هذا الملف “بالادات” ، مجتزآت من كتاب شعري جديد للشاعر كريم عبد السلام بعنوان” أيها القارئُ السعيد.. ماذا فعلتْ الحملانُ بالذئاب”، ويتضمن تجربة نوعية ضمن قصيدة النثر، حيث ينحاز الشاعر إلى شكل الـ Ballad، أو الحكاية الشعرية أو الملحمة القصيرة، بما يمثله ذلك من تحدٍ جمالىّ، لأننا سنجد أنفسنا تلقائياً أمام السؤال: ما مدى رحابة الأرض التى يمكن أن تصل إليها القصيدة دون أن تفقد ماهيتها أوتندغم فى فنون إبداعية أخرى؟
ننشر فى هذا الملف ثلاثة نصوص أو ثلاث بالادات (“الحَضْرَة”..الصعودُ على الأسد المجنح.. والسقوطُ فى المياه السوداء/// “الإبل”.. تعبُّ النيلَ عبّاً.. الجاحظُ يتحدى ديكارت.. والفراهيدى يبحث عن الإيقاع /// “منطِقُ الذهب”.. كيف أنقذ الطمعُ نفسه من الضياع وسط الأفكار الفاشلة فى الجحيم)، ربما تقدم تصوراً وافياً عن المناخات التى تتضمنها قصائد الديوان أو “البالادات” العشرين التى يتضمنها الكتاب
والملف بما يتضمنه من نصوص شعرية، محاولة جادة فى التجديد ضمن قصيدة النثر، بحثاً عن مفهوم أرحب لفكرة الإيقاع الشعرى، كما تفتح الباب للنقاش حول حدود قصيدة النثر بين الخيال الشعرى الخالص والسرد النثرى، وما إذا كانت هذا الحدود موجودة وقائمة أصلاً، أو مرهونة بخيال كل شاعر فرد وقدرته على المضى وراء تصوراته للنوع الشعرى، والإمساك بأحلامه وتجسيدها، وفى الوقت نفسه اقتراح قيم جمالية مغايرة، يمكن أن تثرى القصيدة الحديثة وفى المتن منها قصيدة النثر، التى نشأت بحثاً عن الحرية الكاملة وشعارها: “لتصنع كل قصيدة جمالياتها الخاصة”.
***
كريم عبد السلام
“الحَضْرَة” ..
الصعودُ على الأسد المجنَّح .. والسقوط فى المياه السوداء
طيورٌ خضراءُ بحجم البجع، ترفرفُ فى صَحْنِ الجامع على دقّات قلوبِ الذاكرين، ووراءَ كلِّ ذاكرٍ طائرٌ ينشر بجناحيه عطورًا لم نَعْهَدها، تَشْرَحُ الصدرَ وتمنحُ السعادة وتُطلق اللسانَ، والرؤيةُ تنفتح عن دَرَجٍ من الرخام الوردىّ، وصوتٌ يَحُثّنا: اصعدوا أيها الذاكرون.. اصعدوا حتى تلتقوا بأنفسكم وتلتئمَ أرواحُكم
الله .. حى
قدماى على الدَّرَجِ الوردىّ، كلُّ طبقةٍ من عشر سُلمات، كلما انتهيتُ من طبقةٍ، تنفتح أمامى طبقةٌ جديدةٌ، حتى أصبحتْ قبةُ الجامع الخضراءُ بعيدةً تحتَنا، ولا تَرى العينُ مسندًا تتّكِئ عليه، إنْ هىَ إلا درجاتٌ بعد درجاتٍ، والسحابُ من حولنا، والذاكرون يصعدون، ووراء كلِّ ذاكرٍ طائرُه المرفرفُ، يحميه ويُرشده، إلا أنا، قلبى امتلأ بالخوف وتعثرتُ وتوقّفَ لسانى عن الذّكْر، وامتلأ صدرى بكيف أهبطُ.. كيف أهبط وطلبتْ قدماى الأرضَ، فسقطتُ فى مكانى مهزومًا من التعب والخوف..
