عثمان بن شقرون
أجمل وأغرب وأكثر شيء مثير للدهشة أتيح لي اكتشافه قبل ثلاث سنوات من الآن هي أعمال الأديب السويسري روبير فالزير Robert Walser، أكثر الكتاب غموضا وغرابة في القرن العشرين. كاتب هامشي عاش يمشي ومات وهو يمشي، اقترنت لديه الكتابة بالمشي حتى صارت هي والمشي شيئا واحدا. كاتب عصامي إلى حد كبير وغير مبال تماما بما يمكن أن تحققه النجاحات من ترق اجتماعي، أو نجاح دنيوي. لم يجعل من الكتابة مشروعا إلا ليكون هو نفسه وخارج كل ما هو متعارف عليه. هذا الكاتب الذي يفرض على القارئ من أجل الدخول إلى عوالمه أن يتخلى عن كل الأفكار المسبقة، وأن ينحي جانبا كل نظريات الأدب والنقد، وينغمس في ما يقرأ من نصوص محاولا إدراك: كيف تنشأ عنده مشكلة اللعب الغامض في الكتابة، وكيف يهدم الحواجز بين الحقيقة والخيال، وبين الواقع والمتخيل، وكيف يخلق لغته الخاصة وكيف تتخذ الكتابة عنده مسارا لكشف الذات بالقدر الذي تخفيها. إنه من أمهر السحرة، يتلاعب بالواقع ويتلاعب بالخيال على مرأى من أعيننا، ويتلاعب بحياته لتحويلها إلى كلمات يتم نثرها على أوراق مبعثرة، بعضها سينتهي إلى أعمدة الصحف، والبعض الآخر سوف ينام في أدراج الغرف المتعددة التي شغلها متنقلا من مكان إلى آخر، طوال مساره ككاتب. هذا الكاتب الذي كان لي شرف استضافته لأول مرة في لغة الضاد، في كتاب: “الوردة”، أدين له الآن بما حررتني كتاباته من عوائق الكتابة نفسها.. فمن هو روبير فالزير:
ولد روبير فالزير، الكاتب الحداثي الناطق باللغة الألمانية، في مدينة بيين Bienne سنة 1878 بمقاطعة بيرن Bern، وهي بلدة سويسرية حدودية لغوية ألمانية فرنسية. ينحدر من أسرة مكونة من ثمانية أطفال، أكبرهم كارل، وكان رساما ومصمما شهيرًا. كان الطفل فالزير معجبا بالمسرح ومتحمسا له على الدوام. التحق فالزير بالمدرسة الابتدائية والثانوية، لكنه اضطر إلى المغادرة في سن الرابعة عشرة قبل الاختبار النهائي، لأن الأسرة لم تكن قادرة على ضمان تعليمه. وفي سن السابعة عشرة هجر بيت العائلة.
خلال العشرين سنة التي تلت سيسافر روبير فالزير كثيرًا سيرا على الأقدام، منتقلا من سويسرا إلى ألمانيا، للالتحاق بأخيه كارل والبحث عن مجد أدبي. زاول العديد من المهن الوضيعة، إذ عمل موظفا بسيطا وخادما وسكرتيرا وموظفا في البنك وناسخا. كما حاول أيضا أن يصبح ممثلا لكنه لم ينجح في ذلك. وكان فالزير يترك هذه الوظائف بمجرد ما كانت تسمح له مدخراته بتكريس نفسه للكتابة. هذه الوظائف الهامشية هي نفسها ستمارسها شخصيات رواياته في كل ما كتب تقريبا. حتى أن القارئ لا يكاد يفرق بين الشخصيات والكاتب رغم التباينات والتناقضات الحاصلة فيما بينها وفيما بين الكاتب. تقول عنه الباحثة Edith Wünsche:
“أغلب شخصيات رواياته شبان يأملون، من ناحية، أن يكون لديهم مجالات نشاط مناسبة على طبيعتهم، ومن ناحية أخرى، يفضلون انتظار شيء ما غير محدد. إنهم يقودون حياة غير مستقرة في ظروف غير مطمئنة، ويفكرون ويشعرون ويتصرفون ضمن أنظمة مرجعية ذاتية. خارج بنية الروابط الاجتماعية، فهم يناجون أنفسهم ويتركون أفكارهم وأفعالهم تسترشد بالمواقف والمواجهات العشوائية. إنهم لا يحلون التناقضات القائمة ولا يغيرون شكل حاضرهم.” ويجدر بنا في هذه الورقة أن نقف على إحدى رواياته (الإخوة طانير)، لنرى كيف أن روبير فالزير لبس فيها قناع البطل وتحكم في باقي الأقنعة التي لبسها الشخوص.
