وفِّر وقتك ونقودك، هي لا تأخذ نقوداً من أحد، ولا يمكن لها أن تبيع جسدها بنقود الدنيا، لا تستغرب إذا قلت لك إنها تدفع أحياناً، لا لأنها ليست جميلة أو جذابة، لكنها قد تفعلها حصراً وعلى الهواء مباشرة لواحد فقط، واحد بعينه يستطيع أن يخرج لها العفريت من قاعها أو يصيبه في مقتل، العفريت الذي يسكنها لا ينغص عليها حياتها، بل على العكس تماماً ، لكنها محتاجة لمن يستطيع أن يحك لها الفانوس بلطف ثم يدعكه بقوة، يعصره ويسحب لها المارد الذي تحلم برؤيته وتتخيله كل يوم، ثم يعيده بقوة مرة أخرى.
كل يوم تتدحرج إلى المقهى قبل العصر، تضع جهاز الكمبيوتر أمامها ، تكتب وهي تدخن سيجارتها بأناقة زائدة، بساق ربع عارية فوق ساق نصف عارية ، كممثلات أدوار الإغراء في أفلام زمان ، وببطء متعمد ترشف قهوتها.
يقولون إنها تعمل صحفية بالقطعة، بالموضوع، مزاجية لا تحب الأعمال المستقرة، تكتبه وترسله، وبين يوم وآخر تفرد الصحيفة، تفرد وجهها إذا وجدت اسمها، مبتسمة تمد ذراعها البضة بدلال معقول، تشير بلباقة لواحد من الشباب تسأله أن يناولها نسخة أخرى من الصحيفة نفسها ملقاة على طاولة أو كرسي قريب، وبحركة محسوبة تبدو في غاية العفوية تريه اسمها وموضوعها، لا تختار أي شاب، تنتقي واحداً بعينه حسب حالة الطقس عندها اليوم أو في اللحظة ذاتها.
كل يوم تنادي واحداً غير الآخر.
قلت لك من البداية لا تشغل بالك بها خاصة إذا كنت قد تسلقت الثلاثين من سلم عمرك فما فوق.
تنتقي واحداً في منتصف العشرينيات، النصف الأول تقريباً، لا يزيد، واحد من الفروخ.. الشباب الصغار ، شباب الوجه والبدن، تحكي معه، تريه اسمها المنشور في الصحيفة، تمد ذراعاً للأمام خفيفاً، تكشف معه صدرها المكتنز الرابض تحت ديكوليته بفتحة واسعة منخفضة دائماً ، وإن اندست أجنابه تحت قميص شفاف، حوصر محاصرة عنيفة بمشد قاس ليهيىء للدوران المرتفع المحشور في بعضه أن يواجه وجهك بشجاعة، بتحد واضح وربع المفرق أو نصفه في مفرق عينيك.
واحد من هؤلاء الذين ينفقون وقتهم هرباً من جامعة أو انتظاراً لفرصة عمل لا تجيء، يتسكعون داخل المقهى بشعر مضروب بالجل كأسلاك لامعة مدببة، يتصفحون فقط أخبار الرياضة، بالتبادل، وحين ينتهون – أحياناً قبل ذلك – يتعاركون حول الهدف الملغي في مباراة الأمس، والحكم المزور المرتشي.
يتصايحون، لا تكاد تسمع جارك من اختلاط أصواتهم، من تلاحقها واندفاعها.
دوامة دائمة، كأنهم يصنعونها عمداً، ليهربوا، ليغيبوا فيها.
الصوت العالي، الفتوة وخشونة الصبا اللتان تصاعدان منه هما بالتحديد ما يجذبها، لا يعنيها الهدف الملغي، تبحث بشغف عن الهدف الصحيح، شرطها الوحيد أن تلعب دور حارس المرمى.
هدفها واضح، تتوفر كل يوم في أحد الموعدين السابقين حسب التوقيت المحلي لشهوتها حيث يتجمع الشباب الصغار فيهما.
هي عضوة مؤسِسة في المنتخب الوطني للحمام، لكنها كما أخبرتك سابقاً مختلفة، تدخل الحمام الآخر حمام الرجال، تندفع خلف شاب بعد أن ينتهي مباشرة، أحياناً تدخل مرتين أو ثلاثاً، تشم رائحة البصل المتصاعدة، تستنشقها بأنف مفتوح، تقول بثقة العارف وبنظرة مراوغة :
– هذه الرائحة دليل صحة وعافية.
تختار من أعجبها بصله، وإن تعذر عليها تختار أكثرهم فتوة وشباباً، من تتقد في عينيه نظرة معجونة بشبق طازج، لمحة إغواء.
للشباب رائحة، كما أن للعذراوات رائحة، له علامات في الوجوه ولمعة في العيون.
