بلاغَةُ الحيَاةِ المعِيشَةِ في ديوانِ: كُرسيَّان مُتقابِلانِ لعلاء خالد

شريف رزق: الدولة المصرية غير معنية بالثقافة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

شريف رزق

يتشكَّلُ المتنُ الشِّعريُّ في هَذَا القصيدِ، مِنْ قِسْمَيْنِ ؛ القسْم الأوَّل – وهو الأكبرُ حَجْمًا – عنوانُهُ : جِيرَةٌ دَافِئةٌ ، وَالثَّاني عنوانُهُ :سَنَواتِي الجَمِيلَة . في الأوَّلِ يَرْصُدُ الشَّاعرُ حَيَوَاتِ المقرَّبينَ مِنْهُ ، وَالمتَفاعِليْنَ مَعَهُ ، في المشْهَدِ المعِيشِ . في الأوَّلِ تُهيمِنُ جَمَاليَّاتِ المشْهَدِ السَّرديِّ البَصَريِّ ، وفي الثَّاني تُهيمِنُ جَمَاليَّاتُ الشَّخصانيَّةِ وَالغنائيَّةِ .

وَتكشِفُ النُّصوصُّ مُجتَمِعَةً عنْ ملامحِ الحَيَاةِ المصْريَّةِ لبُسَطاءِ المصْريِّينَ الكادِحِينَ ؛ الَّذينَ يُواجِهونَ قَسْوَةَ الحيَاةِ وَالأمْرَاضِ المفترسَةِ ، كَمَا تكشِفُ عَنْ مجموعَةٍ مِنْ الخَصَائصِ البنائيَّةِ ؛ الَّتي تأسَّسَتْ بهَا بِنيَةُ الخِطابِ الشِّعريِّ ، وَتتمثَّلُ في :

     – 1 –

وَفْرَة ُالحضورِ الإنسَانيِّ

تكشِفُ نصوصُ هذَا القصيدِ ، عَنْ نزوعٍ واضِحٍ إلى كتابَةٍ شِعريَّةٍ نابضَةٍ ، حَيَّةٍ ، تستمِدُّ نَبْضَهَا ، وَحَياتَهَا منْ سَرديَّاتِ الحَيَاةِ المعِيشَةِ ، وَوَقائِعِهَا ، وَتفاصِيلِهَا الحَياتيَّةِ ، وَناسِهَا الحَقيقيِّنَ ، وَبِخَاصَّةٍ البُسَطاء مِنْهُمْ ، في مَوَاقِفَ إنسَانيَّةٍ حيَّةٍ ، شديدَةِ الدَّلالةِ ؛ فبالإضَافَةِ إلى اسْتِبطانِ الأنا الشَّاعرَةِ عَوَالمَهَا الدَّاخليَّةَ ، وتاريخَهَا الشَّخصِيَّ ، تجنَحُ أكْثرَ إلى رَصْدِ حَيَوَاتِ بُسَطاءِ النَّاسِ ، وَالمهمَّشِينَ مِنْهُمْ على وَجْهِ الخُصوصِ؛ كَالخَادمَاتِ ، وَالبوَّابِ ، وَالكُمسَاري (زميلِ الطُّفولةِ) ، وَسَائقِ التَّاكسِي ، وَالكَوَّاءِ ، وَرَصْدِ مُعَاناتِهِمْ اليوميَّةَ المعِيشَةَ ، وَمُعَاناتِهِمْ الأشَدّ أمَامَ جبروتِ الأمْرَاضِ الضَّاريَةِ، رَصْدًا دقيقًا وَدَالاًّ ، وَتحويلِ المعِيشِ إلى لوحاتٍ سرديَّةٍ شديدةِ الدِّقةِ ، في خِطابٍ شِعريٍّ دَالٍّ ؛ فَعَنْ البَوَّابِ يذكرُ أنَّهُ :

” كانَ يعملُ بوَّابًا لإحْدَى العِمَارَاتِ المجاورَةِ

 يقطعُ كلَّ يومٍ مَاراتونات ضَاحِكةً لِلْعَيشِ وَالخضَارِ

بجانبي كانَتْ هُناكَ محطَّةٌ ظليلةٌ  ؛

 مجموعةٌ مِنْ القُللِ علَّقَها جَاري لِعَابري السَّبيلِ

 

لايستطعمُ بأيِّ ماءٍ

إلا بهذَا الماءِ الجمَاعيِّ .

 دَائمًا أحذيتُهُ تفوقُ قدمَهُ عُمْرًا وَطُولا .

