وهو متصوف عاش في القرن الثالث الهجري. وطَوَّعَ خيري هذا الشكل التراثي القديم ليتماشى مع شروط الحداثة كما كان يفهمها ويستوعب مفرداتها. وبعد صدور روايته العاشق والمعشوق، والتي ترجمت إلى اللغة الفرنسية، وفي مقال بعنوان بورخيس العربي نشرته له بالفرنسية مجلة دراسات فلسطينية التي تصدر من باريس، كتب الكاتب الأسباني ” خوان غويتسولو ” مقارنًا بين كتابات خيري عبد الجواد وكتابات الكاتب الأرجنتيي الكبير ” خورخي لويس بورخيس “، كتب يقول: عَبْرَ استخدام كل منهما لطرائق المحكي في الليالي العربية، موروث موغل في القدم ومُحَمَّلٌ بحكمة الآباء والأجداد، وهو على الرغم من قِدَمِهِ يحمل روح المعاصرة في آن.
مذاق خاص
لقد حاول خيري عبد الجواد أنْ تكون كتابته جادة ولا تقلّد كتابات الآخرين، غير أنها كتابة مسكونة بما ومَنْ سبقها. كذلك لمْ يكن يَدَّعي الريادة في هذا السياق وإنْ كان أحقَّ بها من غيره، لكنه كان يسعى إلى الوصول عبر طرائق من الحكي الواعي إلى البسطاء من الناس الذين كان يكتب عنهم ولهم. فعليَّاً كانت كتابات خيري عبد الجواد كتاباتٍ مختلفة ذات مذاق خاص، لا ينازعه في مجالها كثيرون، بل قليلون هم مَنْ كتبوا منطلقين مِنْ تلك البقعة التراثية في الموروث الشعبي العربي.
محاورات الموت
في مقدمته للطبعة الثالثة لرواية خيري عبد الجواد ” العاشق والمعشوق ” والتي صدرت بعد رحيله عن دار نهضة مصر، كتب الأديب سعد القرش يقول: خيري لم يرهب الموت وإنما حاوره طويلًا و ” تَوَهَّمَ ” أنه انتصر عليه فإذا هو يباغته إنهاءً لمحاوراتٍ أثمرتْ نحو عشرة أعمال ترشحه لأن يظل الأكثر غزارةً في أبناء هذا الجيل. يكاد الموت يكون الوتد الذي أقام عليه خيمة الكتابة.
مصير المكتبة
قبل رحيله بعامٍ تقريبًا نشَر خيري عبد الجواد عدة مقالات يتساءلُ فيها عن مصير مكتبته بعد رحيله، ” ولمَنْ لمْ يَرَ مكتبة خيري هي عبارة عن أكوام متكدسة من الكتب لا حصر لها “، وماذا سيفعل بها أبناؤه، هل سيحافظون على ما فيها من كتب كانت بالنسبة له الأنيس والصديق؟ أم سيقومون، بمجرد رحيله، ببيعها لبائعي الروبابيكيا والكتب القديمة؟ أم سيُلقونها في براميل القمامة للتخلص منها، لا سيما وهي تشاركهم البيت بل قلْ تزاحمهم فيه؟
الآن مَرَّت أعوام على رحيلكَ يا خيري، ولا أحد يدري ماذا فعل أبناؤك بمكتبتك؟ لكني أُطْمئنكَ، فمثلُكَ لا يُنْجبُ مَنْ لا يصون ميراث أبيه بعد رحيله.
لم تنشر بعد
في ديسمبر من العام (2006) نظَّم مُخْتبر السرديات في المغرب مؤتمرًا، كتب خيري عبد الجواد شهادة أُلْقيتْ نيابةً عنه كان فيها: هذا زمن القابض فيه على حكاياته كالقابض على الجمر. وفي لبنان كتب الدكتور ﭼورچ جحا دراسة عن رواية خيري ” كيد النسا ” ونشرتْ في رويترز في مارس من عام 2006 ونقلتها صحف ومواقع إليكترونية كثيرة. أما هنا في مصر فقد كتب أحد النقاد دراسة عنها وأرسلها إلى مطبوعة يديرها صديق قديم لخيري لكنها لم تنشر بعدُ والعُهْدة على الراوي سعد القرش.
إلى الأبد
لقد ترك خيري عبد الجواد قبل أن يرحل في يناير من العام 2008 عددًا من المجموعات القصصية والروايات التي تجعل منه واحدًا من كبار الروائيين المصريين والعرب، رغم رحيله قبل أن يتم عامه الخمسين، غير أن النقد لم يلتفت إليه كما ينبغي، ويبدو أن هذا هو حظ ونصيب الكبار الذين يتجاهلهم الجميع في حياتهم، وبشكل متعمد ولا يُلْتفت إليهم ولا إلى كتاباتهم إلا بعد ذهابهم إلى العالم الآخر، وربما لا يلتفت إليهم أبدًا.
نعم..ها هو خيري عبد الجواد قد رحل منذ سنين، فهل سينتبه النقاد إلى ما ترك أم سيواصلون رحلة التعتيم على أعماله لمصلحة كتابات تافهة لا تستأهل أن يستخدم الورق الذي كُتبت عليه كقراطيس لِلَف الطعمية أو سواها؟