لا تختار أبداً واحداً بشفاه رفيعة، وحين يتعذر المخزون أو تشح البضاعة تنظر بتمعن بالغ لأصابعهم، تختار صاحب الأصابع الطويلة الممتلئة، الخشنة منها.
– الناعمة يذهب بها لأمه.
تضحك ويهتز جسدها في إثره.
على أعتاب الثلاثينيات، ربما في بداية النصف الأول، صارخة البياض، بعيون لا تعرف إن كانت زرقاء أم رمادية، وشعر بين الأصفر الداكن والبيج الشاحب، خيوطه خشنة كشعر مفرق الفرس في أوانها، يشبه شعر البنات في أستراليا أو كندا التي تراها في الأفلام والمسلسلات.
تقول له وهي تشد خصلة لأعلى بدلال :
– مثل شعر الممثلة نيكول كيدمان قبل أن تصبغه هي في آخر أفلامها.
باربي، عروسة من لحم ودم، بياض أليف رغم شهقته، فوق وجه رائق حين يضحك، باسم إذ يتكلم، يتكلم وحده، فلجاء باسمة تقول بنظرة المنتصر :
– رزقي واسع من يومي.
لكنها – للأمانة – لا تتنظر رزقاً يسقط بين رجليها، تطبخه وحدها وعلى طريقتها الفائرة، وسفافيد الشوي والفرن جاهزة عندها.
الشاهد- وحتى لا أطيل عليك أو عليها – تختار الشاب الذي رسا عليه المزاد أو وقعت عليه القرعة، تجره بشهوتها تسحبه بهدوء، تخطفه من كوابيسه، يخرجان معاً، والدعوات تلاحقهما.
في سيارتها، في منتصف الطريق إلى دارها، تشحذ كل أسلحتها، وبدلال وافر مغلف ببعض من حزم، تتسحب يدها على ساقه وتلقي عليه بيانها الافتتاحي :
فرصتك جاءتك لحد عندك، خذها كاملة، لا تتعجل، خذني براحتك، على مهلك، على أقل من مهلك، لا تترك قطعة في جسدي إلا بعد أن تلين وتشير لك أنها استوت، إلا بعد أن يخرج الجنود من المخفر المجاور ليلاحقوا تأوهاتي ويطاردوا العفاريت التي فرت من قاع البئر.
اجعل المقدمة الموسيقية طويلة قدر ما تستطع، كانوا يسهرون مع أم كلثوم للصباح، الأغاني القديمة وجبة معمرة تحقق لك الطرب والنشوة، الجديدة سريعة متشابهه تفر من المستمعين، خل زيارتك طويلة ما استطعت، أنا من سلالة قوم كرام، الضيف له ثلاثة أيام، والمعشوق له ما استطاع إلى جسدي سبيلاً.
افعل كل ما تحب قبل أن تدق باب المغارة، الذين يحومون جيداً حول الخيام ليسوا كلهم لصوصاً ، كن كلص يعرف أن غنيمته تناديه، للدخول آداب وللزيارة طقوس، اترك أمر البخور والموسيقى لي، حذار أن تترك قطعة فيَّ تعتب عليك، أو تغار من جيرانها، أيقظ الغيرة بينهن ، أوقدها، دعها تشعل قلب الذي ينتظر، وتولع قلب الذي انتهى دوره.
احلم بمكيدة بين الجميع، دبرها، دسها بعينين مغمضتين، المكائد للنساء، والمكائد في الفراش للرجال، أصابعك ليست للعب الورق ولا لوضع الشوكة في اللحم، شفاهك ليست بوابة للأكل والشرب والقبل السريعة الخاطفة والحديث عن الأهداف الملغاة.
غُص إلى الأعماق كبحار محترف يفتش بلوعة عن لؤلؤة نادرة، تمعن وبنفس طويل عميق شم روائحي، الرجال الذين لا يعرفون الروائح لا تسجل أسماءهم على لائحة الخلود في معابد النساء، لا تترك منحدراً أو مرتفعاً دون أن تطبع عنوانك عليه، الكثبان المتموجة سوف تساعدك على التريض بسعادة وتدلك على طريق الغابة، اقض وقتاً جيداً بين أشجارها حتى يفتح لك حارس الغابة، اللعب في الغابات يطيل العمر، وحين تشعر أنك تقترب من الساحل هناك قبة عالية، مسها برهافة، مسها مس المخبولين حتى تنز مطراً خفيفاً أو عسلاً ثقيلاً، البوابات تدل على الديار، النواقيس تدل على الدواخل، أسفلها غيمة واطئة، هناك سوف تشم رائحة حمضية حلوة، استنشقها كتائه فوق جبل حتى تملأ خياشيمك، دعها تمر لعروقك، الذين لا يعرفون هذه الرائحة ضاع منهم نصف أعمارهم.