الله .. حى
كأنى رأيتُ الذاكرين يضحكون علىَّ ويُشيرون نحوى وهم فى الأعالى: قلبُكَ مملوءٌ بالقشَّ والسُخامِ والهمومِ، قلبكَ مشغولٌ بصراعاتِ الضّباعِ والكلاب وأنواع القمامة الرائجة وتصاغرتُ أمام نفسى، وإذا برجُل مهيبٍ على أسدٍ بجناحين يهبط أمامى: اذْكرِ اللهَ ولا تنظر إِلى شاهدى بِعينِ الاضطرابِ، وإِلى أوقاتى بِعينِ الاغترابِ، مولاى “الجُنيد” يُقرئك السلام، وهذا خادمُه “قسورة”، وأشار إلى الأسد الأسود ذى الجناحين الذهبيين وكان يدور حولنا وأنا أتلفتُ خائفًا، وأفكر فى الذاكرين الذين سبقونى صعودًا، وإذا به يقودنى نحو الأسدِ المجنّح وهو يتمتم: “خَلْقٌ كثيرٌ يمشون على الماء لا قيمة لهم عند الله، وما دام العبدُ يظنّ أنَّ فى الناس من هو شرٌ منه فهو متكبرٌ”، ونشر الأسدُ جناحيه طائرًا حتى سبق جميع الذاكرين وأبو يزيدٍ البسطامى صاعدٌ حَذْوَ جناحيه دون جهدٍ أو حركةٍ، حتى إذا ظهر رجُلٌ على الدَّرَج مرددًا: “الإحسانَ.. الإحسانَ”، توقف الأسدُ وأخذ يتمسح بقدمى الرجل فعرفت أنه “الجُنيد” ولم أجد كلامًا، هو من تكلم واضعًا كفه اليمنى على رأسى: “المُحبُّ عبدٌ متصلٌ بذكر ربه، أحرق قلبَه أنوارُ هيبته، وصفا شرابُه من كأس مودته، وانكشف له الحياءُ من أستار غيبه”.
الله .. حى
وظللتُ فى مكانى أذكر الله، حتى لحق بى بعضُ الذاكرين وقد أنهكهم التعبُ، فارتموا على الدرجات من حولى وهم ينظرون إلىَّ بعين الإعجاب والعَجَب، كيف وصلتَ إلى ما وصلتَ إليه؟ كنتَ متعثرًا مشغولًا منذ قليل والآن حاضرٌ بكامل قلبكَ وروحكَ، أخبِرْنا عن حالك، وظنوا أن مكانى نهايةُ المطاف، فتحلقوا حولى يرجوننى: ادْعُ لنا يا مولانا، أنت صاحبُ كرامة، ففرحتُ جدًا وشمختُ برأسى داعيًا لهم، لكنّ قدمى زلّت ووجدتُنى أتهاوى ودعائى ينقطع وكأنما أغرقُ فى ماءٍ أسودَ لا يراه أحدٌ سواى..
الله .. حى
وإذا بيدٍ تقبض على عُنقى وترفعنى من الماء الأسود لآخذَ شهيقًا بعد أن كادت روحى تذهب، والتفتُّ نحو من انتشلنى فوجدت رجلًا على رأسه عمامةٌ خضراء مكتوب عليها بحروف مضيئة “العارف بالله إبراهيم الدسوقى”، وظهر على لسانى كلامُ شكرٍ، لكنه بادرنى ليسكتَنى: لو خشع قلبُكَ يا ولدى ما فرح، إن الله لا يحب الفرحين، واعلم أنك إن رأيت فهو الذى أراك، ليس لك فى الأمر من شيء، فخجلتُ من نفسى ولم أجد فى قلبى إلا: “يا مُعينَ الضَنى عليَّ.. أَعِنّى على الضَنى”..
الله .. حى
عُدنا إلى صحن الجامع، والطيور الخضراء تغادر فتخترق الجدرانَ لا يعوقها حجرٌ أو حديد، والذاكرون يتصببون عرقًا، منهم من صمدَ فى مكانه ومنهم من أُغشىَ عليه ومنهم من اختفى، أما من بقى يلهج بذكر الله فقد طاف عليهم مَن يسقيهم ماء باردًا بالعسل، وسمعتُ النداءَ فى قلبى..
“لا تنشغلْ بغيركَ يا مسكين “
الله .. حى
****
الإبل .. تَعُبُّ النيلَ عَبَّاً.. الجاحظُ يتحدى ديكارت.. والفراهيدى يبحث عن الإيقاع
يحدثُ أن تظهرَ قطعانٌ من الإبل، وتحتلَّ المكانَ على امتدادِ النظَر
تتدافعُ حولى بخطواتها المنغومةِ، كأنها رياحُ خماسين، ومعها رائحةُ الصحراء والوبرِ
والبَعْرِ والسُّعالِ والرَّمَد
لا أُفكرُ فى الشياطين التى تحملها الإبلُ، ولا فى أرض الجنِّ التى تختفى فيها..