 لِسَيرِهِ صَوْتٌ خَشِنٌ  ،

وَلكنَّ هَذِهِ الغفوة في القدَمِ

 هيَ أكثرُ مَاتُشعرُني بطيبتِهِ  ،

 هِيَ وغفوة في لسَانِهِ

 يتكلَّمُ فتهرَبُ الحروفُ بغيرِ رَجْعَةٍ .

 

في إحْدَى المرَّاتِ ، أشَارَ إلى جُزءٍ منْ سبَّابتِهِ

 وَأخْبَرَني بأنَّ حبَّةً بحجْمِ الفاصُوليا

 نبتتْ في رأسِ زوجتِهِ . أعَادَ عليَّ مَا أخبرَهُ به الطَّبيبُ .

 الطَّبيبُ أيضًا كانَ يرى الحقولَ

 الَّتي يحتفِظُ بها في يدِهِ وتحتَ أظافرِهِ .

 

 أثناءَ مرورِهِ ، أستوقِفُهُ

وَأسْألُهُ عنْ مَصِيرِ حبَّةِ الفاصُوليا .

يهزُّ يدَهُ يمينًا ويَسَارًا

كقاربٍ مَنْسِيٍّ وَسْطَ المياهِ .

يده المرتعِشَة كانَتْ أكثرَ حِكْمَةً .

 

منْ سَيرِهِ بَدَأتُ أحْدسُ بمصيرِ تلكَ الحبَّةِ ،

أحْيانًا أسْتوقِفُهُ

أحْيانًا أتركُهُ يُكمِلُ رحْلَةَ الجمْعِ وَالطَّرحِ إلى البيتِ .

 

وَلكنْ في كلِّ الأحْيَانِ

لم ييأسْ منْ حُبِّهِ للمِيَاهِ وَالظِّلِّ .

صَارَ سُؤالي محطَّةً لي أيضًا

شُهورٌ وَالقاربُ يمتلىءُ بالمياهِ

 تميلُ اليدُ إلى ناحِيَةٍ وَاحِدَةٍ .

 

في يومٍ أزْهَرَتْ حَبَّةُ الفاصُوليا

 وَعَادَ برأسِ زوجتِهِ إلى موطِنِهَا في الحقولِ . ” (1)      

      – 2 –

 التَّركيزُ على المَعيشِ الحياتيِّ اليومِيِّ  

إنَّ المُتاحَ اليومِيَّ القريبَ هو الأساسُ الَّذي تُشيَّدُ عليه بنيَةُ الخِطابِ ، منْ سَرديَّاتِ الحياةِ المَعِيشَةِ وشخوصِهَا ، بحيواتِهِمْ الخاصَّةِ ، وثمَّةَ تفاعلٌ واضِحٌ بينَ عناصِرِ المكانِ وَحيواتِ الشُّخوصِ ، وَثمَّةَ اهتمامٌ واضِحٌ بالبُسَطاءِ وَالمُهمَّشينَ ، وَالكَشْف عَنْ إنْسَانيتِهِمْ ، وَمُعَاناتِهِمْ اليوميَّةِ ، وَمَآسيهِمْ ؛ تذكُرُ الذَّاتُ الشَّاعرَةُ عَنْ الكَوَّاءِ الجَارِ :

” جاري في المحلِّ المجاورِ ، لا يثقُ إلا في أناقةِ النَّارِ . يرفعُ المكواةَ قرب خدِّهِ ؛ ليجسَّ حرارتِهَا . طوالَ عِشْرتَي له ، لم أجدْ أحدًا يقتربُ منه إلى هذا الحدِّ ، إلا المِكْوَاة .

لا يتحمَّل ُالحبَّ إلا إذا تركَ علامةً على جِلْدِه ِ.

عندما مرضَتْ زوجتُهُ ، خَشِيَ أنْ يجتمعَ بملاكِ الموتِ في غُرفةٍ واحدة ٍ، فكانَ يلوذُ بدكَّانِهِ ليبكيَ داخِله . أسبوعٌ كاملٌ وهو يضعُ تلكَ اللافتةِ  ” مغلقٌ للصَّلاةِ  ” .

 لأبناءِ الحيِّ الرَّاقي ، لأرستقراطيَّةٍ عاشَ بينها كنباتٍ غيرِ مرئيٍّ ، كانَ ينحني ، وهو يفتحُ بابَ العربةِ ، ويدهُ اليُسْرَى خلفَ ظهرِهِ ، وميلٌ طفيفٌ في رأسِهِ ، كأنَّها سِنَةٌ منْ النَّومِ ؛ ليأخذَ صرَّةَ الهدومِ .

