أحمد غانم عبد الجليل
شعرتُ فجأة إني عارية تماماً وجميع الجالسين في الكافيتيريا التي لجأت إليها بعد تجوال طويل يحدِقون بثنايا جسدي، وانا شاردة النظرات هنا وهناك، أتفحص ملامح الوجه الذي أطل عليّ من مرآة الكوافير بعد قص شعر رأسي حتى الكتفين وصبغه باللون البني الفاتح، ووضع المكياج الساطع تحت وهج الـ “سبوت لايت”، مرتدية فستانا لم أنزعه عني بعد قياسه في غرفة المرايا المتقابلة الصغيرة، ووضع الحجاب الحريري وثيابي الفضفاضة في كيس رميته في أقرب سلة قمامة، الفستان الجديد زاهي الألوان، يكشف عن جزء من صدري، يبرز خصري وينحسر عند ركبتيّ المستديرتين، كما لو أني لم أغادر المرحلة الثانوية، أو أنني أكتشف أنوثتي مجدداً في أعين الرجال، متحدية إثارة كل نساء المدينة، رغم ما يظهرنّ من فتنة مستغربة ما كنت أرتدي، استغراب لا تتمكن النظرات المتطفلة من مواراته تحت حجب مراعاة الحرية الشخصية في بلاد الحريات.
ها قد أصبحت مثلهنّ الآن، من الخارج على الأقل، لا يربكني أي تمييز ولا ينتفض الخوف في صدري من أن أساق إلى التحقيق مرة أخرى، مع أن الأمر ليس بهذه البساطة، فلربما وجدوا فيه تمويهاً يثير الانتباه أكثر بدلَ استبعادنا عن دائرة الشبهات، خاصة وأني وهاشم ـ زوجي ـ كنا من الأصدقاء المقربين لحسن.
الغريب أنه لم يكن يبدو عليه أي شيء، لا من خلال تصرف أو كلام أو تلميح حتى، بعيدأ كل البعد عن ذلك الإرهابي متسَيد شاشات الفضائيات، حسن الذي يهم بالمساعدة دون سؤال، يقرض أصحابه وأصحاب أصحابه أيضاً، غير مكترث بسداد الدين، بل ربما ينزعج ويحنق كالأطفال، كأنه يريد التخلص من النقود بأية طريقة، نقود لا يظهر تأثيرها على مستوى معيشته، كما لا يحتار في ذكر مصادرها، فهو هنا منذ عقود ودائم التنقل من بلد إلى آخر، وغير أمر النقود يستطيع تدبر فرص عمل مناسبة، غالباً ما تكون صعبة المنال، عبر اتصالاته الهاتفية، فعل ذلك مع هاشم قبل عدة سنوات، عندما أوجد له عملاً في شركة أكبر من الشركة التي استغنت عنه ضمن عدد من الموظفين كي تحافظ على كيانها من الانهيار.
حسن انتحاري! وعلاقاته النسائية المتعددة، وإسرافه في شرب الخمر الذي كنا نلومه عليه، من أجل صحته على الأقل، تطرفه (السري) كان يحلل له كل هذا، أم أنه تحول إلى شخصية أخرى، في غفلة منا جميعاً، لسببٍ لا ولن يدرك سره إلا الله، مات ومعه غموضه وتركنا في حيرة التساؤلات ودهشتها، نُبذنا معه عن دنيا خيمَت علينا طمأنينتها إثر عناء بحث عن مستقر نبدأ فيه من جديد، وعلى ما يبدو ليس لبداياتنا من انتهاء، كما ليس لتنكرنا من انتهاء.
أكان في حجابي أيضاً بعض التنكر، أو بالأحرى تقمص شخصية انتزعها مني ذلك الانفجار المفزع للجميع!
لكنني ارتديته عن اقتناع كامل وأنا في الكلية، ربما بتأثر من بعض زميلاتي وصديقاتي في بادئ الأمر، إلا أني تشبثت به أكثر لدى قدومنا إلى هنا، وإن كان سبب حرماني من عدة وظائف تقدمت لأجلها، رغم حاجتنا إلى كل مصدر دخل، خاصة في الفترة الأولى لغربتنا، هاشم من جهته لم يود التدخل في هذا الشأن، محترماً حرية اختياراتي منذ بدء علاقتنا، مع أنه أخبرني أكثر من مرة عن عدم اقتناعه بجدوى حصانة الحجاب للمرأة، اغتظت من رأيه لحين، لكني في النهاية وجدته اختلافاً من اختلافات وجهات النظر بيننا، لن تتسبب بأي صدع في قوة حبنا ومستقبل زواجنا، وهذا ما حدث بالفعل.
