انتقائية الموت

ghazza
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 مريم محمد الخطيب

في بداية الحكاية لم يكن للموت سعر.
کان الموت موتًا.
حدثًا نهائيًّا يُبكي الأمهات ويُغلق الأبواب، لا موضوعًا للتداول، ولا صورة تُشارك على منصات التواصل، ولا مادة صحفية تُفتّش عن “زاوية إنسانية”.
لكن في غزة، اختُرع شكل جديد للفقد: موتٌ قابل للبيع، وقادر على الترويج، ومربح في سوق التعاطف العالمي. هنا، لم نعد نُقتل فقط. نُستهلك. نُحلّل. نُعاد تركيب مشاهدنا حتى تتناسب مع “ذوق المتلقّي”. وصار لدمنا تصميم، ولمأساتنا أدوات تحرير. صرنا أكثر مما يحتمله الضمير، وأقل مما تقبله الإنسانية.

تسليع الحزن: حين تتحوّل الجنازة إلى منتج

تُقتل عائلة في الشمال.

تختار صورة واحدة.

تضاف جملة مؤثرة.

ثم تُرفق بخلفية سوداء: “شارك، أنقذ غزة”.

لكن من الذي يُنقَذ؟

ومن الذي يُنسى؟

ومن الذي يُعاد تدويره مرارًا في كل حملة، كأن دمه صالح لإعادة الاستخدام؟

تحوّل الموت الغزيّ إلى سلعة.

الحزن هنا له سوق.

كل شهيد قابل للاقتباس، وكل صورة لطفل ميت تملك جمهورًا.

كأن العالم لا يسمع إلا إذا وُضعت له المأساة بصيغة ملف JPG.

وكأن الطفل لا يُحتسب إن لم يكن جميل الوجه، نظيف الملابس، يُشبه ملائكة الإعلان.

النجاة الانتقائية: الامتنان كعبء أخلاقي

بعضنا نجا.

خرج من الأنقاض. عبر المعبر. وصل إلى دولة أخرى. لكن النجاة هنا ليست خلاصًا. هي قيدٌ إضافي. يُطلب من الناجي أن يحكي، أن يبكي، أن يشرح. ثم يُطلب منه أن “يشكر”.

أن يكون ممتنًا لأنه خرج.

أن يكون شاهدًا مطيعًا للكارثة.

وأن لا يُظهر غضبًا، أو سخطًا، أو حتى رغبة في النسيان.

في النظام الإنساني الجديد، يجب أن تكون الناجي المفيد.

أن تعرف دورك: بوقًا، لا كائنًا بشريًا.

الناجون هنا ليسوا أحرارًا.

الحرية أُعطيت لهم بشرط أن يتحدثوا عن سجنهم.

الفجوة الاجتماعية: المقتول والمُعلّق على الإنترنت

في غزة، لا يموت الجميع في اللحظة نفسها.

بعضنا يموت على الأرض، وبعضنا يموت وهو يرى ولا يستطيع الفعل.

لكن بعد كل مجزرة، يظهر التفاوت:

من بقي ومن خرج؟

من دُفن، ومن كُتب له النجاة؟

من يعيش في خيمة، ومن صار في شقة بالخارج، يكتب نصًا عن “صمود الأم الغزية”؟

الوجع هنا طبقي أيضًا.

والمأساة موزعة حسب قدرة الوصول إلى الإنترنت.

حتى البكاء صار له طبقات.

صار ممكنًا أن تشعر بالذنب لأنك بكيت بطريقة غير صحيحة.

الزمن المتعفن: حيث لا ماض نافع، ولا مستقبل ممكن

في غزة، لا وجود لزمن فعلي.

لا أحد يخطط للغد، ولا أحد يتذكّر البارحة بوضوح.

كل ما هنالك: اليوم. هذه الدقيقة. هذا النفس.

المستقبل؟

أحجية لا أحد يحلّها.

الماضي؟

کابوس مشوّه.

كل محاولة لبناء سردية زمنية تنهار تحت القصف.

هل نُعدّ وجبة؟ أم ننتظر القذيفة؟

هل نُقبَل أطفالنا قبل النوم، أم نكتب أسماءهم على أيديهم لتُعرف جثثهم؟

هل نحفظ القصائد أم ننسى الكلمات لننجو بالصمت؟

الخوف: رغيف خبز على حافة الهاوية

الخوف في غزة ليس رد فعل، إنه أسلوب حياة.

كل شيء هنا يحمل احتمال الموت:
الخبز، المشي، الكهرباء، الصوت، السكون، الباب المفتوح، الضحكة العا

حتى الحب، حتى الصلاة، حتى النظر إلى السماء.

الخوف من كل شيء، ولأي شيء، ودون سبب واضح.

أنت تمشي على رصيف من القلق، تحمل جسدك كمن يحمل قنبلة موقوتة.

الخوف لم يعد غريزة.

صار أحد مكونات الهوية.

النهاية لا تأتي بالنشيد، بل بالجوع

لا أحد يُقتل في غزة على لحن الوطن.

بل يُقتل الناس على أبواب المخابز، وهم يبحثون عن الحليب،

يموتون وهم يعدّون كم تبقّى من الطحين،

وهم يسألون عن الإنترنت ليخبروا أخوتهم أنهم أحياء،

ثم يُسكتهم الصاروخ قبل أن يُتموا الجملة

مقالات من نفس القسم