تطلق ضحكة عالية لتقطع المراسم، تضغط باليد على أعلى الفخذ، تغير اتجاهها نحو المزانق.
فرصتك وحدك، اختارتك هي، لا تجعلها تندم على فعلتها، الفرص الكبيرة تأتي مرة واحدة في العمر.
أنت الآن أمام باب القلعة، افتحه بالحيلة، الذين استخدموا القوة ناموا ليالىَ طويلة وخسروا قائدهم نتيجة اندفاعهم وارتدوا منهكين، لم ينفعهم البكاء ولا المنجنيق، دع سهامك تطيش هنا وهناك حتى يسترخي وحده، وتتأكد أنك تسمع بنفسك صوت مزلاجه، دع أخطاءك تدل على قوة إصاباتك، تقدم، الآن تقدم، دق عليه دقات متتالية متتابعة هادئة، وحين تسمع صوتاً قادماً من الداخل يناديك أو رأيت جندياً يلوح بالعلم، ادخل من الباب، ألق تحية السلام سريعاً، احفر اسمك بقوة على لائحة الفاتحين، واركض ثم خفف الوطء.
حاذر إن دسست وألقيت حمولتك ثم قفزت من السور سريعاً، حاذر أن تفعلها، النصيحة للأحبة، الزوار المتسرعون مكروهون، الزوار المتعجلون مطرودون، لن يسمح لك بالزيارة الملكية مرة أخرى.
زُر كل الغرف في الداخل، تجول على مهلك كسائح غني شغوف، تنقّل من بيت على اليمين إلى آخر على اليسار، دق الكهوف عنيفاً حتى يفتح لك النائمون منذ قرون، هنا يمكن أن تكون عنيفاً، كي يخرج السكان من مخابئهم، هشهم بعصاك.
زُر الأركان التي يخافها المرتعبون، لا تترك ركناً يلعنك، عد على مهلك،لا تدر ظهرك سريعاً، ودِّع من تشاء بحرارة، عد سعيداً إن نسيت أحداً، غنّ أغنيتك قبل الأخيرة، غنّ أغنية الجنود الفائزين، وادفع ماءك بقوة في قاع البئر، ودَعْه ضاحكاً يروي عطش الساكنين.
اسكب روحك هناك يا صغيري يا صغيري.
استرح الآن فقد تعبت، نم عميقاً بداخلي حتى ينام الفاتح وحده، ولا تستيقظ – أمَّنْتُك- قبل أن تتأكد أن النعاس قد غلب الجميع، والعطش قد أصبح في خبر كان..
استحم في الماءين المختلطين، في المزيج الذي لا يعرف سره أحد، الماء الذي لم يصنع من قبل، الماء الدافيء شعار المحبة والحياة.
لا تقفز فوق السور، لا تهرب كاللصوص، اهرب كصاحب مطرح.
قلت لك لا تتعجل، هي زيارة واحدة، هي الفرصة الأخيرة لمحكوم عليه بالإعدام، لا تنس إن نجوت أنك قد – أقول قد – تعود مرة أخرى لزيارة محكوم عليه آخر ذات يوم.
تضغط بأصابعها على ساقه :
– افعل كل ما حلمت به، كل ما حكى لك عنه أصحابك صدقاً وكذباً، بالذات كذباً، ما رأيته خلسة من أفلام، ما طاف بخيالك وما لم يطف.
تضحك كقطة مجنونة، يدها على ساقه على وجهه وتقود باليد الأخرى.
انتهى البيان.
ملكة النحل ليست في مملكة النحل فقط.
كل يوم تنتقي واحداً بالبصل، بالأصابع، بقوة البدن وجماله، تستهدف أجسادهم بمقدرة عالية على الإقناع، كلهم في عمر الشباب، شرطها الأصيل.
تغيرهم بسعادة كما تغير ملابسها الداخلية، عشرات الأطقم لعشرات الغزوات، ليس سأماً كما يمكن أن تظن، بل تنوعاَ والتنوع ثقافة، غنى وغواية.
يقولون إنها أنهت مقهى كاملاً من قبل، وإنها الآن في مفتتح عصر النهضة في هذا المقهى..
اكتبوا ذلك على صدرها.
جسدها المكتنز قليلاً، برجرجة خفيفة دون أدنى ترهل يسبح بقوة تحت تنورة ناعمة حريرية، من الشيفون غالباً، حتى تتحرك المعدات الثقيلة بحرِّية، وتتأرجح على راحتها بلمعة الحرير الدافئة وملمسه الناعم.
مس الحرير على الجسد، احتكاك الخفيف يولد أقوى شرارة.
الجينز سوف يقتل حرية أعضائها الوافرة أو يحدد لها أغانيها، وهي تحب الحرية ولديها ألف دليل، التنورة الحرير تشعرك أن الأعضاء تومىء ولا تصرخ.. السكان يهمسون ولا يصرخون.
