الوصايا.. مائة عام في مواجهة الزمن

أحمد القرملاوي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد القرملاوي

لو كانت ثمة وصايا قيّمة، فأهمّها- في نظري- أن تقرأ هذه الرواية، رواية "الوصايا" لكاتبها الروائي عادل عصمت، التي تُعدّ تجربته الروائية الثامنة، وأكثرها زخمًا بالشخصيات وبالأحداث وأطولها امتدادًا على شريط الزمن.

هي رواية أجيال، تحكي سيرة عائلة “سليم” على امتداد مائة عام، من نقطة زمنية متقدّمة (عام 2008) يقف عندها الراوي (الحفيد) وينظر إلى الوراء، ليتأمّل حدثًا وقع خلال عدة أيام قبل ثلاثين سنة (عام 1978)، هو حادث استدعاء الجد لهذا الحفيد “الساقط” قبل وفاته بأيام، لكي يوصيه بعشر وصايا قد لا يفهمها في حينها، لكنها ستضيء يومًا بداخل روحه، كلما اختمرَت تجربته في الحياة. ومن خلال هذا اللقاء بين الجد والحفيد، يسرد راوٍ آخر أوسع منظورًا حكاية العائلة؛ سلسال “سليم”، منذ كارثة فقدان الأرض وحتى قيامة السلسال من جديد باستعادة الأرض عبر السنوات، حين سخَّر الجد علمه بالخرائط والمساحة والقوانين المنظِّمة للحيازات الزراعية في استعادة حقوق الناس، والحصول في المقابل على مساحات صغيرة من الأرض تم تجميعها فيما بعد، ومن ثم بناء الدار المهيبة لآل “سليم” في عهد الرخاء، وحتى ذبول هذه الدار وتبعثُر سكانها في كل مكان.

إنها لعبة الزمن التي يُجيدها عادل عصمت، يمارسها بأستاذية هذه المرة، حيث ينبثق السرد من نقطة زمنية متناهية الصغر، فيتمدَّد لاحتواء حدث يمتدُّ لعدّة أيام، ثم لاستيعاب امتدادٍ زمنيّ يناهز المائة عام. هو تشظّي الزمن إذًا، وتجمُّعه من جديد في نقطة واحدة، تمنحنا رؤيةً كونية ترى الإنسان كنقطةٍ عائمة فوق سطح الحياة.

يتخذ السرد في “الوصايا” شكلًا مُغايرًا لما اعتدناه من عادل عصمت. اللغة كثيفة، تزخر بالجمال والسلاسة معًا، كما اعتدناها في أعماله السردية السابقة، لكنها في “الوصايا” تتخذ طَورًا جديدًا يلائم عالمها الريفيّ، ويُكثّف الحس الصوفي بعبارات قصيرة ذات وقع كثيف، تتجاوز في العديد من المواضع مُحاورة العقل، لتُخاطب الروح مباشرةً. تشبيهات منسوجة من وعي الشخصيات، تحمل حسًّا ريفيًّا أصيلًا غير مصطنع وتُلامس الحواس، وبخاصة حاسة اللمس، فتتشكّل أمامنا واقعيةٌ سحرية مصرية خالصة، قوامها معتقدات الريف المصري وتصوُّراته الماورائية، المستمدَّة من الطين، فالمواليد المتوفّون دون عمر السُّبوع يُدفنون أسفل جدران البيت، ليعودوا إلى الطين الذي نشؤوا منه ويُشيعوا الونَس، وأرواح الموتى تعود لسُكنى البيت من ثقوب الأحلام، يمنحون النبوؤات ويحذّرون من المهالك.

تتأمَّل الرواية وجود الإنسان من مسافات متباينة، دورة حياته صعودًا وهبوطًا، نماءً وذبولًا، ثُقلًا وخِفّة، فيما الموت يتربَّص به في كل الوقت، ويُشكِّل تساؤله المستمر؛ هل من أملٍ في تجاوُز الوجود الإنساني لما بعد الموت؟ أيستمر وجوده في أبنائه، في عمله، في آثاره، في سيرته؟ هل بعودته إلى الطين يهب حياةً جديدة لمخلوق جديد؟ ليس الفرد فحسب، بل السلسال، البيت، الأرض، الوطن، كلها دورات حياة تسبح في الكون، يجري عليها ذات الناموس.

لا يسعني المقام للحديث عن الشخصيات ذات الخصوصية الشديدة؛ “علي سليم” ابن الأرض ومَبعث الحياة، الذي يفهم قيمة الطين من عطائه الوافر، لا من قيمته المادية التي يمكن تحويلها لأوراق نقدية؛ “فاطمة” ابنة أبيها وحارسة السلسال؛ “نبيّة” ذات الموهبة الحسابية الخاصة، التي يقصفها الموت ويتجاوزها العلم فيُحيلها كمًّا مُهملًا يثير القلاقل؛ “خديجة” صاحبة النبوؤة، التي تخبز بيدٍ خُبزَ البيت، وتدفع بالأخرى قوى الشر اللامرئية؛ “كوثر”، المعشوقة الشهيَّة، مكمَن الإغواء ومسكَن الروح؛ الجد؛ الحفيد؛ لن نصل إلى نهاية..

هذه رواية تحتاج لقراءة ثانية وثالثة، لفناجين قهوة وأقراص هاضمة، قبل أن أزعم استيعابها على النحو الأكمل، حالها كحال النصوص الفارقة ذات الصوت الخاص غير المتكرر. وبها يتسلَّق عادل عصمت قممَ الكتابة الحقيقية، ليُفسح لقدمه موضعًا بين العظماء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي مصري

مقالات من نفس القسم