بطعم الغربة

إيمان يحيى
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

إيمان يحيى

بعد تخرجه من كلية الحقوق لم يكن ليقبل أن يضيف إلى قائمة العاطلين واحدا، فيبدو أن طاقة حُلمه كانت أكبر من أن يفرض عليها الواقع عوائقه، فشاء القدر وأتته فرصة العمل في أحد أكبر مكاتب المحاماة، ولأنه استطاع في وقت قصير إثبات كفاءته وقدرته على التعامل مع القضايا والعملاء، أوكل اليه المحامي المسئول  العديد من القضايا ولازمها بالطبع طول الغياب

هاتفته متلهفة: اشتقت إليك

فأجاب بحنو هادئ: وأنا أيضا اشتقت كثيرا، ولكني سأعود قريبا

فرحت وهدأ دمع يلُح بداخلها، أنهت المكالمة بعد استفسارها عن صحته، طمأنها في كلمات معدودة توحي بإيجاز كل شيء ولطالما كان يفعل، فقد أصبحت هذه وتيرة الحديث بينهما، أنهت المكالمة بعد صمت معتاد وكأن كل منهما يخشى الإفصاح.

مرت أيام واسابيع كثيرة حتى قرع أحدهم الباب، نعم إنه هو، لقد عاد اخي، احتضنته، نظرت إليه كمن يتأمل لوحة يتمنى اقتناءها، شوق كبير يملؤها تُرى كم يوم سيقضي حائرة بين رغبة في المعرفة وخشية من السؤال خشية من قلة الأيام ومحدوديتها، ولكن لا يهُم حدثت نفسها يكفي أن أراه  ففي رؤيته حياة لأيامي مهما قصُر بقائه، ولكن سُرعان ماعرفت عدد أيامه التي إسترقها من حياته الأخرى لقضائها معهم ولكن لم تعرف أكثر.

مرت تلك الأيام القصيرة وكأنها حُلم من ضمن قائمة الأحلام التي تمر في خيال النائم، والتي تبدو من المعجزات إذا ما تذكر تفاصيلها، لم تحمل الكثير بل أي من الأحاديث فقط مرورا عابرا بدا وكأنها لاتعرفه، لايشبه ذاك الذي كان، فقط شكلا يزادد وسامة، فلقد كانت دائما تخبره بأنها تشفق على الفتيات فكيف يمكن لهن أن تتحملن كل تلك الوسامة المحاطة بكل تلك الجاذبية،فلقد كانت له كاريزما تطغى على كل الجلوس حال دخوله أي مكان.

تُرى ماذا حدث له حتى لم أعد أشعر باشتياقه وكأننا لم نغب عنه طيلة هذا الوقت؟ أجل لسنا من غاب ولكن ينطبق يشملنا جميعا قانون الغياب ،أصبح له عالم مختلف يأخذه حتى وإن جالسنا فأي قضية تلك التي تشغلك عنا يا أخي، أليس بالإمكان أن تجعلنا قضيتك فقط هذه الأيام؟ كانت تسأل نفسها كلما نظرت إليه ووجدته مشغولا في عالمه في شاشة هاتفه، كانت تشتاق لصوته فأيا كان ماتفعله كانت تتركه فقط لتستمع لكلماته القليله التي جاد بها.

ولكنها سئمت إجترار الأحاديث ومقابلتها بكلمتين أوثلاث وإن طالت جملة أو اثنتين، سئمت طرح التساؤلات لجلب إجابات تحمل معها صوته التي أرهقها التوق اليه.

تمنت لو بإمكانها أن تسأله فلقد كانت لتقول الكثير مما يختلج قلبها، أين أنت يا أخي؟ أين ذاك الشوق الذي حمله الهواء فاخترق هاتفي ليصيب قلبي أم أنك اخطأت الفهم بداخلك أم أنه التبس عليك الأمر ولم تعد تعرف مايعنيه الشوق أم أنك اصبحت تجهل المعنى برُمته؟ أم أنه أنا من تجهل كل شيء؟

اشتقت إلى صديقي، إلى أحاديثنا سويا، إلى صوت ضحكاتنا في كل ركن من أركان البيت عندما كنت أشعر أن جدران بيتنا تود الرقص فرحا على أنغام ضحكاتنا.

ألم تعد تعجبك أصواتنا فآثرت الصمت كي نقابله بمثله؟ أم أنك اكتفيت بآخرين فامتلأت بصحبتهم وأصواتهم حتى لم يعد بداخلك متسعا لنا ؟.

لطالما تمنيت سؤالك عنك فكنت تختصر الحديث وكأنك تعيش حياة تخلو من الحياة أوتخلو مما يُحكى فتعود وتسألني لأجيبك كما أجبتني، كنت أُطمئن نفسي كمن يريد تصديق كذبة يعلم كل العلم مدى كذبها بأنك على مايُرام، محدثة نفسي :ربما لايريد أن ينشغل بالي ولكني أنشغل اكثر، يتضاعف انشغالي بك عليك.

مرت الأيام، وعاد إلى حيث أصبح موطنه، ربما شغفه جماله حبا؛حيث بريق كل شيء وسحر كل شيء، وبينما اضحك لاهية من عبثية الوقت، تتراقص أمام عيني ساخرة كلمات أغنية مصرية قديمة نسبة لزماننا حديثة نسبة لحال تذكرها “وانا مهما خدتني المُدن وخدتني ناس المُدن دايما صورتك في قلبي دليلي في المُدن”.

حاولت معاودة الإتصال لتسأله عن سبب عدم مجيئه فلقد اشتاقت إليه كثيرا، فأجابها ألم أغادر بالأمس، أجابته عبراتها قبل صوتها هل حقا جئت؟ كنت أعتقد أنني أحلم، فقال لها ستمر الأيام سريعا وسآتي قريبا، خنقت صوتها العبرات ولم تنطق سوى ببضع كلمات: أرجوك هلا أحضرت لي أخي خالٍ من طعم الغربة؟.

  

مقالات من نفس القسم