مائة شاب تعدهم على أصابعها البضة، كأنها تحقن شبابهم في شبابها، تنظر إلى وجوههم فترى وجهها، يمنحونها الإحساس الطري بأنها طرية وصغيرة.
الكهل الذي تزوجته في لحظة حساب خاطىء في مقتبل العمر لم يسقها لبناً ولا عسلاً، سقط سهواً على أعتاب البوابة في عام الفتح.
لم يكن في نيتها الزواج، رأت أباها وأمها في عراك لا ينتهي كل يوم، حياة على أطراف الجحيم رغم الثراء وراحة العيش.
رأت كلاً منهما يزوغ من ملعبه ليسجل أهدافاً غزيرة في ملاعب أجنبية، ثم يضحكان على بعضهما بالعراك، عراك مفتعل والحرب في مكان آخر.
تبتسم بمكر حين تقرأ في إحدى الصحف أن فريقاً فاز على آخر بهدف نظيف.
تلتفت ناحية ألفه الجالسة على مقربة منها، تتناثر الألفاظ راقصة من بين فلجتها :
– الأسود عليك يجنن، رشاقة وأناقة.
وألفه ترد بحاجبيها :
– ولكن عليك بالأبيض، يزيد الجسد شباباً.
لا تحتاج وصية من أحد، ترد عليها بثقة :
– لا توصي حريصاً ولا عاشقة.
ألفه كانت في حكايتها، الفارق الوحيد أن باربي تستطيع بدقة أن تحسب عدد الغزوات وعدد الفاتحين، وتستطيع أن تؤرخ لهم في مملكة جسدها المترامية، ويمكن لها بصدق أن تشيد النصب التذكاري للجندي المعروف.
باربي الصغيرة المكتنزة قليلاً وجه ببراءة الكبار، وجسد شاب عامر بالخيرات لا يفوتها أن تلقي بيانها الختامي دون كلمات، تربت بيدها بضحكة طفولية وعشر دينارات للشاب المأسوف عليه ليعود وحده بالتاكسي، وعلبة سجائر وكارت شحن لهاتفه وقبلة طويلة على الخد، وتلويحة قوية سريعة بقبضة يدها كأنها ترمي منشفة لملاكم في أرض الحلبة إيذاناً بالانسحاب من المباراة قبل أن يقتله الملاكم الآخر.
– صفف شعرك جيداً جهة اليسار.. ناولني المفاتيح.. لا تنس هاتفك.
……………………………………………………………………………………………………………….
………………………………………………………
الدنيا التي خبرتها من قبل كانت زائفة، وهي تريد قلب الأشياء، كبدها، زبدتها، قررت أن تعيد صياغتها من جديد على طريقتها، طريق باتجاه واحد، هروب إلى الأمام، والهروب إلى الأمام أحياناً ضروري بسيارة لا يركبها شخص واحد مرتين.
كلعبة عاشت وغاصت سعيدة فيها، حاكتها على مقاسها المكتنز قليلاً لتصدقها، زمامها في يدها، زمام الحكم، وشعبها في مملكة المقاهي تختار منه وزيراً كل يوم، وزراء بألوان ملابسها الداخلية تماماً.
شهريار في إهاب أنثى، لكنها لا تقتل مثل سميها، تطلق سراح الجاني بعد أن نفذ جريمته على خير وجه، هي تحب وتحيي حتى لو قتلته داخلها.
هي أفضل من شهريار ولا تحتاج حيل شهر زاد البائسة.
الفارق بينهما كبير، هو ينتظر نافد الصبر نهاية الحكاية ليرتوي من الدم والشك، وهي تطبخ على نار هادئة لترتوي من العسل.
يريد أن يقتل وينام، وهي تريد أن تُقتل لتنام، هو ينام بائساً لم يركب ولم يأكل ولم يقتل، وهي تنام سعيدة رُكبت وأكِلت وقُتلت وقَتَلت الآخرين لتحييهم.
حتى هي أسعد من شهر زاد التي تفكر كيف تتحايل لتنجو من بين يدي القاتل، وهي تختار قاتلها بسيف يحييها.
ذلك ما يمتعها، يرضيها، لكنها تنهب الأرض تبحث عن المزيد، تروم واحداً يرمم شبقها، يسد كل شقوقها، ويفتحها على كل الجهات.
والمزيد دخل المقهى الآن، واحد طويل، لا يعرف له لقب، ظل اسمه لفترة طويلة محمد الطويل ثم انقلب مرة واحدة بقدرة قادر وربما بفضل فتوحاته المتكررة إلى محمد شهريار.
