سعاد سعيد نوح
بعد روايتها” بروكلين هايتس” التي عالجت فيها الكاتبة المصرية ميرال الطحاوي حياة المهاجرين في أمريكا، تعود مرة أخرى لتكتب لنا تلك السردية التي يغادر فيها بعض البشر أوطانهم؛ بحثا عن حياة إنسانية مختلفة، لكنهم حين يصلون تلك الأماكن التي دفعوا ما هو غال وثمين للوصول إليها هل سيظلون على نفس التطلع والأمل والشغف؟ أم أن الوضع سيتغير؟ هذا ما تناقشه ميرال الطحاوي في روايتها” أيام الشمس المشرقة” التي صدرت حديثا (2022) عن دار العين بالقاهرة.
وعلى عكس ما يوحي عنوان الرواية إنها قصة البؤس والشقاء التي يعاني منها المهاجرون( بطرق شرعية أو غير شرعية) تفلح الكاتبة في كتابة شخصيات تعيش في أرض الأحلام الموءودة مع استرجاع لقصص حيواتهم في الأوطان قبل أن يفكروا بالهجرة إلى أمريكا.
وقد تنوعت شخصيات الرواية ما بين مصريين وعرب من بلدان عربية مختلفة، فروا جميعا من الأوطان لأسباب متنوعة ومغايرة، لكنهم تقاسموا جميعا بؤس الحياة في المهجر الذي تحول إلى منفى.
بطلة الرواية الرئيسية هي نعم الخباز التي عاشت حياة مرتبكة، سواء في الوطن أم في المهجر. ترصد الكاتبة مراحل تطور البؤس في حياة نعم، وللمفارقة أهمية كبرى في الرواية، فالبلاد ليست بلاد الشمس المشرقة بل بلاد البؤس والبرد والضباب، ونعم لا تتمتع بالنعم، بل يلاحقها البؤس في مراحل حياتها المختلفة، لكن ينتهي بها الحال في” حديقة الأرواح” التي تشبه مقبرة جماعية للأموات مثلها مثل الأحياء الذين يسكنون في” الشمس المشرقة”، فهؤلاء الذي سكنوا مقابر المجهولين والغرباء الذين قضوا ودفنوا دون أن تصبحهم هويتهم كشواهد قبور، جعلتهم الكاتبة يسكون ” حديقة الأرواح” التي لم تكن سوى هذه المقابر البائسة التي تجمع عشرات ومئات المجهولين!.
خايب بلاده خايب بلاد الناس
ربما تعبر الرواية عن روح المثل المصري الشعبي الذي يقول:” خايب بلاده خايب بلاد الناس”، فمن لم يعرف النجاة في بلاده، لن يصل إليها في بلاد الناس، ومن لم يتحقق في بلاده، سيتوه في متاهات بلاد الناس. فالرواية تراهن بقوة على إشكالية الهوية التي يعاني منها المهاجرون، فالأبطال يعانون جميعا من فقدان هويتهم والإحساس بالانتماء لأوطانهم؛ نظرا لما عانوه من ظلم فادح وتمدير للأحلام، ومعاملة غير عادلة حولتهم إلى مسوخ عاشت في أوطانهم الأصلية العشوائية والظلم والشذوذ والتهميش ومحو الإنسانية. هذه الشخصيات التي غامرت من أجل البحث عن المشتركات الإنسانية التي لم يجدوها بالضرورة.
إنه سؤال الزمن رغم أن العنوان يوحي بأنه سؤال المكان، لكن الكاتبة كانت واعية بجدل الزمن والمكان، فتعود عبر الفلاش باك لاستجلاء حيوات الشخصيات في أوطانهم في مراحل زمنية مختلفة؛ لتفسر للقارئ أسباب قبولهم العيش في بلاد” الشمس المحرقة” وليست المشرقة بأية حال.
بورتريهات سردية
عمدت الكاتبة في نفس الوقت إلى كتابة بورتريهات عن كل شخصية لتصور لقارئها المأزق الإنساني الذي دفعها للهجرة إلى الجنوب الغربي الأمريكي، فلما وجد ساكنو الفضاء الروائي لرواية الطحاوي أن واقعهم بائس، ولم يجدوا إلا الموت والقتل والانتحار، فلم يجدوا إلا الكاتبة لتكتب سيرتهم الذاتية المتخيلة.
كما أن الكاتبة أفلحت أيضا في رسم تفاصيل المكان، سواء في الوطن، فنجد نعم الخباز لم تعرف يوما إلا الحياة البائسة كخادمة، وسليم النجار وكشف دوره في الحرب الأهلية اللبنانية، عندما أوكلوا إليه تسليم جثث القتلى لذويهم، لم يصل إلى العناوين، بعد أن غيرت الحرب معالم الشوارع، فألقى بالجثث في أماكن النفايات، وعاد قبل أن ينفد وقود سيارته! أي قسوة تلك التي نمارسها على أنفسنا، فهل تمكن من مقاومة الشتات بين فلسطين ولبنان والعراق وسورية، وقد هانت عليه الإنسانية إلى هذا الحد؟!. وأحمد الوكيل زوج نعم الخباز ينتقل بمقابره إلى أمريكا، فكأنه يطارد الموت ليصحبه في مهجره، فيهرب رفقة ابنه عمر.
التهميش وصراع الهوية
إنها سرديات المهمشين بامتياز، مهما اختلفت جنسياتهم، لكن النهايات التي اختارتها الكاتبة والمصائر التي آثرت أن تضعهم فيها تجعل القارئ يشعر بالكآبة والإحباط، فمما تشي به عتبة العنوان هي الإشراق والبهجة والأمل، لكن مع مواصلة القراءة يكتشف القارئ أن الكاتبة نصبت له فخا لن يغادره إلا محملا بمزيد من البؤس والشقاء والتعاطف أيضا. لكنه أيضا سوف يخرج بمزيد من القبول بالتعددية الثقافية، بمزيد من قبول الآخر، بالبحث عن المشترك الإنساني، فتلك المصائر قادرة على إثارة تعاطفه وإيقاظ وعيه.
لكن مما يعيب الرواية حقا هو الاستطراد في سرد الحكايات عن ماضي الشخصيات، لو أن الكاتبة اكتفت بلمحات تنثرها عبر السرد عن معاناة الشخصيات في زمان آخر غير زمان السرد لتمكنت من تكثيف السرد أكثر، بل لربما تمكنت من التركيز على واقع المهاجرين، وهو الأهم الذي يجب أن يراهن عليه السرد، فالراهن هو الذي يكشف صراع الهوية أكثر من ماضي الشخصيات الذي دفعها للهجرة.