بهتَ وجهه لدى رؤيتي في هيئتي الجديدة، ولم يعلِق بكلمة، متفهماً سبب قراري المفاجئ، يستقرئ ما بداخلي عبر نظرات كانت دوماً أبلغ من أي كلام أو نقاش، وفي هذه المرة أراد كلانا اختزال الكثير في صمتٍ متوتر، مضطرب من مجريات الأحداث وتداعياتها علينا، ويكفي ما أخبرني به عن تخوفه من قرار فصله، فقط لأن صديقنا الانتحاري كان سبباً في توظيفه، رغم إثبات كفاءته في العمل، وعن ما يثيره من نظرات متشككة، توَجس التعامل معه من قبَل زملائه الذين توطدت علاقته ببعضهم إلى درجة الصداقة، والصداقة الحميمة أيضاً؛ أما أنا فقد تهت وسط الطريق، مرفوضة من صديقاتي المحجبات والملتزمات بإقامة شعائر وفروض الله في أي مكان ومهما كانت الظروف والتحديات، بتعصب لم أفطن إليه فيهنّ سابقاً، وكذلك صديقات أخريات كنّ مقربات جداً بالنسبة إليَ، رغم كل اختلافاتنا، أخذنّ بالابتعاد عني شيئاً فشيئاً وبحجج واهية مختلفة، اختلقتها المخاوف من كل ما قد يصدر عنا، نحن الأغراب، وإن لم يبدُ من تصرفاتنا ما يدعو لمجرد وهم الشك، والأهم من كل هذا ما صار يواجهه أبنائي في مدارسهم ويعود بهم إلى البيت ساخطين وناقمين، وحتى كافرين بكل شيء، بكل ما حاولت ووالدهم تربيتهم عليه منذ بدء وعيم في سوح بلادٍ أبحرنا نحوها قبل ولادتهم، محتفظين بوطننا الأصلي، وبأقصى ما نستطيع من تفاصيل، بين جدران كل شقة ودار صغيرة احتوتنا.
الآن فوضى الوطن أعلنت عن صخبها هنا أيضاً، ما بين صراخ وشجارٍ ونقمة على حصار لا نعرف وسيلة للفكاك منه، وإلى أين هذه المرة؟
صرت أنزوي في غرفة النوم، يصلني ضجيج الأولاد، يشاركني بكائي الطويل، وينتابني ذات الخواء الذي كان يدركني في نوبات مفاجئة وحادة من الاكتئاب، حسن كان الأقدر على تخفيفه، حتى من هاشم الذي صار سريع النفور من حالات ضعفي فيما يواصل البحث عن سبل استقرارنا في بلدٍ غريب يطل على بحر الشمال الشاسع كما لو أنه يفصله عن الدنيا، دنيانا القديمة تحديداً، لباقة ذلك الصديق الضحوك التي تبدو غير عابئة بشيء في معظم الأحيان، ومهما جثمت الهموم فوق الصدور، كانت قادرة على وهب الطاقة الإيجابية لكل من حوله وببساطة مريحة تسري في القلوب، تلقي في نبضاتها طمأنينة مستقبل رحب الآفاق، كيف كان يمكن أن يرسو بعقل أن يكون هو ذاته مبعث كل مخاوفنا واضطرابنا ووعيد اتهام قد يستمر في ملاحقتنا حتى في الأحلام التي أفر منها منتفضة، ومسامي تنزف العرق البارد، يتسرب إليّ من لفح صقيع الصبح الضبابي في الخارج، ابتلعَ أحجبة متنوعة ومتداخلة الألوان، رحت أرقب اختفاءها واحدة تلو الأخرى من النافذة يوم انتقالنا إلى مدينة نائية، وجد هاشم عملاً فيها بامتيازات تؤهلنا للبدء من جديد، ولو عند أطراف الحدود.
…………………..
*قاص وروائي عراقي