تتطلع إليه، تكاد تشفطه بعيونها رغم أنه في منتصف الثلاثينيات، تخطى الخط الأحمر الذي حددته لأعمار من تصاحبهم، لكنه حكاية لوحده، حكاية كبيرة، ويمكن أن يجمع كل فتيانها بين ساعديه وساقيه، في فتوته، فجأة تفكر- ولأول مرة – أن تخرج على نص المعاهدة التي وقعتها مع نفسها، تمزقها، أو تعتبره مذكرة تفسيرية لها، كان مختبئاً في الحواشي تأخذه وتضيفه، لكنه في واد آخر لا يكاد ينظر إليها أو يسلم عليها، يومىء برأسه ويمضى هارباً، ورغم طوله ووفرته وجاذبيته الآسرة إلا أنه يسلم على من يعرفهم لأول مرة برأس طويل منحن قليلاً ، خجل كجنتلمان من القرن الخامس عشر.
وسيم بوجه مشتعل وعيون خطرة، عضو غير دائم في فريق الحمام القومي، على دكة الاحتياطي بروح قناص وعيني صقر ، لا يتزحزح من مقعده إلا إذا دخل صاروخ بشري إلى الحمام، والصواريخ أشكال وأنواع، يتسحب برأسه المنخفض كأنه لبس طاقية الإخفاء، كأنه يداري نفسه عن العيون، يقترب بشبح ابتسامة ماكرة من فريسته ويلقي بيانه الافتتاحي مثلها، هو في الواقع لا يملك بياناً، هو لاعب صاحب قاموس، مبرمج بعبارات متنوعة يحفظها، لكنه يلقيها كأنها بنت اللحظة، كأنها فاجأته لتفاجىء فريسته.
حين يغسل الصاروخ يديه الناعمتين في الحوض، يمسح يديه في مناديل الورق، يقدمها لها ويقول : يدان يجب أن تلفا في حرير، يا خسارة، ليس عندهم حرير لتمسحي يديك فيه، لو أعرف أنك ستجيئين لأحضرته معي، يا خسارة لو كنت وسيماً لأخذت رقم هاتفك، في التو تضحك وتمنحه رقمها.
كثيراً ما تأتيه الأرقام تجري وحدها، تعبر واحدة أو اثنتان، تلطشهم وسامته وبدنه الفارع ومؤخرته العريضة المتماسكة التي تشي بمقاتل من الطراز الرفيع في الفراش، عنده سيارة وملابس آخر موديل ولديه ورشة لغسيل السيارات، يتوقفن عنده وهن ساعيات عائدات من الحمام، يسحب طرف الحديث معهن بطريقة طبيعية، كأنهم كانوا يسبحون معاً في البحر أمس ، ثم كأنه ينومهن مغناطيسياً يلقفن هاتفه ويكتبن أرقامهن.
للأمانة إستراتيجيته مختلفة وناجحة، انتظر قليلاً وسترى، لا ينام مع واحدة من أول مرة إلا نادراً، إلا إذا غلب ماؤها ماءه، يسحبها بخفة لملعبه، البساط الأحمر للفاتنات ولصاحبات القوام المثير، جنتلمان كريم، مسل ظريف إلى أبعد حد، يلاعبها كأنثى عنكبوت حتى تقع في شركه الذي نصبه بالغراء والعسل ثم يمص رحيقها على مهله، العسل أنواع وهو متحفز مدمن للقطفة الأولى.
صياد والصيد غواية، داء المبتلى، ومخالبه طويلة مثله.
ما من مرة دخل المقهى فارغاً، كل مرة تتأبط ذراعه واحدة أحلى من الأولى، إلا إذا كان يفتش عن مغامرة في الأفق ترضى غروره، عن عصفور طائر في الأعالي ليصطاده، أو يمامة يفرد لها شبكته أو يبحث -وهذا أمر نادر- عن هدنة.
ومن آن لآخر يضرب فخذه براحة بيده، يقول بصوت عالٍ : “الدنيا ريشه في هوا”.
في الغالب لا يصطاد من المقهى، لا ينسج شباكه إلا لواحدة لم يستطع أحد الوصول إليها، أعز معاركه تلك، أو يلقط وجهاً غائبا متوارياً بين الوجوه ، بعين الصياد الماهر ينتظر بمكر بارد وعلى نار لحظة قيامها من طاولتها، يترقب لحظة عبورها أو دخولها المبارك إلى الحمام المقدس ليتسلل، يغسل يديه ويعزف مقطوعة الحرير.
مشكلته البسيطة والوحيدة كيف يغسل يديه منهن بعد أن غرف ما طاب له، أو عندما يلوح في الأفق صاروخ من طراز جديد، هو طيب له قلب حنون لا يحب أن يكسر قلب واحدة، لكنه على أظافر قدمه الأخرى منتصب ينتظر أقل فرصة تلوح له ليغلق الموضوع، وينتقل بخفة وسعادة إلى جولة جديدة كأنها الجولة الأولى.