أقفُ بجوارهِ ِأشاهِدُ فيلمًا من الخمسينيَّاتِ ، وفي يدِهِ الخاشِعةِ خلفَ ظهرِهِ ، أتخيَّلُ خِنْجرَ أطْفالٍ منْ البلاسِتيكِ .

أيَّةُ مرارَة ٍكانتْ خُدْعَةً .

أيَّةُ صُرَّةٍ منْ الأسَى ، كانَ يُثقِبُهَا سريعًا بكوبٍ ثقيلٍ منْ الشَّاي .

كلُّ زبونٍ يأتي له بالمِكْوَاةِ ، يحدِّدُ له ميعادًا دقيقًا في اليوم التَّالي ، كأنَّهُ يحملُ في رأسِهِ مُفكِّرةَ طبيبٍ . في الغالبِ ينسى ، ولكنَّهَا كرامةُ المهنةِ ، فرصتُهُ الوحيدةُ ليمدَّ خيطَ الكلام ِ، لِيُخلِفَ وعدًا ، ثمَّ يعودُ سريعًا ليُصَحِّحَهُ .

لم يتخلَّ يومًا عن كلمةِ ” أستاذٍ ”  التي يُناديني بهَا . لا يسهو أبدًا عن الجارِ الفاصِلِ بيننا ، البحث عنْ سببٍ ما لينقرَ ثقبًا ، ليرشقَ مِسْمَارًا ، يزيدُهُ تعلُّقًا بهذَا الجدارِ .

لم يتخلَّ يومًا أنْ يكونَ دكَّانه محطةً للمياهِ والطَّعامِ والاسْتراحَةِ لكلِّ بسطاءِ الحيِّ ؛ أولئكِ الذين يعقدونَ حِلفًا فِطريًّا معَ اللهِ .

 ربَّما فقدتُ أصدقاء كثيرينَ ، ولكنِّي اكتسبتُ صديقًا ، في وقتٍ اعتقدتُ فيْهِ أنَّ الشَّارعَ هو منزلُ الفُرقَاءِ . ” (2)

  – 3  –

تذويتُ الخِطابِ الشِّعريِّ

لِلذَّاتِ حضورٌ وافرٌ ، يتبدَّى في التَّوسُّعِ في تاريخِهَا الشَّخصِيِّ ، وَالجَسَدانيِّ ، وَالرُّوحِيِّ ، في أدَاءٍ اسْتِبطانيٍّ وَبَصَريٍّ كثيفٍ ،ينفتِحُ على التَّاريخِ الشَّخصِيِّ السِّيَريِّ ، بأداءٍ يجنحُ إلى الحياديَّةِ وَيَتَخَفَّفُ منْ الهِيَاجِ العَاطِفيِّ ، كَمَا في قولِهِ :

 ” أعيشُ على ذِكْرَى مَكانٍ آخرٍ وُلدْتُ بهِ ، وُلدْتُ بدمشقَ في الفَجْرِ ، كانَ أبي مبعوثًا هُناكَ ، وفي شَهادَةِ مِيلادي كلمَةٌ غريبَةٌ ؛ وَهِيَ ” الإقليمُ الشَّماليُّ ” ، لاأذكرُ أيَّةَ تفاصِيلَ عَنْ هَذَا المكانِ ، وَلكنْ رُبما رائحةُ جليدٍ يصعَدُ الجبَلَ ، هَكَذَا حَكَتْ لي أمِّي ، أنَّ يومَ مِيلادي صَادَفَ تكاثُر َالجليدِ فوقَ الجبلِ  . ” (3)       

وَأحْيَانًا يأتي اسْتدِعَاءُ التَّاريخِ الشَّخصِيِّ ، عنْ طريقِ آليَّةِ التَّذكُّرِ ، عَبْرَ سَرْدٍ بَصَريٍّ مَشْهَدِيٍّ دالٍّ ، كَمَا في قولِِهِ :

 ”  على فتراتٍ مُتباعِدَةٍ ،

أتذكَّرُ أبي

في كلِّ تذكُّرٍ ،

أقِفُ بجانبِهِ ، خَلْفَ نافذَةٍ

 خفيفيْنِ مِنْ رَابطَةِ الأبوَّةِ وَالبنوَّةِ ،

 مِنْ جاذبيَّةِ الحيَاةِ .