“الإخوة طانير – Geschwister Tanner” وحسب الترجمة الفرنسية Les Enfants Tanner ، هي أول رواية ينشرها الأديب روبير فالزير في برلين سنة 1907، حيث كان قد التحق بأخيه كارل، الرسام الشهير الذي قدمه للأوساط الأدبية والفنية. وهي رواية أوتوبيوغرافية عشوائية، تدور أحداثها في زيوريخ. وهي ذات بنية مفككة إذ تتكون بشكل أساسي من مقالات ومونولوجات وقصص حالمة ورسائل. كتبها فالزير بسرعة فائقة دون أن ينحت كلماتها وينمقها. وكان قد أنهى كتابتها في مدة أقل من أربعة أسابيع ولم تتضمن مخطوطة هذه الروايات أكثر من أربعة تشطيبات.. إن الرواية تحمل الاسم العائلي لأربعة إخوة وأخت: كاسبار الرسام، وكلاوس الرجل الصارم والمحترم الذي نجح بشكل باهر في الحياة، وهيدفيغ المعلمة، امرأة شابة شجاعة وذات حس عميق بالواجب، وإميل الذي سيلقى مصيرا مأساويا في نهاية الرواية، وأخيرا سيمون البطل، الذي ينتقل على التوالي من وظيفة إلى أخرى مختلفة والذي لم يرض عن واحدة منها أبدا، وظل مفتونا جدا بالحرية إلى درجة لم يستقر بشكل دائم في مكان ما.
وعلى الرغم من أن عتبة عنوان هذه الرواية تحيل على أكثر من شخصية على الأقل، إلا أن القارئ سيتابع بشكل خاص مسار سيمون طانر Simon Tanner..في بحثه عن أمل ما، فمن هو سيمون طانير؟
إنه الشاب الذي قرر من بين أربعة إخوة أن يعبر عن نفسه وعن قناعاته بوضوح دون حيلة أو تردد. ينحدر سيمون من عائلة كبيرة وميسورة، شاب في العقد الثاني من عمره، يقرر الرحيل والسفر من قرية إلى أخرى ومن مدينة إلى أخرى بحثًا عن الأحاسيس المثيرة. فحياته تتمحور حول المشي والسفر والعبور والرحيل، تؤطرها فلسفة تتمثل في قوله: “حسنًا، أنا شاب فلماذا علي أن أصير كالماء الآسن خلف المكاتب، فيما الطبيعة تتزين بأبهة وتتغير مع كل فصل وتفتح لي ذراعيها..”
سيمون هذا شخصية غير عادية، ومن سماته أنه يربط بسهولة صداقات مع الغرباء في الشارع أو في القرى، ولكن في الوقت نفسه هو وحداني بامتياز. إنه يعرف أنه ذكي، ولديه طعم للمناقشات الفلسفية، لكنه أيضا كسول. إنه رجل غريب الأطوار، لديه أحكام فريدة على كل موضوع تقريبا. لكنه تافه مع الناس بنفس القدر مع صديقته، التي كان يقضي وقته معها يتحدث ولا يستمع إليها.
إنه الأصغر من بين خمسة أشقاء، يخالفهم في كل شيء، لا رغبة له سوى المرور بهذه الحياة بروح متحررة، متبعًا رغباته وإلهامه، وغالبًا ما يكون مفاجئًا. ليس لديه طموح، بالمعنى الاجتماعي للكلمة. المال لا يهمه، لأنه يكتفي بالقليل، لون السماء وطعام على طبق، وابتسامة طفل، ليحس بالامتلاء. إنه ينزع دوما نحو التأمل، وهو أيضًا مراقب يقظ للعالم من حوله، ويسعد بالعيش في بساطة، مع قليل جدا من الميل إلى تبني حياة “مسؤولة” و “منظمة”.