أريدُ فقط، عبورَ الشارع ذى الاتجاهين، نزولًا إلى الميدان
وعندما أصلُ إلى منتصفِ الطريق، تقترب الإبلُ ثم تتجاوزنى
وأُضطر للتوقف حتى تعبرَ، وأجدُها تواصل التدفّق..
…..
يحدثُ أحيانًا أن تكون قطعانُ الإبلِ بلا نهاية وعندما أريدُ التراجع، يكون الوقت قد فات، نصفُ الشارع الذى عبرتُهُ يزدحم بقطعانٍ جديدةٍ، ولا أجد شيئًا أضع عليه عينىّ، كى لا أضيع..
السماءُ فارغة
ولوحاتُ الإعلانِ مطفأة
والعماراتُ العاليةُ قبيحة
والترابُ يكسو كل شىء
محاصرٌ فى مكانى، والإبلُ تخبُّ فى الاتجاهين، كأنها شلالٌ من المياه، يمكنُ رؤيةُ بدايتها وهى تزحف باتجاه الشوارع الجانبية، لكن لا يمكنُ رؤيةُ نهايتها
أقولُ ربما تنتهى إلى المذبح
لكنَّ نظراتها المهيمنةَ، وغيابَ الرعاة والصغارَ فى القطيع، يؤكد لى أن الإبلَ دخلتِ المدينةَ لتبقى، ولا أجد أمامى، كى لا أسقطَ، إلا العودةَ للنقطة التى اكتشف فيها الفراهيدى الإيقاعَ، وأضبط نغمات الأخفافِ من حولى، أملًا أن تعود الشوارعُ إلى ما كانت عليه
مُسْتَفْعِلُنْ فَاعِلُنْ مُسْتَفْعِ.. …
الإيقاعُ ينكسر
وفى كلِّ مرةٍ لا يكتمل البيتُ
كأنَّ الإبلَ المتدفقةَ حولى تقرأ أفكارى وتُفسدها
وعندما اعتمدتُ المُتدارَكَ بمرونته فَعْلُن فَعْلُن فَعْلُن فَعْلُن
تداخلتْ الأخفافُ وتقدّم الصغارُ بخطواتٍ مرتبكةٍ وسط القطيع المتهادى، وانكسر معها المتدارَكُ، وكأننا أمام أراجيزَ متقابلةٍ لشعراءَ فى زمن قديم
وتذكرتُ أن الفراهيدى لم يكتشفِ الإيقاعَ من هرولةِ الإبلِ وحُداءِ الرعاة، وأن مصادفةً قادته إلى سوق الصفّارين، مثلما قادتنى مصادفةٌ إلى الشارع المفضى للميدان الآن، هناك، سمع الفراهيدى طرقاتِ صَفَّار وقد انتظمتْ وتكررتْ، وحفظها فى أذنه إلى أن عاد لبيتهِ فأحضر طبلًا وعصا ليكررَ نقراتِ الصفّار، حتى لاح له بحرُ الطويل بأمواجهِ وزَبَدِه.. فَعُولُنْ مَفَاعِيلُنْ فَعُولُنْ مَفَاعِلُ
البحرُ أغرى ببحرٍ، وكلما اختلفتِ النقراتُ، ينتظم وزنٌ أنشأ منه العرب أشعارَهم، ويصيرُ بحرًا وله اسم..
أهكذا تعلم آدمُ الأسماءَ كلَّها؟
هكذا عرفنا الوافِرَ
مُفَاعَلَتُنْ مُفَاعَلَتُنْ فَعُولُن
والرَمَلَ
فَاعِلَاتُنْ فَاعِلَاتُنْ فَاعِلَاتُن
والسريعَ
مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَاعِلُن
والمنسرحَ….