كاثْنينِ التقيَا صُدْفَةً

 وَتحاشَيَا طويلاً أنْ تصْطدِمَ عيناهُمَا .

 في كلٍّ مِنْهُمَا ،

 مِقدَارُ حبَّةٍ بيضَاءَ منْ العتابِ . ” (4) 

وترصُدُ الذَّاتُ ذاتَهَا المشخصَنَةَ في السَّردِ الشِّعريِّ ، رَصْدًا بَصَريًّا يكشِفُ تأمُّلَهَا وَسَهوَهَا وَعُزْلَتَهَا وَاسْتِقْصَاءَها عوالمَ الذِّكرى ، عَبْرَ تفاصِيلَ دَالةٍ ، تكشِفُ عَنْ الحُضورِ الذَّاتيِّ الكثيفِ ، في بنيَةِ المشْهَدِ الدَّالِ ، كما في قوله :

” أثْنَاءَ تناولي لوجبتي

 أرْفَعُ السِّكينَ أمَامِي وَأسْهُو ،

 كشَاهِدٍ على الاعتذارَاتِ .

على تلكَ الحافَّةِ المضِيئَةِ

 تُولَدُ الذِّكرياتُ

 وتموتُ .

 على تلكَ الحافَّةِ ، تنشطرُ قِطَعُ الطَّعامِ

 إلى أجْزَاءَ مُتناهِيَةٍ في الصِّغَرِ

 أسِيرُ وَرَاءَ ذاكرتِي

 كقفَّاءِ أثرٍ

 كراعٍ رَحِيْمٍ . ” (5)  

     – 4 –

 بناءُ النَّصِّ الشِّعريِّ بناءً سَرديًّا حِكائيًّا خَالِصًا  

 الشِّعرُ ، هُنا ، قصٌّ خالِصٌ ، يعتمدُ شتَّى آليَّاتِ القصِّ الحكائيِّ ، في إقامَةِ البنيَةِ السَّرديَّةِ لِلْخِطابِ الشِّعريِّ ، بمَا يكشِفُ عنْ وَعْي وَاضِحٍ بأدوارِ السَّاردِ ، وَالمنظورِ ، وَالتقاط التَّفاصِيلِ الصَّغيرَةِ الدَّالةِ ، وَبناء السَّردِ الشِّعريِّ ، بناءً  مُحْكَمًا وَدقيقًا وَمُكثَّفًا ، مَعَ تركيزٍ واضِحٍ على العناصِرِ البَصَريَّةِ ، في بناءِ المشْهَدِ السَّرديِّ ، في نبرةٍ شعريَّةٍ باطنيَّةٍ خافتةٍ ومُحَايدَةٍ  ، كَمَا في قولِهِ :

 ”  كنتُ أرى السَّعادة َفي غرفةِ المطبخِ لبيتِ صَديقي . الأجسَاد الكثيرة التي تروح ُوتجيءُ ، الصَّدمات المتكرِّرة بدون اعتذاراتٍ أو انتظار لها ، برطمانات المخلِّل والأطعمة الحرِّيفة ، أرغفة الخبز الرَّقيقة . كلّ وجبة ٍكانتْ احتفالا ، بالخيطِ الذي يربطُ بينهم ، بالطَّعامِ ، بالكلامِ المهمِّ والفارغِ ، بالثَّرثرةِ .

 سورٌ واحدٌ كانَ يفصلُ بيننا ، في نهاية اليوم كنتُ أتسمَّعُ منْ غرفتي لصوتِ أخته الرَّخيم ، وهيَ تغسلُ الصُّحونَ  وتغني حافيةً ، كانتْ تحبُّ عبدَ الحليمِ ونجاة وأم ّكلثوم ، تحاولُ أنْ تُظهرُ جذوة َالنَّارِ التي تسكنُ خلفَ أصواتِهِم ْ.

