ترشح “بريد الليل” الصادرة عن دار الآداب، للكاتبة هدى بركات، لجائزتي “البوكر” و”الشيخ زايد”، يخلق افتراضًا موهومًا بأننا إزاء رواية قد تمثل نقلة في مدونة السرد العربي. لكن الأكثر دقة أنه تعبير عن “محدودية قوائم” الجوائز العربية.
كأن أعضاء لجان التحكيم مستلبون ـ لا شعوريًا ـ لسطوة أسماء لها منجزها، وليس قوة نصوص. فمع استحالة قراءة مئات الروايات المتنافسة، يكتفى بإطلالة سريعة، والرهان على أسماء “مضمونة” ودور نشر لها ثقلها. هذا التوجه المضمر جعل الترشيحات متوقعة مسبقًا.
لاشك أن قوة الاسم يوفر على المُحكم عناء الدفاع عن جدارة النص، وهو ما يظهر في ركاكة وعمومية ديباجات التفويز، وعجز معظم الأعمال الفائزة عن تحقيق مقروئية عالية.
وتكشف عينة من معلقي “الجود ريدز”، عن الانقسام الواضح في تقييم “بريد الليل”، فمعظم من اتخذ منها موقفًا سلبيًا عزا ذلك إلى: “الملل”، و”افتقارها إلى الترابط”، ووصفها بأنها “مجموعة خواطر”. أما من اتخذ منها موقفًا إيجابيًا فأشاد ببساطة اللغة، وجاذبية السرد.
إشكالية التجنيس
لا يبدو مصطلح “رواية” دقيقًا كعلامة تجنيسية، لأن “بريد الليل” تقع في حوالي 129 صفحة، ومن الناحية الجمالية تتسم بمحدودية الشخصيات، والمقاربة التكرارية للثيمات ذاتها، وعدم تمديد وتوسيع السرد، لذلك هي أقرب إلى جنس “النوفيلا”. فهل جائزة “البوكر” تعامل “النوفيلا” كتنويعة على “الرواية” أم كجنس مستقل؟
في أحد مقالاته تحفظ الناقد السعودي محمد العباس على غياب التمييز بين الشكلين، ووصف بعض الروايات متهكمًا بأنها “قصة قصيرة منفوخة” لا تتوفر فيها معايير النوع الروائي. لذلك يظل التجنيس إجرائيًا، مسألة ضرورية في اشتراطات أية جائزة.
قالب الرسائل
نجحت “بريد الليل” عبر رسائل أبطالها في الكشف عن عالم الظلال والموت والدمار. الحروب والثورات العربية المجهضة.. خيام اللاجئين والهجرة والاغتراب.. عبر لغة لا تخلو من جرأة وشجاعة وتسمية الأشياء بأسمائها. لكن أهمية الحكاية ليس فيما تقوله مهما بلغت شجاعته، بل في كيفية القول.
اختارت بركات قالب “الرواية الرسائلية” أحد أقدم القوالب الروائية، والذي ينقسم إلى نسقين رئيسين: نسق ينتمي إلى رسائل لأشخاص واقعيين كما في إصدارات لغادة السمان. وآخر ينتمي إلى “التخييل” وظفته عشرات الروايات العربية والعالمية مثل: “بريد بيروت” لحنان الشيخ، التي تتشابه مع “بريد الليل” في العنونة وظلال الحروب في لبنان.
بعد ربع قرن على ثورة الاتصالات، بات اللجوء إلى ذلك القالب تعبيرًا عن حنين إلى واقع لا وجود له، لذلك لجأ الروائي إبراهيم عبد المجيد في روايته “في كل أسبوع يوم جمعة” إلى إعادة اكتشاف القالب عبر لغة التكنولوجيا وغرف الدردشة، وقريبًا من ذلك “نسيم الصبا” لدانيال غلاتاور، رواية البريد الإلكتروني بامتياز.
ذلك لا يصادر حق بركات في استعادة صيغة الرسائل في هيئتها الكلاسيكية، لكن الإشكالية أن ذلك الاختيار جاء ملتبسًا، فلا هو حافظ على صيغته العتيقة، ولا استوعب الحداثة التنكولوجية.
فكان بإمكانها مثلًا التلاعب بالرسائل والتعليق عليها كما فعل خوسيه باراس في “بريد بغداد”.. أو المحافظة على العلامات المحايثة للشكل التقليدي مثل اسم المرسل، والمرسل إليه، والزمن، والعنوان.. كما فعل كارلوس فوينتس في “كرسي الرئاسة” حيث كان يفتتح فصوله بتحديد طرفي عملية الإرسال.
