إجابة عبثية على جريمة بشعة وبلا مبرر حقيقى لارتكابها، ويبدو أن الحياة تحمل قدرا من العبثية يجعلها عصية على الفهم أو وضعها أمورها فى قالب منطقى، وتحمل كتابات كامو دائما أسئلة وجودية تبحث عن أجوبة، حول الإنسان وقدره فى الحياة
فى فيلم “بعيدا عن الناس – 2014” للمخرج الفرنسى دافيد أولهوفن، وسيناريو “انتوين لاكومبليز”، والمأخوذ عن قصة قصيرة لألبير كامو بعنوان “الضيف” من مجموعته القصصية “المنفى والملكوت”، يتم تجسيد عالم “كامو” والتعبير عنه بشكل دقيق، بل والتعبير عن “كامو” نفسه، حيث توجد نقاط تشابه بين “دارو” فى القصة وبين “كامو” فى الواقع، فكلاهما ولد فى الجزائر من أبوين عاشا ودفنا فيها، كما أنهما يعانيان من أزمة وجودية مع الحياة، وتتطابق وجهة نظرهما لأحداث الثورة الجزائرية وفكرة الاستعمار الفرنسى.
فى مشهد من الفيلم يقول “دارو” فى أسى معبرا عن أزمته الخاصة وأزمة جيل من الفرنسيين المولدين فى الجزائر، والذين يتكلمون اللغتين العربية والفرنسية، وبالتأكيد بمارسون تقاليد ثقافية واجتماعية مشتركة: ” الفرنسيون يعتبروننا عربا، والعرب يعتبروننا فرنسيين”، إنها أزمة الهوية التى عانى منها الكثيرون فى ذلك الوقت، وكان على الجميع “سواء الجزائريين أو الفرنسيين” الاختيار بين أحد طريقين لا ثالث لهما، إما الوقوف فى جانب فرنسا والاستعمار، أو فى جانب الثورة والجزائر، أما رفض العنف من كلا الجانبين والمطالبة بمنح الجزائريين حقوقهم فكان طريقا مرفوضا من الجميع، وهو ما اختاره بطل قصة كامو، ودفع ثمنه لدى كل الأطراف.
“دارو” والذى أدى دوره الممثل الأمريكى “فيجو مورتنسن”، شارك فى الحرب العالية الثانية، وخرج منها وهو يمتلك فلسفة خاصة به، اختار العزلة والبعد عن جحيم الإنسان، مكتفيا بالتدريس فى منطقة منعزلة فى الصحراء الجزائرية، بعيدا عن العمران والناس والصخب، مدرسة صغيرة تقع على هضبة صخرية تحيط بها قمم الجبال الشاهقة، المدرسة ذات الفصل الواحد هى أيضا مقر إقامة المدرس، بأتيها بعض التلاميذ القلائل للتعليم وللحصول على بعض الحبوب لمساعدة أهاليهم الفقراء، حياة تسير رتيبة مع دوران فصول السنة ودون أحداث تذكر، ولكن فجأة تتغير حياة “دارو” عندما يسلمه أحد أفراد الشرطة، شخصا عربيا ارتكب جريمة قتل، أدى دوره الممثل الفرنسى “رضا كاتب” ويطلب منه – طبقا للأوامر – تسليمه لقسم الشرطة فى البلدة المجاورة والتى تبعد مسيرة يوم، يعود “دارو” إذن الى ما قرر بإرادته الحرة الابتعاد عنه طوال السنوات الماضية، “الضيف العربى” محكوم عليه بالقتل وهو يدرك تماما المصير الذى ينتظره، فأبناء عمومته يطلبون الثأر منه، وتسليمه للشرطة يعنى صدور حكم بالإعدام عليه من قبل القضاء الفرنسى، الوضع الإنسانى البشع يتمثل أمام “كامو” فى كل الحالات، فالقانون سينفذ مهمته، سواء القانون الفرنسى أو قانون التقاليد والعرف فى الصحراء.
“بعيدا عن الناس” هو صراع بين الرغبة فى الحياة والموت، بين الوجود والفناء، إدانة صارخة لكل ما يفعله ويمارسه الإنسان على هذه الأرض تصرفات، فى رحلة الذهاب لتسليم “الضيف” يدخل “دارو” غصبا عنه فى خضم الحياة، ليجد نفسه فى قلب حرب لم يردها ولا يؤيدها، وهو ما يؤكد له أن رأيه الوجودى فى الحياة سليم تماما، ليقع هو وضيفه فى أيدى المجاهدين، والذين يقعون بدورهم فى كمين للقوات الفرنسية، وعندما يستسلم بعضهم يتم تصفيتهم، يدافع “دارو” بشدة عن قيمه فى مواجهة الضابط الفرنسى، قائلا له “قتلتم رجالا كانوا فى وضع الاستسلام”، لكنه لا يفهم أن قيم الحرب الأخلاقية انتهت، وحل مكانها نوعا جديدا من القيم التى لا تؤمن بالإنسان، فالقتل وإبادة الآخر ونفيه من الوجود هو السبيل الوحيد الذى تعرفه القوات الفرنسية، لذا ستكون إجابة الضابط عادية جدا بل ومستغربة طرح السؤال “أنها الأوامر”، ليكتشف “دارو” بشاعة ما يحدث فى الواقع، مصرا على أن يدفع ضيفه العربى نحو الهروب بعيدا عن هذا العالم والاستمتاع بكونه حيا، والهروب من الفرنسيين الذين سينفذون فيه حكم الإعدام، ومن بلدته وأبناء عمومته الذين سينفذون فيه حكم الثأر، فحياته بهذا الشكل عبثية، لأنه يهرب من الموت إلى الموت.
