سوسن الشريف
درجة الحرارة تتعدى الخامسة والأربعين، مضطرة أسير من المترو إلى حيث سأقابل صديقتي القادمة من خارج قارة القاهرة، تسكن في واحدة من ضواحي ٦ أكتوبر، تبدو وسط البلد المكان الأنسب لكل منا. كان من الصعب أستقل تاكسي وسط هذا الزحام المعتاد في ذلك الوقت. الساعة تتعدى الخامسة، ودرجة الحرارة لا يبدو أن لديها أية نية للتنازل ولو قليلًا لأجل الناس التي تسبح في العرق. البعض تبلد إحساسه وتحول لشخصٍ آلي، يسير مستسلمًا للحرارة، غائبًا عن الوعي، تتقاذفه الأجساد المهرولة من حوله، والبعض يسير مسرعًا، تتصبب قطرات العرق كشلال يتدفق من كل مكان بجسده، لعله يصل لمكان بارد، كمدخل عمارة من عمارات وسط البلد العتيقة، التي تنعم بجو معتدل طوال العام.
أخيرًا وصلت لمكان اللقاء، هاتفتها، أخبرتني أنها في الطريق المزدحم بلا نهاية، وكم هو خطأ فادح أن جاءت بسيارتها. مممم هذا الخبر يعني أنها ستقضي ساعة أخرى أو أكثر للبحث عن مكان للسيارة. اسوأ قرار يمكنك أخذه تأتي لوسط البلد بالسيارة، وبالطبع يتفهم سائقي التاكسي ذلك فيضاعفون عليك الأجرة، لذا عليك بالاختيارات الأقل سوء، الباص أو المترو.
ها هي مروحة كبيرة سأجلس أمامها، المكيف معطل بالمكان المغلق، ولا يوجد خيار أفضل من الجلوس بمكان مفتوح بجوار تلك العزيزة التي تصارع بجسارة وتوزع الهواء الساخن بالتساوي على الجميع. اخترت كالعادة أبعد منضدة للناس وأقربهم إلى المروحة، استظل بشجرة تمنحني من وقت لأخرة نسمة طيبة لطيفة. يجلس أمامي رجال وامرأة وفتاة كل منهما معها رفيق، من حيت لأخر يتلفت إلى الرجال سواء من هو جالس بمفرده، أو مع أصدقائه، أحدهم يدقق في وجهي مرسلًا بدعوة للمشاركة، وأخر يبتسم في سخرية واستعلاء، والمجموعة تصدر همهات فتصلني بوضوح عبارات ساخرة لإشفاقهم علي لتخلف من أنتظره عن الموعد، صار المكان مُثيرًا لحرارة الغضب أكثر من حرارة الجو.
واحد فقط لم يلتفت إلي إلا لحظة دخولي، رماني بنظرة لا مبالاة باردة محببة إلى النفس، إذن هذه البقعة من المكان التي استكنت إليها الأكثر أمانًا، وتمنحني فرصة للنظر بحرية أمامي بما أنه ولاني ظهره، فلن أرهق عيني بالتجول في كل مكان لتجنبه، كما أفعل مع الجالسين الأخرين. وفي خضم الهمسات والنظرات قام هذا الإنسان من مكانه، وتكشف الفراغ الذي تركه عن كوب ماء بارد، نعم بارد جدًا، يبدو هذا واضحًا بجمال من خلال قطرات المياه المكثفة على الجدار الزجاجي للكوب، كان النادل وضعه أمامه للتو، ولم يرتشف منه بعد. وكأن حلمك يتحقق أمامك، وما عليك إلا أن تأخذه بهدوء، كوب ماء نقي، مثلج في مثل هذه الأجواء، أي جنة هذه التي تجسدت على الأرض أمامك في لحظة، لكن انتظري هذا لا يخصك، إنه له ..
ظلت عيناي معلقة على كوب الماء أراقبه وأغزل فيه أبيات من الشعر بيني وبينه لا يسمعها أحد، اقضت فترة من الزمن وما زال كلانا وحيدًا، وانتهبت أنه وحيد.. يعني صاحبه رحل وتركه، يالا قلبه القاسي، أو لعله ممن يحبون الصيف، ويرفضون مثل هذه النعم اللطيفة، لا يبدو أنه سيعود. قمت بهدوء، غير مبالية بنظرات من حولي، تناولته ببطء يليق بجمال لحظات اللقاء، سالت المياه الباردة تروي وتنبت زهر عوضًا عن كل الصحراء التي خلفتها حرارة اليوم بأكمله. كان طعمه منعش ولذيذ، شعرت بكل قطرة تلامس روحي وتعيدها للحياة، حتى الزجاج البارد كان له لمسة سحرية على شفتاي، فصارا لونهما وردية كزهر الخوخ، مرطب الشفاه التي كنت أضعه بطعم النعناع منح المياه مذاقًا مختلفًا، وكأن الجو صار ربيعيًا فجأة.
صوت صديقتي أعادني من جنتي السحرية، فها هي قد وصلت أخيرًا، سعادتنا باللقاء بعد فترة طويلة، نشرت في المكان بهجة وسعادة غامرة، وانطفأت كل العيون المتسائلة من حولي على خيبة أمل، لعلهم توقعوا مشاجرة مع من كنت أنتظره وأخلف موعده، كم كان الأمر مسليًا عن حق.
عدنا إلى حيث كنت أجلس، ولدهشتي وجدت النادل وقد وضع أمامي كوب ماء بارد كالذي كان على منضدة الرجل الأخر، يعني لو صبرت ثانية لحظيت بتلك المتعة من مكاني، لكن هكذا الإنسان خلق عجولًا. بينما كنت وصديقتي نتبادل الحديث، عاد صاحب كوب المياه. رفعه إلى فمه، مرة تلو الأخرى، بدا وكأنه يتذوق شيء لا يشرب، تلفت حوله، عاد ونظر إلى موضع فمه، وجد بقايا من أحمر شفاه بطعم النعناع، ظن أنه نداء خفي، ظل يبحث بعينيه، لا أحد يجلس بمفرده. نداء صوته عال بطعم النعناع أخرجه عن وقاره ولامبالاته، تحدث إلى النادل، وسأله بصوت مرتفع عن ما إذا كان يعرف من شرب من الكوب، أجابه النادل بالنفي، بدا وكأنه سيسأل الجميع.
مضت أكثر من ساعتين وأنا أستمتع برفقة صديقتي، وذلك الرجل الذي يبحث عن صاحبة طعم النعناع …