جيش البنات اللواتي وقعن في حبائله لا تجرؤ واحدة منهن أن تخرج من بيتها أو جامعتها لمشوار مع أحد دون أن تأخذ الإذن منه، زعيم كبير، القائد يجعلك تثق به وتسير معه، والزعيم يجعلك تثق بنفسك، تسبح بحمده وتمشي خلفه.
يضحك أحياناً بخفر مخلوط بغرور : الحكاية مش سايبة.
يحكم من بعيد كإمبراطور إفريقي، كطاغية وسيم، شعبه النسائي موقن أنه يرى كل حركاتهن ويسمع ما في صدورهن وهو نائم.
محمد كازانوفا في صورة زعيم، إن أعجبته واحدة رآها مع أهلها وصعبت عليه الحكاية يترك رقمه في ورقة معطرة تحت مسَّاحة زجاج سيارتها، ما من مرة استعمل النادل ليرسل معه رقمه لفتاة ولا دفع الحساب مسبقاً ليعرف واحدة، لا يؤمن بالمشاركة في الصيد، لا يشعر معه بلذة القنص، وحين يرى ما يفعله مجيد اللبناني ليتعرف على الفتيات يقول بقرف :
– بهيم وساقط.
– هذا للساقطين وعديمي الحيلة وللذين تسبق شهواتهم ألسنتهم.
في الطريق إلى المقهى ينظر بعينيه الساحرتين الميتتين لمن تقود السيارة المجاورة، يطلب منها بأدب وإلحاح أن تُنّزل زجاج سيارتها، يقول بسرعة :
– السيارة جميلة، لكن صاحبتها أحلى..
هل تبيعينها ؟
يرمي رقمه من النافذة وينتظر المطر.
خططه البسيطة فتاكة لا تنضب، وشراكه لا تنتهي، للأمانة هو صاحب مبادىء في الغرام رغم كل ما سبق، إذا أعجبته واحدة يتقدم مباشرة إليها، وإذا فاجأته – نادراً ما يحدث- وقالت : عندي صاحب، لا يهتز ولا يتراجع ولو قالتها بحزم ، يسألها بحنان طري، بعيون نصف ضاحكة يلعب فيها ثعلب عتيق الشطرنج مع ابن صاحبه :
– هل تحبينه ، حلفتك بالله ؟
إن أجابت بلا أو سكتت يدخل في اللعبة فوراً، ينتزعها من صاحبها ومن دنياه إلى دنياه.
وإن قالت: نعم أحبه،لا يدع الأبواب تنغلق ، يترك المسألة للصدف، وقبل أن يمضي لا يترك أرضاً دون فخاخ أو خطاف، لكنه لا يقترب منها أبداً على أية مسافة بعد ذلك ولو صدفة، يقول بشجاعة:
– لا أنام معها طالما تحبه ولو أعطتني كل فلوس الدنيا ولو أتت بغواية زليخة.
مامن مرة باع مبادئه أو خرق قانونه ولا أدخل تعديلات دستورية على معاهدته، ما أفلتت من شبكته غزالة غير واحدة، لم يجد معها باباً ولا شباكاً ولا سبيلاً، حاول من بعيد ومن قريب، ضرب في كل الجهات وغنى في كل الفصول، رمى قاموسه بجلدته عند عتبتها، ورجع ذليلاً مكسوراً مثل جندي خسر المعركة وأسروا سلاحه، في النهاية اضطر أن يُخرج الاحتياطي المركزي والأمن المركزي، أن يدخل مغصوباً تعديلاً خفيفاً على قانونه، راح يطاردها بسيارته ، خلف سيارتها أينما سارت، وفي لحظة يأس لم يتعودها طيلة مشوار حكمه دخل فيها من الخلف.
بلطف شديد وانزعاج غير موجود اطمأن عليها، أحنى رأسه الطويل حتى منتصف صدره، عرض عليها أن يصلح العطب، يدفع لها قيمة الإصلاح فوراً، أو يشتري لها واحدة جديدة.
بلعت ريقها وبغمزة حراقة ابتسمت، بوضوح وحزم، وضعت سبابتها على أرنبة أنفه وقالت :
– وحدي.
– نعم !
– وحدي وحدي، ولا واحدة أخرى معي.
بمرارة ساخنة قرر أن يعتزل، يودع ملائكته، ويسلم أرقام هواتف الغزلان التي ترقد سعيدة في هاتفه لأصدقائه الذين ينتظرون مباراة اعتزاله أو حفل زفافه بفارغ الصبر والشوق ليخطفوها ليغنموها منه.