عبثية الموت فكرة موجودة فى كتابات “كامو” فعندما تتم محاصرة المدرسة من قبل أبناء عمومة العربى، يقاومهم “دارو” ويتسبب بدون قصد منه فى ارتكاب جريمة القتل، مجرد طلقة أراد إخافتهم بها ودفعهم للهروب بعيدا، لكنها أصابت الحصان الذى أخذ يحشرج متألما، وهو ما أثار غضب وحنق “دارو” وهو ينظر إليه فى أسى، ولا يملك وسيلة لتخفيف آلامه، قبل أن يطلق عليه رصاصة الرحمة، لكن القدر لا يكتف بذلك، بل يضعه مرة ثانية فى مواجهة موت عبثى آخر، عندما يمر بالقرب منهما وهم مختبئان فى الصحراءـ رجل عربى على حصانه، وعندما يشهر كلاهما السلاح فى وجه الآخر، يتجسد الخوف الإنسانى بكل قوته فيهما، وأثناء حركة متوترة من الحصان الذى شعر هو الآخر بالخوف، تجعل بندقية العربى تطلق رصاصة ليسقط صريعا، موت مجانى آخر وبلا هدف يتجسد أمام “دارو”، ليصرخ فى تابعه العربى وفى الوجود، متهما الخوف وعدم الشجاعة بالتسبب فى مقتل الغريب.
المكان فى “بعيدا عن الناس” مثل جزءا أساسيا من عناصر الفيلم، حيث أن تسعين بالمائة من مشاهده خارجية فى الصحراء، والجبال الصخرية، عالم آخر قاس، وسط أمطار ورياح شديدة البرودة، أقل خطأ فى الصحراء يعنى الانزلاق إلى المنحدرات والموت، فنسمع صوت الصخور الصغيرة تحت وطأة أقدامهما البطيئة التى تجاهد لمواصلة المسير والتقدم نحو البلدة، وينتقل بنا المخرج بين صحراء جردا بلا نبات، إلى قمم جبلية مغطاة بالخضرة، إنها الطبيعة المتنوعة التى تحتويها صحراء الجزائر، فاتنة بجمالها وتكوينها وانكسار ضوء الشمس عليها، وأيضا بقسوتها وغلظتها على من لا يفهم قوانينها ويجيد التعامل معها.
ملامح “رضا كاتب” العربية والتى تحمل بصمة وخطوط الصحراء، نجحت فى التعبير عن قلق وخوف الشخصية، والتى تسير نجو قدرها المحتوم بنوع من الاستسلام، لمعرفته بأنه مجرد شخص فقير فى عالم لا يقف إلى جانب البسطاء، ولا يملك حيلة لمواجهة القدر، معترفا لـ”دارو” “ومن قال لك أننى أمتلك الشجاعة؟”، واستطاع “كاتب” التعبير بنظرات عينيه الخائفة والحائرة، والتى تحاول فهم الأمور وما يدور من حولها، عن مكنون الشخصية، مظهرا ما يدور بداخله من صراع نفسى، خصوصا وأن حواره كان مجرد جملا قليلة.
أما “مورتسن” فاستطاع التعبير عن أزمات “دارو” وعلاقته الملتبسة مع الحياة، فاستطاع التعبير عن ذلك بملامح وجهه القلقة، رافضا الاستسلام للواقع مدافعا عما يراه صحيحا من وجهة نظره، وهو يدفع ضيفه العربى بكل السبل للهروب وترك العالم القادم منه إلى عالم آخر أكثر براحا، لا توجد به قوانين تحكم على الإنسان بالموت، ليضعه فى النهاية أمام مفترق طرق، وسط صحراء واسعة، طريق يؤدى إلى البلدة حيث ينتظره حكما بالإعدام، وطريق يؤدى إلى قلب الصحراء حيث يمكنه الالتحاق بإحدى القبائل ونسيان بلدته وأبناء عمومته والثأر، أما ” دارو” نفسه فيقرر أيضا مواصلة بعده عن الناس، ليعطى لتلاميذه الدرس الأخير قبل أن يعلن لهم أنه سيذهب إلى خارج البلاد، كلا من “كاتب ومورتسن” استطاع دراسة الشخصية جيدا وتقمصها والتعبير عنها بهدوء وبعيدا عن المبالغة أو الوقوع فى النمطية، محافظين على إيقاعها طوال الفيلم دون ترهل.
استطاع “بعيدا عن الناس” الوصول إلى فكر “كامو” والتعبير عنه فى صورة درامية، فـ”دارو” أو “كامو” يرفضان العنف من كلا الطرفين “الثوار والقوات الفرنسية”، لكن الانزلاق نحو الدم كان أسرع من قدرة “دارو” على الفهم، حيث يبدو الجميع مندفعا بسرعة نحو ممارسة فعل القتل، فأبناء عمومة العربى يسعون حثيثا لتلبية نداء الثأر، والمزارعون الفرنسيون فى البلدة القريبة من المدرسة يبحثون عن عربى ذبح خرافا لهم للانتقام منه، والثوار يسعون وراء الجنود الفرنسيين، أما قوات الاستعمار فتنصب الكمائن وتقتل من يستسلم فى انتهاك لكل الأعراف والقوانين، عالم محموم نحو العنف والذى ربما يبدو بعضه بلا دافع قوى، حالة التربص من الأخر تنتاب الجميع بلا استثناء، لكن “كامو” وكعادته لن يمنحنا إجابات عن أسئلته التى يطرحها فى كتاباته، لأنه ببساطة، كل إجابة لها هى نواة سؤال جديد، فنحن نسعى طوال رحلتنا فى الحياة الوصول لإجابة مريحة، وهو ما فعله “دارو” مقررا الرحيل بعيدا، ربما بعيدا عن الناس أو عن الحياة بأسرها.