توقّفْ
توقّفْ وانتبه أيها المحاصَرُ بالإبل
مصادفةُ الفراهيدى قادته إلى سوق الصفّارين واكتشافِ بحورِ الشعر
فإلى أين تقودكَ مصادفتُكَ؟
قدماكَ تعبتا من الوقوف، وبدايةُ القطيع غابتْ عن نظركَ، ولم تعد ترى إلا أخفافًا تُهرع فى خطواتٍ متناثرةٍ، وأشداقًا متدليةً وشفاهًا مشقوقةً وعيونًا سوداءَ كثيفةً، ترميكَ بنظراتٍ غيرِ مبالية
……
حاولتُ أن أخترقَ القطيع وأعبرَ الشارع
بعيرٌ ضخمٌ قطعَ الطريقَ علىَّ، وهو يُرغى ويَهدر فتراجعتُ إلى مكانى
أرعبنى البعيرُ الهادرُ، أعترفُ..
لكنَّ ديكارت وسوسَ فى أذنى، وهو يضحك ضحكةً مكتومةً، بأنّ الحواسَ كاذبةٌ، وتجربتَنا يسيطر عليها شيطانٌ ماكرٌ، يستطيع خلقَ عالمٍ نتوهم أننا نعيش فيه، وأوصانى ألا أصدق تصوراتى، لأنها من صنعِ الشيطانِ المخادِع
كأنّ الإبلَ التى تحاصرنى خدعةٌ
كأنّ الشارعَ الذى أقف فى منتصفهِ خدعةٌ
وكأنّ البعيرَ الذى هاجمنى خدعةٌ
قطعانُ الإبل مازالت على امتداد البصر، تحاصرنى وأنا أجاهد حتى لا أفقدَ الوعىَ، وفى أنفى رائحةُ الصحراء والبَعْرِ والوبرِ المتطايرِ، والجاحظُ يتحدى ديكارت ويجزمُ أن الإبلَ خُلقت من أعناق الشياطين، وأن ما أراه من إبلٍ، سلالةٌ وحشيةٌ جاءت من أرض وَبَار، وأن أهلَها هلكوا مثل عادٍ وثمودَ، لكنها بَقِيَتْ حتى فشا فيها الجنُّ، وويلٌ لمن يقع تحت سطوتها من الجنون والطاعون والموتِ البطيء..
أضلّتِ الإبلُ طريقَها فى أرض الجنِّ، لتحاصرَنى وأنا أعبر الشارعَ المؤدى للميدان، أم أنّى وحدى من يراها كما يقول ديكارتُ؟
أنا أنظر إلى الإبلِ
أنظر إليها الآنَ فى وضح النهار
نجديةٌ وساحليةٌ وتهاميةٌ وسودانيةٌ وعمانيةٌ ومغربيةٌ وبشاريةٌ ومهجّنات
مجاهيمُ سوداءُ وداكنةٌ وبنيّةٌ ورمليةُ
مغاتيرُ وضحٌ وشُقحٌ وصُفرٌ وحُمرٌ وشُعلٌ
ذواتُ سنام واحد وذواتُ سنامين
جمالٌ وأجمالٌ وأَجْمُلٌ وجِمالات وجَمائلُ وجُمَالَةٌ
أبعرةٌ وأبعارٌ وأباعرُ وأباعيرُ وبُعران
نوقٌ وأنواقٌ وأيانقُ ونياقٌ وأنيُقُ
أراها تعبُّ النيلَ عَبًّا،
حتى لم يعد من النهر إلا المجرى والذكرياتُ فى القاع الطينى
………
حين كنّا أطفالًا
كان الجزارون يعقلون الجِمالَ أمام المحال، ونحن ندور حولها وهى قائمةٌ أو نائخةٌ على الأرض
ترانا بعيونٍ مظلمةٍ كثيفةِ الرموش
تلوك وتجترُّ على الدوام، متجاهلةً رائحةَ الدماء على جلباب الجزار
أحيانا ندور حول النائخةِ ونعتليها، وهى صامتةٌ لا مبالية
نتحسس الوشومَ والعلاماتِ الخضراءَ والحمراءَ والسوداءَ على أبدانها
وعندما تُحرك رقابَها فى اتجاهنا، نعدو وننظر إليها من بعيد
البعيدُ لم يعد بعيدًا
الإبلُ تحاصرنا فى دوائرَ لا تنتهى
منها القائمُ والنائخُ والغاضبُ والهادرُ والحاقدُ والمُجعجعُ والمتوحشُ والشيطانىُّ
رأيت بعيرًا يقبض على رَجلٍ من عنقه ويطرحه أرضًا ثم يبرك فوقه بقوائمه
قالوا إن الرجلَ من سلالةِ جزّارين، ومازالت رائحةُ الجمال الذبيحةِ عالقةً بأرواح العائلة، والبعيرُ أغضبته رائحةُ الدماء القديمة، ويثأر لأسلافه
فَاعِلَاتُنْ فَاعِلَاتُنْ فَاعِلَاتُ
……..