وبدأت الاستعدادات، أغلق هاتفه لأيام، أخذ رقماً جديداً وكتب فيه اسمها، أول اسم يكتبه في هاتف، قرر بأسى واضح أن يودع الجميع، لكن ذيل القط لا يستقيم بضربة واحدة ، في أول طلعة من المباراة مع واحدة أخرى، تعثر حظه لأول مرة ، شاهدته بالصدفة التي لا تأتي في الدوري الأسباني مرتين، كالقضاء المستعجل جعلته يراها، سلمت عليهما وقالت : مبروك، أعطته ظهرها وقطعت الطرق الرئيسية والفرعية.
كنس عليها الجوامع والبارات، أطال ذقنه وماتت ابتسامته، توسل لها برأس سيدي أبي الحسن الشاذلي وحلف برأس الزعيم بورقيبة.
ببرود قالت :
– المباراة ألغيت بفعل فاعل، ولا يمكن إعادتها بسبب فروق التوقيت..
الطلقة خرجت يا شهريار.
وأمه تنهره :
– تزوج ، تزوج يا كازانوفا، هل ستصنع منهن مسبحة يا ولدي !
يمسح الشوارع باحثاً عنها، لا يعثر إلا على طيفها يتراقص بين عينيه، يحج للمقهى كل يوم، يجلس في ركن بعيد، لا يقرب الحمام، يعد على مسبحته الموف أسماء اللواتي ضاجعهن، ينهي المسبحة عشر مرات ولا يصل للخاتمة ، لكنه لا ينسى التسبيحة الأخيرة ولا يصل للرأس الكبير.
كل يوم يتذكر أسماء أو وجوهاً جديدة نسيها في المرات الماضية يضيفها إلى حباتها، إلى ورْدِه، لكنه لا ينساها، لا يستطيع.
يسكر كثيراً ليطرد ملامحها، يرمي بالثلج النائم في قاع كوب الكوكا.
حين يفيق لا يتحدث إلا عنها، يقول :أخاف من الزواج، إن كانت المسألة في الشهوة فشهوتي لا تنتهي، أنا لا أستطيع السرقة، أفعل كل شيء سواها، لكنني سُرِقْت.
شاب وعازب، أفعل ما أحب قبل الزواج و لو نمت مع المدينة كلها أما بعد الزواج فلا.
صامتاً يرمي الكلام للداخل :
والتي كان يمكن أن أعتزل بها صدمتني بعدما صدمتها،
أنا أريد واحدة أنسى بها العالم، تأتي لي بالنوم، والتي كان يمكن أن تفعل أطارت النوم من حياتي.
يلتفت ناحية أبوشندي، يحملق فيه متعجباً من صبره على الجلوس صباح مساء صامتاً على مقعد واحد :
– المسألة ليست رياضة، تلعب وتعتزل، تتزوج وتعتزل، كل واحدة لها طعم مختلف، وأنا أموت في الحرية.
دون قصد ودون معرفة داس على جرح أبوشندي الذي أومأ له وبصوت خفيض :
– نعم إنها الحرية، الحرية، عندك ألف حق، حجر معسل يا بني..
طبعاً، حتى باربي حرة أكثر مني.
باربي تختار ما تشاء وقت تشاء، لها شاطىء وسفينة، لها عجيزة طرية، تدرك تماماً أن الملاح لن يهرب في عرض البحر، وهناك بدل القبطان مائة قبطان.
هي غارقة بلذة حمراء في حكايتها، تريد أن تغنم شهريار بنسائه حتى ترتاح من بياناتها الافتتاحية والختامية، شرط أن يسبيها بصبيانها، متعادلان، ثم يلعبان معاً ويربحان معاً.
تريد واحداً يجردها من ملابسها دون عجلة، واحداً يقطع أنفاسها دون أن تتقطع أنفاسه.
الرجل البارع يعرف من طريقته في فك الأزرار، من حيلته في دس أصابعه، ليعلم الجلد الدرس الأول في النطق بعد الثأثأة، رائحة الأنفاس وسخونتها حين ترتطم بعتبة الجسد، المشدات، يعرف كيف يفك المشدات ببراعة زنديق، يعرف لماذا خلق الله السرة، ويعلم كيف يسفح النبيذ منها ليلة الأحد، ويوقن أن فعل الحب يستطيع وحده أن يسقط الإمبراطوريات حين تعجز الجيوش.
تعرف بحاستها السابعة، حاسة العاهرة العاشقة أنه الوحيد الذي يستطيع أن يجعد لها ملاءاتها، وسطها وأطرافها وأركانها في ليلة واحدة، ولن يستطيع أمهر كواء في المغرب العربي أن يعيدها لحالتها الأولى قبل يوم بليلته من العناء والاستمتاع.
وأنه في النهاية الوحيد الذي سيجعلها تعلن اعتزالها وتترك الملعب دون دموع في قلبها أو حدقتي عينيها.
باربي، جميلة ساحرة وساقطة.
