محمد الفخراني
كأنه روح تمَّ تلوينها، وأُضيف إليها بعض الريش.
قليلاً ما تراه.
جميل على طريقته، سهل، ليس مُزخرَفًا بأكثر من اللازم، ولا باهتًا بالطبع، ليس متباهيًا، ولا متواضعًا بانكسار.
إنه أسلوب الهدهد، ذكاء الروح.
والهدهد يَفترض فى الجميع أن يكونوا مُسالِمِين، سيتحرك بتلقائية على الأرض، دون أن ينتبه أنه اقتربَ منك بدرجة كبيرة، أو ربما هو مُنتبه لكن ليس لديه مانع، فالأرض للجميع، وتتَّسِع لكما معًا، ينقرها، فلا تشعر أنه بالفعل يبحث عن طعام، إنما يفعل على سبيل اللعب والمرح، بطريقته تلك الطريفة المتقافزة، بألوانه البسيطة، وتاجه غير المُدَّعِ.
به شىء من التوحُّد اللطيف، ذكاء وخِفَّة.
يظهر فجأة، يختفى فجأة، ستنساه، لكنك لا تمنع نفسك عن الفرح والدهشة كلما رأيته، كأنما تقول لنفسك فى كل مرة تراه فيها: “هدهد!”.
قليل الظهور كأنه طائر نادر، تكاد لا تشعر بوجوده فى العالم، لذا تفرح عندما تراه، فتتذكر أن فى العالم مخلوق بهذا الجمال، وخِفَّة الدم، تشعر أنه يحمل قدْرًا كبيرًا من أسرار العالم، وهذا ما يجعله يدرك خِفَّة هذا العالم، وبساطته، ومعنى أن تكون كائنًا خفيفًا، غير مُدَّع، يُذكِّرك بجمال الحياة، عمرها القصير، وبهجتها.
تشعر أنه طائر جديد، رغم أنه قديم جدًا على الأرض، شابٌ طوال الوقت، غامض وواضح، يحمل سرًا ما، لكنه غير مكترث به، لن يدَّعي أنه يحمل سر العالم، ولأجل معرفته بهذا السر، فهو يأخذ الحياة على محمل اللا جد، يأخذها على طريقة اللعب، والبساطة، تشعر أنه يمكن أن يحُطّ على كتفك ببلاهة، ثم تكتشف أنها ليست بلاهة، إنما بساطة، وحُسْن نية تجاه العالم، كما أنه بالأساس لم يحُطّ على كتفك.
تشعر أنه بلا عُشّ، ولا شجرة معينة، هو المتجوِّل خفيف الروح، ويمكنك أن تتوقع من الصِبية أن يتوقفوا عن اللعب (وهذا شىء كبير) عندما يرونه ليتفرَّجوا عليه، هو موجود للجمال العابر، المفاجئ، ليذكِّرك بأن هناك سرٌ ما، وجمال يمكن أن يظهر فى أىّ وقت بأىّ مكان، دون سبب، وهذا لائق بالجمال.
تسمع صوته فى الغابة من مكان ما، ذلك الصوت الرنَّان، لا يمكنك أن تخلط بينه وبين طائر آخر، به تلك الرنَّة العجيبة الخفيفة، النغمة، والصدى الخفىّ.
الهدهد يبدو مُتعجِّلاً دائمًا، أو ربما غير متعجِّل، وإنما فقط لديه شىء يفعله فى مكان آخر، أو ربما يريد اللحاق بلعبة ما، أو أنه يفتش عن أسرار جديدة ليعرفها.
والأسرار التى يعرفها لم تُثقله بل جعلته أكثر خفَّة.
لن تراه فى أسراب، ينقل عينيه على الأشياء ببساطة، وسهولة، ربما لأنه لأنه قديم فى هذا العالم، ويعرف عنه الكثير، رأى الكثير من العجائب، فمن الصعب أن يستوقفه شىء أو يثير دهشته، وأحيانًا سترى منه تلك النظرة المهتمة، والتى بها شىء من الاندهاش، لأنه يعرف أنه عالم مثير للدهشة المبهجة، يمكنك أن تلاحظ التفاتاته القصيرة حوله، وتركيزه فى كل واحدة منها لبرهة، كأنما يهتم بكل تفصيلة، ويضعها فى لقطة بمفردها قبل أن يجمع التفاصيل فى لقطة مُجمَّعَة، تلك الالتفاتات الرشيقة بها مزيج رشيق من الدهشة الخفيفة، واللا مبالاة البسيطة، للهدهد طريقته فى النظر للعالم، والتعامل معه.