يقولون إن الشياطين كانت تائهةً فى أقطار السموات
لا تجد ما تفعله سوى الحسرةِ واللعنات
الحسرةِ والندم
الحسرةِ والتطلّع
لمن الأرضُ وجنَّاتُها التى تجرى من تحتها الأنهار
لمن الجبالُ وصحاريها
لمن الكهوفُ والمغاراتُ التى تعزف فيها الرياح
الرمالُ المتراميةُ خاليةٌ،
نحن أحقّ بسُكناها
نحن أقربُ إلى حرارتِها اللاهبة وليلِها الخامدِ ورياحِها المرتطمةِ بالجبال..
لكنّ الشهبَ الثاقبةَ والنيازكَ اشتبكتْ مع الشياطين وأسقطتها باتجاه الأرض، مضعضعةً جريحةً، تبحث عن كهوفٍ تصلح مدافنَ
ولم يكن ممكنًا مواصلةُ العيش تحت القمر الفضى والنجومِ المتلصصة إلا بهيئةٍ ترابيةٍ وحياةٍ دنيويةٍ
وتحولت الشياطينُ إلى وحوشٍ هادئةٍ بعيون سوداءَ وشفاهٍ مشقوقةٍ وذاكرةٍ حديديةٍ وحقدٍ انتقامىٍّ وقدرةٍ على الصبرِ والعطش
وظهرتْ الإبلُ فى الصحراء الخالية، وانفتح العالمُ من جديد دون ُشهبٍ ساقطةٍ ولا نيازكَ مطارِدة
وأصبحتِ الصحراءُ مهادًا والشروقُ منزلًا والماءُ مقصدًا والذهبُ وفيرًا والإيقاعُ فى أفواه الحُداةِ
ومع الإيقاع تحت ضوء القمر، انقادتِ الشياطين لراعٍ شيخٍ، ظنَّ أنه وجدها بالمصادفة، حتى أوصلها إلى عشيرته، ليصبح جسرًا بين الشياطين وإنسانِ الصحراء
واختلط الوسواسُ والمزمارُ والغناءُ بالرّغاءِ والهديرِ والهمهمةِ والحنينِ والجرجرةِ والرزيزِ والكتيتِ والأديدِ والهقمِ والضبحِ والإرزام
وخلال آلاف الليالى والنهاراتِ اللاهبة، اندمجتِ الأرواحُ والذاكراتُ والأحلامُ، حتى لم يعد ممكنًا إدراكُ قصةِ الراعى الشيخ وقبيلةِ الشياطين المتحولة
وأصبحتْ الإبلُ سفنَ الصحراء والمطايا الكرامَ والأملَ فى الماء والمنقذَ من الضلال والشافىَ من الأسقام والملاذَ فى سنوات المجاعة، وظهر امرؤ القيس منشدًا فى سعادةٍ:
تَقولُ وَقَد مالَ الغَبيطُ بِنا مَعًا .. عَقَرتَ بَعيرى يا اِمرَأَ القَيسِ فَاِنزلِ
فَقُلتُ لَها سيرى وَأَرخى زِمامَهُ.. وَلا تُبعِدينى مِن جَناكِ المُعَلَّلِ.
***
” منطق الذهب” .. كيف أنقذ الطمع نفسه من الضياع وسط الأفكار الفاشلة فى الجحيم
الطَّمَعُ..
ماذا يساوى إذا قُورن بالقتل؟
لا لا، باهتٌ جدًا إلى جوار الشهوة
ولا يُرى أمام الغرور
أغبى الشياطين لم يتوقع له النجاح..
هزيلٌ، لن يجدى مع البشر
المرحلةُ الأولى لا تناسبه
فاشلٌ فى الإغواء، نتعامل مع وحوش، نريد صراعاتٍ وحروبًا
اتركوه حاليًا فى مخازن جهنم،
مع الفُصام وأفكار قتل الأب والشذوذ والاستعمار
اتركوه
…..
الطَّمَعُ سألَ طوبَ الجحيم: لماذا وحدى المنبوذ بين المجرمين عندما كانوا أفكارًا؟
فلم يتلق إلا صدى صوته
طلبَ المساعدة من السفاحين وعتاةِ الشياطين
وقُوبَل بالاستهانة والسخرية
لدرجة أنه فكر فى الانتحار
لأنه لم يكن يعرف إلا سؤالين:
من أكون؟
ماذا أريد؟
…..