لا تقدم لنا هذه الرواية أحداثا مهيكلة أو ذات أهمية، سيتم فقط من خلالها اتباع أساسا خطوات سيمون طانير، تجواله ومونولوجاته الطويلة عن معنى العمل والحياة والمجتمع والقيم الإنسانية التي تستحق أو لا تستحق أن نرتبط بها. إلى درجة يولد لديك انطباعا بأنه يقودك بطريقة مفككة من نقطة إلى أخرى، دون أي خيط ناظم حقيقي، باستثناء اقتفاء خطى البطل، سيمون طانير، الذي يقول:
“من بين كل الأماكن التي نزلت فيها، غادرت بسرعة كبيرة، لأنني لم أكن أرغب في أن أصير آسنا في مثل سني في حياة مكتبية ضيقة وغبية، حتى لو كانت المكاتب المعنية في رأي الجميع هي الأكثر تميزًا في هذا النوع، مكاتب البنوك على سبيل المثال. هذا يعني أنه لم يتم طردي من أي مكان، لقد كنت دوما أنا من يغادر، من أجل المتعة الخالصة للمغادرة، تاركا الوظائف والمناصب حيث يمكن للمرء أن يصنع مسيرة مهنية، والشيطان يعرف ماذا، ولكن هذا كان سيقتلني لو كنت بقيت. حيثما مررت، كان الناس يأسفون دائما على رحيلي، ويلقون باللوم على قراري، ويتوقعون لي أيضا مستقبلا قاتما، ولكن دائما ما كانوا يتمنون لي حظا سعيدا لبقية مسيرتي المهنية”.
مثله مثل فالزير، كان البطل سيمون يبحث عن وظائف فقط لكي يبقى على قيد الحياة، ومن المحتمل أن يكون بحثه عن شيء أعمق بكثير من الوظيفة. إنه كان يبحث عن كيانه. لأنه كان دوما عاملا ينتظر اللحظة المناسبة لإيقاف كل شيء والانسحاب في صمت.
لقد أراد سيمون في البداية أن يكون بائع كتب. وعندما كان يبحث عن عمل والتقى بصاحب المكتبة اعترف له بأن القدر قاده إلى الحياة الإدارية فقط ليدرك أن مصيره كان مختلفًا تمامًا. وأن حياة المكتب المتشددة هاته لم تخلق للشاعر. ولما أرضت صراحة وصدق الشاب صاحب العمل حصل على تدريب اختباري لمده ثمانية أيام. سنكتشف لاحقا أنه سيرحل بمجرد ما تنتهي هذه الأيام الثمانية. وسنكتشف فيما بعد أن شخصية سيمون طانير ليست سوى شخصية فالزير، الذي لا يكاد يستقر في عمل حتى يغادره، ضدا في هراء الحياة المأجورة، وتمردا ضد الاستغلال في العمل..
من الواضح أن فالزير وسيمون كلاهما أحبّا المشي لمسافات طويلة والتمتع بجمال الطبيعة. وكلاهما كانا منفصلين عن العالم، ينجرفان من مكان إلى آخر، غير قادرين على الاستقرار والعثور على مكانة في العالم البرجوازي. وترجع شخصية سيمون إلى شخصية روبير فالزير، ليس فقط في ولعه بالمشي أو طبيعته المتشردة؛ كلاهما يشتركان في عنادهما في المرور دون ترك أي أثر أو إنشاء روابط دائمة أو علاقة استقرار عاطفي..
في كتابه “المشاء الساخر” يعتبر المحلل النفسي الفرنسي بيير لاكادي، أن أبطال فالزير هم الذين يقدمونه إلى العالم كما هو، في العديد من التفاصيل الدقيقة والفريدة، والتي تتسم في كتابة هذا الأديب في بعض الأحيان بمظهر ساذج وصادق وبسيط، وأحيانا مربك للغاية. ويرى بيير لاكادي أن روبير فالزير يوجد في كتاباته، فيما يسميه برواية الواقع، والتي تشكل جميع كتاباته. فمن قصة أبطاله لا غير يمكننا أن نستنتج ما كانت عليه حياة روبير فالزير.
