«باب الليل» لمؤلفها وحيد الطويلة تدخل إلى الإنسان العربى من باب أحد مقاهى تونس، تطلق على المكان اسم «لمّة الأحباب»، وتضعه فى قلب طريق «النصر»، مزيج بين المقهى والملهى، غناء ورقص وألعاب الورق ومناقشات مباريات الكرة، غانيات متفجرات الأجساد، وحمّام يتبادل فيه الرجال والنساء أرقام التليفونات، كل الجنسيات العربية، شحاذون ونبلاء، مجانين وفلاسفة، وريشة فنان بارع ترسم ملامح دنيا ملونة للملذات، مثل تولوز لوتريك.
ولكن مهلًا، لا تنخدع، بعد صفحات قليلة، يقودك الكاتب الرسام إلى الداخل، وراء الأجساد قلوب منكسرة، وخلف الفساتين والأصباغ حكايات مؤلمة، خريطة الملذات العربية السرية، ليست سوى الوجه الملّون لخريطة الخيبات العربية العلنية، الشخصية والجماعية، ومقهى «لمّة الأحباب» ليس فى حقيقته سوى جسر التنهدات، ملجأ الأيتام، مقعد الاعتراف اليومى، بركان الشهوة ليس إلا محاولة للهروب من طوفان الخيبة، وراء معركة البحث عن فاتنة وسرير، محاولة لتعويض الفشل، أو رغبة فى جبر الخاطر، أو فرصة للعثور على برهان بأنك مازلت على قيد الحياة، حياة الجسد فقط، أما الروح فهى مثقلة بما لا يمكن التخفف منه، «عندما ينخفض سقف الروح، يرتفع مؤشر الجسد». معادلة عربية لا تخيب.
يمكن أن تجد معادلا لهذا المكان/ الفردوس/ الجحيم فى كل دولة عربية، ولكن تونس وفَّرت أجواء مثالية لبيت اللذة والخيبة: فلسطينيون لا يستطيعون العودة ولا الحرب، فتيات تختبرن الجسد بأرواح مريضة، رجال أمن وصورة رئيس لا تتغيّر، باحثون عن هوية، آخرون يعانون من تعدد الهوية والأسماء وجوازات السفر، لكل شخصية حكاية، صور قلمية مدهشة، ليس هناك مثيل لوصف وحيد الطويلة لأجساد النساء، هو فى الحقيقة لا يصفهن، ولكن ينحت منهن تماثيل للفتنة، وهناك، ربّة المكان وصاحبته، تصنع دولتها وشعبها العربى الخاص، وطن بحجم مقهى من طابقين، وحكومة لا تصنع أعداء أبدا، وجيش من أجساد المجاهدات، ثورة الحب بديلا عن ثورة أتلفها التجار ومناضلو الميكروفونات، مقايضة سريعة، خذ وادفع أو انتظر دورك، وأهداف تسجَّل فى الأسرّة وحجرات النوم، بديلًا عن أهداف لن تسجَّل أبدا، داخل أو خارج الوطن.
مقهى وحيد الطويلة هو الوطن البديل بامتياز، له قانونه غير المكتوب، ولديه مسابقاته وجوائزه، له أيضًا أغنياته بديلًا عن بيانات الخزى والعار، وعندما تتسرب طاقة الروح تحت وطأة هزيمة الحلم والثورة والحد الأدنى من التحقق، ينطلق عفريت الجسد، ويتحدث اللسان، وينطق الجماد، يتحول طريق النصر إلى مستودع لبوح شخصيات مهزومة، ينفتح الليل عن جرح لا يمكن علاجه، مكانه الروح، ومع ذلك لا يتوقف البحث عن مخلّص، عن مسيح، عن جواز سفر، أو سرير.
كل شخصية يمكن أن تصنع فيلما قصيرًا، وكل حكاية تقول لك إن باب الليل، والوعود الجسدية، يكشفان عن مأساة، ينجح كاتب الرواية فى أن يصف باقتدار الجانبين: الأجساد الملونة، والأرواح المعذبة، ودرّة، سيدة المقهى الأولى، صاحبة الجمهورية، تواصل طريقها بلا توقف، تتغيّر الوجوه، ولا تتغيّر الشهوة أو الخيبة، هنا الحياة العربية المختلَسة والمسروقة، باب الشكوى والفرحة القصيرة، لعبة الصيد والقنص، مادة النجاح الوحيدة فى شهادة طالب راسب، تهرب إحدى الفتيات إلى ألمانيا، تكتشف أن كل شىء هناك أبيض، تعوَّدت على اللون الرمادى، وعلى عقد الاتفاقات فى الحمام، عشقَت الاختلاس، وتحالفَت مع الخوف، وارتبطت لديها اللذة بالتواطؤ، لم تستطع الصمود، عادت إلى لمّة الأحباب.
«باب الليل» تخدعك بأنها رواية عن حضور الجسد، بينما هى رواية عن فقدان الروح، عن «انكسار الروح فى دوح البدن» على حد وصف سيد حجاب، توهمك بأنها رواية عن نساء جريحات، بينما هى أيضًا عن رجال مهزومين، تتوقف أمام اللذة ومواطن الفتنة، بينما هى فى جوهرها صرخة ألم خرجت من فوهة بندقية صدئة لم يعد يستخدمها أحد، ومن قلب مناضل لم يسعه إلا المقهى، ومن لسان شاب لفظه وطنه، فامتلكه حلم واحد هو أن يصبح من جنود المارينز، وأن يقابل المسيح شخصيا، لكى يحلّ له مشكلاته.
رواية تصلح بامتياز لكى تكون فيلما عربيًّا مهمًّا. رواية رائعة، لا أقلّ أبدًا من ذلك.