هنا جاء الشكل الكلاسيكي منقوصًا، فالرسالة “الأولى” تبدأ ب “عزيزتي” دون اسم، والثانية لا تحدد المرسل إليه أعلاها، والثالثة تكتفي “أمي الحبيبة”، والرابعة “أخي الحبيب”، والخامسة “أبي الحبيب”. ثم في الجزء الأخير ما يشبه “التعقيبات” ممن كانوا يفترض أن يستلموا هذه الرسائل. مع عدم وجود أي فرق جوهري بين “الرسائل” و “التعقيبات”، باستثناء طول الرسالة ووجازة التعقيب.
ربما لإدراك الكاتبة أنها لجأت إلى شكل ناقص، استعانت بتقسيم آخر إلى ثلاثة أجزاء هي: “خلف النافذة” و”في المطار” و”خاتمة”.
المرسلون
ظاهريًا لا تحدد الرسائل شخصيات المرسلين، والمرسل إليهم، وإن كانت توغلت في كشف دواخلهم ومسارات حياتهم.
خمس شخصيات قررت كتابة حياتها و”مأساتها”، الأولى “صحفي في المهجر” يلخص مسيرة حياته منذ أن وضعته أمه في سن الثامنة أو التاسعة في قطار إلى العاصمة للذهاب إلى عمه، لتنتهي رحلته مفلسًا بلا عمل ولا إقامة قانونية، في الاغتراب.
الثانية “سيدة” في خريف العمر تشعر بالوحشة والوحدة، قررت المغامرة والسفر للقاء حبيب قديم في أحد الفنادق الصغيرة في باريس.
أما الثالثة “شاب لاجئ يروي تاريخه مع النظام الديكتاتوري وقيامه بعمليات تعذيب، إعاد تقديم نفسه كمعارض في المهجر، إلى أن تعرف على سيدة أوروبية وعاش معها قبل أن يقتلها.
الرابعة “سيدة” مهاجرة أقرب إلى الكهولة، اضطرت إلى العمل في البارات والفنادق، وممارسة الرذيلة مقابل أجر، كي تعول ابنة من زيجة فاشلة. وأخيرًا لدينا الشاب المهاجر المضطرب في هويته الجنسية، وحياته “الهيبية”.
المرسل إليهم
في الرسالة الأولى قرر “الصحفي” الكتابة إلى حبيبته ـ السابقة ربما ـ بدلًا من أمه التي وضعته على أول طريق المأساة.
عكسها ـ تقريبًا ـ الرسالة الثانية، الموجهة من حبيبة إلى حبيب سابق، وآمالها وأوهامها وذكرياتها الخاصة بهذه العلاقة، قبل أن تفرق الحياة بينهما، حيث يعيش في كندا ولديه مهنة وأسرة وحياة مستقرة، فما الذي قد يدفعه إلى مغامرة اللقاء بها؟
أما الشاب اللاجئ قاتل السيدة الأوروبية فاختار أن يكتب رسالته لأمه الإنسانة الوحيدة التي أحبها ربما، والتي كان بإمكانها أن تغير مصيره لو امتلكت شجاعة مواجهة أبيه القاسي.
فيما اختارت بائعة الهوى أن تكون رسالتها إلى أخيها، من تبقى لها كسند في الحياة، والمسجون في إحدى القضايا.
وأخيرًا وجه “الشاب المثلي” رسالته إلى أبيه الذي خاب ظنه فيه مبكرًا، ولم يعرف كيف يلائم ما بين ميوله وتوقعات أبيه منه، ويطلب الصفح وأن يرسل له ثمن تذكرة العودة.
المتلقون
لم تذهب أية رسالة إلى من كتبت إليه، في غياب التفاصيل والعناوين البريدية، وربما غياب الإرادة لإيصالها أساسًا لما تتضمنه من بوح واعترافات خطيرة.
بل كان للقدر خطته أن تذهب كل رسالة إلى متلق “غريب” لا يعرف صاحبها، يصبح بدوره كاتب الرسالة التالية. فرسالة الصحفي انتهت في يد “الحبيبة”، ورسالتها هي التقطها الشاب القاتل من صندوق القمامة في المطار، أما رسالة القاتل فوصلت ـ لحظة القبض عليه ـ إلى يد بائعة الهوى، وبدوره عثر “الشاب المثلي” على رسالتها في خزانة البار.
كل مرسل ـ ما عدا الأول ـ أصبح متلقيًا للرسالة السابقة، وتحول موقعه إلى مرسل إليه “غير مقصود”. عابرون يتركون سطور أحزانهم لعابرين آخرين.