إن كون رواية “الإخوة طانير” مستوحاة من حياة فالزير وحياة عائلته ليس بالأمر الغريب. فذلك أن جميع الكتاب تقريبا، في مرحلة ما، يعتمدون على تجربتهم الشخصية في أعمالهم. لكن الأمر الأكثر غرابة أن يصف روبير فالزير في هذه الرواية وفاته بالتفصيل قبل خمسين عامًا من حدوثها؛ هكذا وصف فالزير اللحظة التي وجد فيها سيمون طانير جثة صديق أخته الشاعر سيباستيان، ملقاة في الثلج، حيث مات أثناء نزهة طويلة عبر الثلج:
“ما أشرف اختيار قبره! إنه في منتصف أشجار التنوب الخضراء الرائعة، مغطاة بالثلوج. لا أريد تحذير أي شخص. تتنحى الطبيعة لتتأمل موتاها، والنجوم تغني بهدوء حول رأسها وتغرد الطيور الليلية: هذه هي أفضل موسيقى لمن ليس لديه سمع أو أحاسيس. (…) أن تُلقى على الثلج وتتجمد تحت أغصان التنوب: يا لها من راحة رائعة! إنه أفضل ما يمكنك فعله”.
يُستنتج من كلمات سيمون أن هذه هي الطريقة التي أراد روبير فالزير أن يموت بها: لقد أمضى فالزير العقدين الأخيرين من حياته نزيلا في مصحة الأمراض النفسية، منعزلا عن المجتمع. كان يستيقظ باكرا ويساعد في مهام النظافة ويتناول الدواء ويقرأ، ويمشي لمشاوير طويلة على الطرقات وفي القرى المحيطة. ومكث على هذا الحال، إلى يوم أعياد الميلاد من سنة 1956 عندما غادر المشفى تحت صبيب الثلج، وظل يمشي إلى أن أفناه الإرهاق فالموت، وكانت الطبيعة هي قبره. وكأن فالزير هذا الهامشي المتمرد تمكن حتى في اللحظة الأخيرة من حياته من فعل الأشياء بطريقته.
الجميل والرائع في هذه الرواية ليس ما يحدث في صفحاتها أو كيف ستنتهي أحداثها، ولكن سيل الأدب الرائع الذي يجذب القارئ منذ الصفحة الأولى. حيث تتصرف جميع الشخصيات في نوع من النشوة، كما لو أنها لا تستطيع الهروب للحظة من دهشة الحياة. فهذا العجب، وهذا الشغف بالحياة يتخلل كل صفحة من صفحات الكتاب. ينقلنا الإخوة طانر إلى حالة بدائية وشبه طفولية حيث كل شيء، مهما كان ضئيلًا، قادرًا على إثارة الإعجاب والمفاجأة. إنه عالم بريء ورائع تكون فيه الحياة كما ينبغي، أو كما يجب أن تكون دائمًا: حرة ومفعمة بالمشاعر.
بالإضافة إلى طابع الرواية الشبيه بالحلم، تحتوي “الإخوة طانير” على قاعدة من النقد الاجتماعي والسياسي: حيث يتم تقديم عالم العمل الحديث بالفعل كعامل من عوامل الاغتراب. علاوة على أنها تتميز بحس رقيق من التفاصيل اللغوية الدقيقة، التي توازن نفسها على سطح فقاعي.
كرواية أولى، هذا بالتأكيد عمل أصيل، على الرغم من أن الرواية، مثل مؤلفها وبطلها، تبدو مشوشة وليس من الواضح أبدًا ما يفعله البطل سايمون أو، على وجه الخصوص، لماذا يفعل ذلك. يسعد روبير فالزير أن يقفز بنا من حدث إلى آخر، دون أي اتصال أو تفسير للتغييرات المهمة، مما يجعل هذا من الصعب قراءتها في بعض الأحيان ولكن أيضًا هذا ما يمنح لهذه الرواية سحرها.