لا يمكنك أن تراه إلا وتبتسم، ولن تُبعِد عينيك عنه قبل أن يطير هو ويبتعد، لا تعرف متى يمكنك أن تراه ثانية، سيبتعد الهدهد كشخص لا يعطى وعودًا أبدًا، كشخص لا يطمح فى شىء، ويمكن لأىّ شىء أن يرضيه ويكفيه، لأن الحياة بسيطة، وسهلة.
تشعر وكأنه هدهد واحد فى العالم، يتنقَّل هنا وهناك، فيراه الواحد منا من وقت لآخر.
لماذا يبدو الهدهد جديدًا كل مرة؟ هناك كائنات وأشياء تكون جديدة مهما تكرَّرت رؤيتنا لها، رأيى أن هذا بسبب روحها الذكية.
تشعر أحيانًا وكأن الهدهد ضيف، هو نفسه يشعر بأنه ضيف، مُرحَّبٌ به، لكنه لا يريد أن يُثقِل على أحد، أو على نفسه بالبقاء، هو خارج الرسميات، ولا يحب فكرة الطيران فى مجموعات، تشعر أنه يمكنه الطيران لشهور دون راحة، وفى الوقت نفسه كأنه لا يستطيع الطيران لمسافة طويلة، تشعر بهشاشته، لكنها الهشاشة التى لا تنكسر، ويمكنها المراوغة لتفعل كل شىء.
لا تعرف إن كان العالم يثير دهشته، أم سخريته، أم لعبه، إنه مزيج من هذا كله.
لماذا يبدو وكأنه فى بُعد آخر، لماذا ألاحظ ابتسامة على وجه أىّ شخص يرى الهدهد، لماذا يدعوك هذا الشخص أن تتفرَّج على الهدهد لو أنك لم تلاحظ وجوده، لماذا تصمتان وتراقبان الهدهد حتى ينتهى من حركاته خفيفة الدم؟ لماذا لا يمكنك أن ترى هدهدًا آخر خلال فترة قريبة، وكأن هناك سر خفىّ فى هذا العالم، وغير مسموح للشخص نفسه أن يرى هدهديْن فى وقتين متقاربين.
الهدهد سيُخرجك من اللحظة، أو يُدخِلك، سيجعلها خفيفة، يجعلك تتساءل، تفكر، وتستمتع.
فى معظم حالاتك مع الطيور، ربما تشعر برغبة فى الطيران، هذا لا يحدث مع الهدهد، هناك شىء أعلى من ذلك، ربما فلسفة الطيران، شىء لا تعرفه، فقط سؤال يجعلك تبتسم، أو ابتسامة تدفعك للتساؤل، أو سؤال وابتسامة يجعلانك لا تفعل شيئًا غير أن تترك ما تفعله أو تقوله لتتفرَّج عليه، الهدهد.
لا تشعر أبدًا أنه يشعر أو حتى يلاحظ أن هناك تاج على رأسه، أو ربما يشعر لكنه يتصرف بهذه الطريقة كى يقول لك: التيجان ليست ميزة، هذا لا شىء.
كأنه يعرف عن نفسه كونه مثيراً للدهشة، لكنه لا يهتم، اعتاد أن يكون مدهشًا.
الرائع أنه لن يهتم بأن يجعلك تبتسم أو ترى فلسفة ما، إنها التلقائية المدهشة، والبساطة الذكية، دون ادِّعاء أو زخرفة.
كأن حركاته الخفيفة الرشيقة أداء تعبيرى عن فكرة ما، أحيانًا تشعر أنه يقول لك “لا تشغل بالك، فقط استمتع”، أحيانًا كأنه يقول لك: “استمتع، وفكِّرْ”.
يمزج الفلسفة بالمرح واللعب، فيضعك فى حالة من الابتسام والحيرة، لا تعرف لماذا تبتسم له، وما الذى يُحيِّرك فيه، لكنك مبسوط، مستمتع، وتفكر فى شىء ما لا تعرفه.
الهدهد، فكرة جميلة فى هذا العالم، مثل سر جميل، نراها من وقت لآخر، نسعد بها، نفكر فيها، ونكتب عنها مقالاً مثل هذا.