لو رجعتم للأزمنة الأولى، عندما كان الإنسان لا يأكل إلا عند الجوع
ستجدونه – الطمع – يكلّم نفسه على الشاطئ رائحًا غاديًا ويداه خلف ظهره..
هل أُغرق نفسى؟
هل أستسلم لوحوش البحر؟
لماذا القتل مزدهرٌ وأنا عاطل؟
لماذا الشهوة ناجحةٌ وأنا فاشل؟
هذه الكائنات ميئوسٌ منها، يسألوننى: ما معنى اسمك؟
أنا الطَّمَعُ..
ويردون: الفاكهة أكثر من حاجتنا، نتركها حتى تسقط وتتعفّن، ماذا تريد بالضبط؟
أنا الطَّمَعُ..
أيها المدعو “طمع”، نحن نقدم الخرافَ هدايا للذئاب
أنت لا شيء، دخانٌ فى حريق الغابة
……..
بعد آلاف السنين من الحيرة
وقف “الطمع” أمام الشيطان الأكبر:
“-أعدنى للجحيم، أنا فاشل
قفزتُ فى فوهات عشرات البراكين
عرضتُ نفسى على الحيتان وأسماك القرش
أكرهُ خطواتى على الأرض، ابحثْ لى عن عمل آخر”
=اسكت يا مغفل
وقتكَ سيأتى، وعليك أن تخترع شيئًا
وانصرف الشيطانُ الأكبر إلى موعدٍ عاجلٍ فى الجحيم
…..
آلافُ السنوات مرّت من جديد، والطمعُ مازال رائحًا غاديًا على الشاطئ
يداهُ خلف ظهره، وكلما لمح وجهَه على الماء، قذفَ صورتَه بحجر
“لماذا طردونى من الجحيم
ماذا يريدون منّى”
إلى أنْ..
إلى أنْ قَرَّر أن يعود للجحيم بطريقته الخاصة..
-أنتَ، ماذا تفعل هنا
حراس.. استجوابات.. عريضةُ اتهامات.. عقوبات
وفى النهاية أجبروه على العودة للأرض ومعه السرُّ
وجد نفسه على شاطئ البحر من جديد
رائحًا غاديًا.. غاديًا رائحًا
لكن خطواتِه كانت تحول الرمل والتراب إلى معدنٍ أصفرَ لامعٍ، يستطيع الكلام..
-احملنى، أنا السرُّ
أعطنى للأغبياء وقل لهم: من الجنة، لديه طاقةٌ تجعلكم سعداء
قُلْ لهم: هذا الأصفرُ مقدسٌ ويحمل أرواحَ الأجداد
أعطنى للنساء ليتزينوا بى
قُلْ لهن : ستعدن عذراوات
اصنعْ منى تمائم للرجال تحميهم من الموت
= ما اسمك؟ لابد أن يكون لديك اسم حتى يراك البشر
-أنا الذهب
أنا الحلم والأمنية
أنا بديلُ الحياة
أنا بداية المُلْك ونهايته
أنا الأنا الثانية
أنا اللذّةُ خارج الجسد
أنا الاطمئنانُ أمام الموت
أنا الحاجزُ ضد الوحوش
أنا الدفءُ فى الشتاء، والنسمةُ الباردة فى الصيف
أنا الابتسامةُ الواثقة أمام البحر
أنا الأجملُ من الحديد فى السيوف
ازرعنى فى العقول، لأكونَ الهدفَ والسعى
ازرعنى وسترى النشوةَ على الوجوه
اجعلنى غايةً، اجعلهم يلهثون خلفى
اجعلهم ينقبون عنى فى الصحارى وفى كهوف الجبال
اجعلهم يقتتلون بسببى
اجعلهم يحلمون بى حتى تتسللَ منهم الحياة
اجعلنى الجنونَ والسمَّ والعشقَ والقتلَ والمجونَ والجحودَ والنكرانَ والعقوقَ،
فتصبحَ أنت الوحشَ الكامنَ فى كل طفل.
……
الطمعُ قفز فى الهواء: وجدتُ نفسى
سأهزم القتلَ
سأتغلبُ على الشهوة
وأدوس على الشراهة
ولن يقف الغرور فى طريقى.