ما الفحوى؟
لا تستند علاقات أصحاب الرسائل بمن تلقوها على أي مبرر محكم، بل إن فعل الكتابة والتلقي كان اعتباطيًا، أقرب إلى مصادفات مبالغ فيها. وإن كان بالإمكان استكناه روابط تتمثل في مأساوية حياة هؤلاء الكتاب/ المتلقين، واغترابهم جميعًا في فرنسا حسبما يشي النص. نماذج عشوائية لا رابط بينها لكنها تشترك في نص مضمر يتعلق بالاغتراب في المهجر، والحروب والفساد في بلدانها الأصلية.
انعكست هذه “العشوائية” على النص نفسه، الذي بدا أنه يمتلك قضيته وثيماته المتكررة، لكنه يفتقر إلى البنائية المقنعة، فبإلامكان تبديل ترتيب الرسائل ومواقع أصحابها، وأماكن العثور عليها، ولن يحدث أي فرق جوهري.
لعل هذا الضعف، هو ما دفع في اتجاه ارتفاع النبرة الميلودرامية عند الجميع، حيث لا توجد في حيواتهم ـ على ما يبدو ـ جوانب مرحة أو مشرقة. وأصواتهم مهما سعت للتمايز تطغى عليها النزعة الميلودرامية، والحس بالتفلسف، ما جعل الرسائل متشابهة، ومعبرة عن الذات الكاتبة أكثر من كونها معبرة عن الشخصيات. فعلى سبيل المثال نقرأ: “أما الاستمتاع بأفعالي، تلك التي قد يحاسبني عليها الرب، فهي الدرب الطبيعي لمن يستيقظ فجرًا ليعود إلى ارتكاب ما ارتكبه في الأمس. المتعة ليست خيارًا، والانتشاء بالقوة والبأس وإحكام السيطرة على مصائر البشر ليس من الزوائد”.
هذه الفقرة من رسالة مخبر كان ينكل ويعذب خصوم السلطة، موجهة إلى أمه، يصعب القبول بتفلسفها ونبرتها، إلا مع استحضار قناع الكاتبة وتحليلاتها وتأملاتها، التي تقفز بين سطور الرسائل. عدا عن صعوبة القبول بأن مجرم سفاح مثله سيُقبل ببساطة على كتابة رسالة يعترف فيها بارتكاب جريمة قتل، رغم أنه عمليًا هرب إلى المطار.
الأمر لا يقتصر على مصادرة أصوات الشخصيات ـ نسبيًا ـ وفرض إيقاع تأملي بطيئ إلى حد الملل أحيانًا.
بل يبدو أن عرض “الرسائل” في حوالي مائة صفحة، قائمة على الاجترار، لا يكفي لتشييد عالم روائي، فكان الحل إضافة تعقيبات في صيغة غامضة، لا تأخذ شكل الرسائل صراحة، لكنها تشبهها في تقديم صوت الشخصيات مباشرة، مع ترك الأمر للمتلقي للتخمين من الذي يتكلم. فالسيدة التي في خريف تعقب كيف ذهبت إلى المطار بحثًا عن الحبيب الذي تنتظره، فيما يقوم هو بالتعقيب على تعقيبها، ثم الشاب القاتل يحكي ما جرى معه عقب القبض عليه في المطار، وأيضًا يحضر صوت شقيق بائعة الهوى الذي سجن دفاعًا عن شرفها، ثم تعقيب قصير جدًا بصوت حيادي عن انتظار الشاب المثلي لتذكرة سفر.
رغم اتصال التعقيبات بالرسائل، واستكمال نقصها، لكنها بلا أي رابط جدي معها، ولن تتأثر كثيرًا بنية الرسائل لو حذفت هذا “الاستكمالات”.
ثم يأتي الجزء الأخير “الخاتمة” عن ” موت البوسطجي” كمرثية لمهنة على وشك الأفول، دون أن يكون له أيضًا علاقة بنيوية واضحة مع رسائل الرواية وأصحابها، فهو مونولوج مستقل يلقي بظلال بعيدة على المتن.
بالعودة إلى الأجزاء الثلاثة: الرسائل، التعقيبات، موت البسطجي. يتبين أن الرواية لم تجد المسار المقنع الذي تندفع من خلاله حركة السرد إلى الأمام، فراحت تنحل شيئًا فشيئًا، حيث يبدو الجزء الثاني أضعف صلة بالأول، والثالث أبعد ما يكون عنهما. وبقي رهانها الوحيد على مصداقية شخصياتها في تصفية حسابها مع الحياة.