انقطعَ حبلُ الغناءِ في بيتِ صَديقي ، ماتَ الأبُ وعبدُ الحليمِ حافظ وأمّ كلثوم . تزوَّجتْ البناتُ وأخذنَ لبيوتهنَّ حرارةَ الغناءِ في السِّينيَّاتِ . تزوَّج َصديقي وأنجبَ ، أصبحَ مُدمنًا لميراثِ البيتِ منْ الأغاني العاطفيَّةِ . اختارَ عملاً مناسِبًا ، يُتيحُ له أنْ يُؤجِّلَ عودتَهُ للبيتِ . اشْتَرَى تاكسيًا بمسجِّلٍ يابانيٍّ ، وأطلقَ لحيتَهُ ، يدورُ في الشَّوارعِ وَالأحياءِ الشَّعبيَّةِ ، ينحني للرِّزقِ ، ولَلبيوتِ التي يتصاعدُ منها الغناءُ القديمِ ؟. ” (6)  

            

    – 5 –

تحويلُ الذِّكرى إلى واقعٍ مَعِيشٍ ، وَالواقعِ المعَيشِ إلى ذِكْرَى

المشْهَدُ المعَيشُ ، في الغَالبِ ، في حَالةِ تهديدٍ بالفقدِ ؛ وَلذلكَ ثمَّةَ سَعيٌ دائمٌ لرصْدِهِ ، رَصْدًا دقيقًا ، وَتعكِسُ زوايَا الرُّؤى نستولجيا وَاضِحَةً ، وثمَّةَ شعورٌ بالأسَى وَالألمِ يُحِيطُ بالأشْيَاءِ ، وَبِالمواقِفِ الحَياتيَّةِ المعِيشَةِ ، وَبالنَّبرَةِ الشِّعريَّةِ ، وَبالتَّذكُّرِ يتحوَّلُ الماضِي إلى حَاضِرٍ ؛ تتجسَّدُ فيْهِ التَّفاصِيلُ الحياتيَّةُ الحيَّةُ ، لاتكادُ الذَّاتُ الشَّاعرَةُ تشرعُ في التَّذكُّرِ حتَّى يتجسَّدَ الماضِي ، عَبْرَ التَّحوُّلِ مِنْ صِيغَةِ الماضِي إلى المضَارَعَةِ :

                              – ” كَانَ يعملُ بوَّابًا لإحْدَى العِمَارَاتِ المُجَاورةِ

                                   يقطع كل يوم ماراتونات ضاحكة للعيش والخضار. “(7)    

–  ”  كنتُ أرى السَّعادة َفي غرفةِ المطبخِ لبيتِ صَديقي . الأجسَاد الكثيرة التي تروحُ وتجيءُ ، الصَّدمات المتكرِّرة بدون اعتذاراتٍ أو انتظار لها ، برطمانات المخلِّل والأطعمة الحرِّيفة ، أرغفة الخبز الرَّقيقة . كلّ وجبة ٍكانتْ احتفالا ، بالخيطِ الذي يربطُ بينهم ، بالطَّعامِ ، بالكلامِ المهمِّ والفارغِ ، بالثَّرثرةِ .” (8)   

– ”  أتذكَّرُ اليومَ السَّابقَ لِسَفركِ ،

كانتْ قدمَاكِ مُتشبِّثتينِ بالأرضِ ،

كلُّ حركةٍ تقومينَ بها ،

بطيئةٌ وتنكسرُ ويضيعُ صَدَاهَا . ” (9)

وقد تآزرتْ هذهِ الآليَّاتُ ،  في إنجازِ خِطابٍ شعريٍّ ، يُركِّزُ على شِعريَّةِ الحياةِ اليوميَّةِ المعيشَةِ ، وَرَصْدِ تفاصِيلهَا الحيَّة ، وأشخاصهَا الحقيقيِّنَ ؛ بحضورهم الإنسانيِّ والمعيشِ الخاصِّ ؛ حيث تتبجَّسُ الدَّلالةُ الشِّعريَّةُ منْ حَدثيَّةِ المشْهَدِ السَّرديِّ البَصَريِّ المعيشِ ، وكثافَةِ الحُضورِ الإنسَانيِّ الحميمِ ، ووقائعَ مصريَّةٍ خالصَةٍ ، تمنحُ النَّصَّ الشِّعريَّ إنسانيَّتَهُ ، ومرجعِيَّتَهُ الاجتماعيَّةَ الآنيةَ معًا .

ــــــــــــــــــــــــــــ

 الهوامش :

 – 1 – علاء خالد –  كُرسيَّانِ مُتقابلانِ – دار شرقيَّات – القاهرة – 2006 – ص ص :11

      – 12 .             

 – 2 –  السَّابق – ص : 15 – 16 – 19- 20 .

 – 3 – السَّابق – ص : 63 .

 – 4 – السَّابق – ص : 67 .

 – 5 – السابق –  ص : 79 .

 – 6 –  السَّابق – ص ص : 29 – 30 .

– 7 – السَّابق – ص : 11 .

– 8 – السَّابق – ص : 29 .

– 9 –  السَّابق – ص : 37 .

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم