يُثبت فيلم انجريد بيرجمان تتحدث عن نفسها للمخرج ستيج بوركمان عدم صحة مقولة أن الإنسان ابن بيئته وظروفه فطبقاً لتلك المقولة أو حتى النظرية لم تتعد بيرجمان أن تكون فتاة عادية جدا بل أقل من العادية تتزوج وتنجب للتفرغ لرعاية أبنائها وزوجها ولكن ما فعلته انجريد خلال مراحل عمرها وحياتها هو التمرد، التمرد علي المصير المُقدر لطفلة فقدت الأب والأم في سن مبكرة جداً ولا تقابلهما إلا عند اضطلاعها علي أرشيف العائلة الفوتوغرافي الذي اهتم والدها بتكوينه كونه مصور فوتوغرافي وهو أيضاً من غرس بداخلها حب التصوير، ثم التمرد علي شكل الحياة النمطي لنجوم الفن والتمثيل في تلك الفترة” المحافظة” حتى تعرضت لما أطلقت عليه هوليود في تلك الفترة مصطلح”فضيحة انجريد بيرجمان”، فقد اتخذت قراراً بأن تحيا حياتها كما تحب هي أن تحياها لا كما يريدها الناس أن تحياها مهما كلفها هذا.
البداية والانطلاق من الذاتية
استهل المخرج ستيج بوركمان فيلمه بتعليق صوتي للممثلة السويدية “اليشا فيكاندر” علي أنها انجريد والتي تملك بالفعل صوتاً يشبه كثيراً صوت انجريد إن لم يكن متطابقاً حتى أن المُشاهد لن يشعر بفرق بين التعليق الصوتي المُصاحب للفيلم وبين صوت انجريد من خلال لقاءاتها التلفزيونية المُصورة، ربما لكي يُشعر المُشاهد منذ بداية الفيلم بأن ما سيراه عبر أحداث الفيلم وتتابعاته هو رؤية انجريد نفسها لنفسها ولحياتها، ويُعضد تلك الفكرة عنوان الفيلم نفسه”انجريد بيرجمان تتحدث عن نفسها”، ويُصاحب التعليق الصوتي الذاتي لانجريد صور لمذكراتها المحفور عليها اسمها والعديد من الصور الفوتوغرافية لها ولعائلتها علي مدار مراحل عمرها كي يتأصل داخل المُشاهد ومنذ البداية أن ما سيراه هو ما أرادت انجريد نفسها أن يراه والدليل علي ذلك هو تكوينها لذلك الأرشيف السمعي والبصري لها ولعائلتها، لم ترد انجريد أن تمر علي الدنيا مرور الكرام لكنها قررت منذ طفولتها أن تترك بصمة قوية في تلك الحياة ووعت تماماً أهمية الكاميرا وتخليدها للذكري وللزمن.
أثناء مُشاهدة الفيلم يتبادر إلي الذهن سؤال” هل كانت تعلم انجريد أن أرشيفها سيتم الاستعانة به في عمل وثائقي عنها أم أنها صنعت ذلك الأرشيف لهذا الغرض بالتحديد؟”، وتأتي الإجابة من الفيلم نفسه وعلي لسان انجريد نفسها حينما قالت”أنا أحب أن أكون مشهورة ومعروفة”، وقد عضد المخرج تلك الاجابة علي مدار أحداث الفيلم باستخدامه لصور مختلفة نري فيها انجريد تحمل الكاميرا بنفسها وتنظر لمن يصورها كأنها تري مستقبل تلك الصورة.
خيارات انجريد الحياتية
تبني المخرج بوركمان طريقة السرد التقليدية لسرد أحداث الفيلم دون قفزات زمنية وتبني أيضاً الطريقة التقليدية لصنع فيلم وثائقي عن حياة شخصية تتمتع بشهرة واسعة وهي تجميع عدد من الشخصيات التي كانت علي علاقة بالشخصية موضوع الفيلم للحكي عنها وبالرغم من ذلك لم يشعر المُشاهد بلحظة ملل وربما يرجع السبب لاستخدام المخرج الاستخدام الأمثل لتلك الأحاديث حيث لم تزد فترة تحَدث الضيف مدة لا تزيد عن الدقيقتين في كل مرة نراه فيها يتحدث عن انجريد، وأيضاً لعدم تقليدية ما يُقال عن انجريد حيث لا نراها شخصية ملائكية لا تُخطئ فنجد ابنتها الكبرى “بيا” تنتقد والدتها وتنتقد أسلوب حياتها والطريقة التي تركتها بها وهي صغيرة لتذهب وتتزوج من المخرج الايطالي الشهير روسيليني وتصفها بأنها لم تكن تفكر سوي في نفسها وحياتها وكيفية استمتاعها بتلك الحياة وهو أيضاً ما كررته ابنتها من المخرج الايطالي روسيليني “انجريد”بأنها لم تكن تفكر في أبنائها سواء “بيا” من زوجها الأول أو فيها هيا وتوأمها “ايزابيل روسيليني” وشقيقهما روبرتو حين انفصلت عن والدهما وذهبت إلي فرنسا للزواج من منتج مشهور وتبدأ فصلاً جديداً من حياتها، وذكرت أنها أكث ما كانت تفتقده في فترة شبابها ومراهقتها وحتى وصولها لسنها المتقدم الآن هو شعورها باهتمام والدتها بها وبأخواتها وتواجدها بالقرب منهم.
أيضاً من أكثر الأسباب التي بعادت بين أحداث الفيلم والشعور بالملل هو الأرشيف الهائل والمتنوع للنجمة انجريد برجمان في كافة مراحل حياتها ومواقفها الحياتية العادية وطريقة تعاملها مع أزواجها وأولادها في نزهاتهم العائلية وحتى في بعض اللحظات الخاصة جدا علي سبيل المثال استقبالها لابنتها بيا لأول مرة بعد من عشرة أعوام لم تراها خلالها ولو مرة واحدة وهو ما يُمثل عنصراً هاماً ومُشوقاً فعادة ما يجذب المُشاهد تلك الأفلام التي تتناول السيرة الذاتية للشخصيات المشهورة والمعروفة وخاصة إن كانت جيدة الصنع ولكن في حالة انجريد فعوامل الجذب مُضاعفة منها بُعد الفترة التي كانت تعيش فيها انجريد عن وقتنا الحالي، بالإضافة إلي السحر الذي تتمتع به انجريد نفسها سحر نجمات أربعينات القرن الماضي وتنوع أعمالها ومحطاتها الفنية المهمة علي سبيل المثال فيلمها الخالد كازابلانكا وأدائها لشخصية جان دارك عبر شاشة السينما ثم علي خشبة المسرح أكثر من مرة، تلك الشخصية التي ارتبطت بها من داخلها وشعرت بتشابه ما يجمعها بها.
ختاماً
تنضم “انجريد بيرجمان” للشخصيات القلائل علي مستوي العالم الذين اتبعوا أسلوباً علمياً دقيقاً في تحقيق ما أرادا تحقيقه في حيواتهم وبعد اختفائهم عن تلك الحياة أيضاً، فلقد قررت بيرجمان منذ تفتح وعيها علي العالم أن تُدهش العالم – حسب تعبير ابنتها انجريد – أن تُدهش العالم وأن تُخلد نفسها وذكري وجودها في هذه الدنيا، ففكرت في المهنة التي من الممكن أن تحقق لها أهدافها وهداها تفكيرها إلي مهنة التمثيلـ ثم لم تكتف فقط بسينما موطنها الأصلي السويد لتنتقل إلي هوليود ومع مرور الوقت والتجارب أدركت أنه لابد وأن تكون هناك طريقة أخري غير طريقة استوديوهات هوليود لصناعة السينما فكتبت للمخرج روسليني تطلب منه العمل معه وبالفعل تنتقل إلي مرحلة جديدة ومختلفة في حياتها الشخصية والمهنية ثم تكرر الأمر حين انتقلت إلي فرنسا ثم محطتها الأخيرة لندن. إذن نحن أمام شخصية سلحت نفسها بكل الصفات والمؤهلات التي تؤهلها للوصول لحلمها أولها الشجاعة أو الجرأة وثانيها الذكاء وثالثها وأهمها المُثابرة والإصرار وهي وحدها عوامل تكفل للفيلم حُسن تقبل المُشاهدين له وبقائه في الذاكرة بعد مُشاهدته.