– متى سنلعب معاً يا شهريار ؟
يخفض رأسه :
– بخير يا أختي العزيزة، لا بأس.
ويفر سريعاً.
تعرف من “أخته العزيزة” أنه لا يود النزول إلى الملعب.
– لك وحدك.
تعاود الكرة مرات، لا تجد كلمة سواها، مازال متمنعاً لكنها لا تيأس ولن تيأس، مائة فتى ومقهيان في جعبتها وهدف نظيف دائماً ينتظرها.
تقرر أن تكمل اللعبة، تكتب حكايتها وحكايات الآخرين في المقهى على راحتها وعلى حريتها، تودع الفروخ الصغار وتنتظره كما يليق بحواء جديدة.
تخرج اليوم وحيدة، كانت تطمع في أن تخلع شهريار عن عرشه وتهديه عرشاً آخر، وشهيتها وشهوتها غائبتان دونه.
جهاز الكمبيوتر تحت إبطها، تلمح مهدي المسيحي الأوحد في المدينة والمقهى تقريباً متنمراً خلف الباب بعضلاته نصف المفتولة، هو الوحيد الذي حاولت معه من قبل ولم يسمع بيانها الافتتاحي، في الحقيقة لم يرفضها، لكنه لا يقترب من البنات، مدووش، دماغة في دنيا ثانية، لعله الوحيد الذي اقتنعت ذات لحظة من قبل أنه بيأسه المرير من العالم قادر على أن يشطرها إلى نصفين سعيدين.
جائع لكل شيء وهي تريد جائعاً يأكل بنهم ولا يشبع ثم يأكلها على مهله.
تقترب منه، تبدأ عملية الإحماء، ذراعاها البضتان على حافة الطاولة تحاوطانه، ونهداها الشريفان على حافة الانفجار في وجهه.
– متى تطير معي يا مهدي ؟
– أريد أن أطير لأمريكا.
– أنا أمريكا، حبيبتك أمريكا.
– أنت صحفية وتعرفين كل شيء، أريد أن أذهب لأمريكا وأعمل في المارينز.
– أنا أمريكا، وأنت المارينز، خذني وكن بطلي كما أبطال أمريكا في التليفزيون.
ينفخ، يكاد صبره ينفد.
– لو جئت معي ستسلم يا مهدي.
– لن أفعل إلا إذا أتى المسيح وأخبرني.
– لو نمت معي ستسلم وتنسى المسيح.
– خائف أن أرتد.
– ليتك ترتد.
– ………
– عليك أن تختار بين المسيح وجسدي.
– المسيح.. المسيح.
– تعال معي، ربما تجده في حضني.
النار تصعد من جوفه، والقنابل تكاد تنفجر في وجهه، غارة كاملة منحنية فوق طاولة.
– بعدها لن تفرق معك الديانة، قد تفرق معك أشياء أخرى.
– المسيح هو الحب والحنان وسيأتي سيأتي.
– المسيح عندي.
– عندي أنا.
تمسح شفتها العليا بطرف لسانها، ثم تنفجر ضحكاً :
– أريد أن أرى مسيحك.
يدخل في بعضه، تكتب رقم هاتفها على ورقة تضعها أمامه، وقبل أن تمضي تمس وجنته بلطف، تمسحها :
– رقم حبيبتك أمريكا.
يتجه من فوره بالورقة ليضعها أمام شهريار.
شهريار جالس في مقعده يقلب أرقام هاتفه، ليس هناك اسم واحد مكتوب فيه، كلهن أرقام، يعرف كل واحدة – سبحان الله – من رقمها بمجرد النظر الى نصفه الخلفي ،لم يخطيء مرة.
أرقام المدينة كلها عنده، الرقم الوحيد غير المدون هو رقم الملكة كليوباترا.
مستغرقاً في تفاصيل رعيته، فوجىء بصديق قديم له يلعب معه الورق أحياناً حين لا يلعب ألعاباً أخرى، يدخل متأبطاً ذراع فتاة ، وبعد ترحيب ورأس منخفض، أخذ شهريار على انفراد بعيداً عنها :
– هل تعرفها ؟
وشهريار يرد قاطعاً :
– هذه ! لا.
– تمعن جيداً، أنت ماركة بنات ولا تفوتك واحدة في قارة إفريقيا.
– من أين هذه البضاعة الفاخرة ؟ وأين كانت غائبة عني ؟
يرد وهو يلتقط أنفاسه :
– واحدة وقعتُ في غرامها، وأريد أن أتزوجها.
بصوت عالٍ كأنه فوجىء أو أصيب بخيبة أمل :
– يا رجل !
– أحببت قبل أن أطلب يدها أن أدخل البيت من بابه، أن أمر عليك لأتأكد أنك لم تنم معها من قبل .
……………….
*فصل من رواية “باب الليل”