عايدة جاويش
لطالما كان المحرك الحقيقي للروايات هو المحرك الأساسي للحياة نفسها ولا تكون الروايات دون ذلك، كالحب والموت والحرب حيث تناول الروائيون تلك الموضوعات بنهم ووظفوها للتعبير عن أفكارهم وإيصال آرائهم السياسية والتعبير عن موقف لا يستطيعون الإفصاح عنها بشكل مباشر فيقدمون مجموعة من الشخصيات تكون قادرة على التعبير وإقناع القارئ بتلك الحياة المتخيلة.
رواية الهجران للكاتب سومر شحادة الذي يرصد حركة الواقع ويقدم رؤية فنية للحياة المتخيلة في روايته، ستسكن بين صفحاتها في اللاذقية وتتمشى بشوارعها فالطريقة التي يصف فيها الكاتب شخصياته والأماكن كطريقة الكاميرا في التصوير والرصد بحيث تلاحظ أدق التفاصيل وأنت تتجول معه في الشوارع وبين الأبنية والحارات البسيطة في المقاهي والمحال التجارية إلى أن تصل إلى البحر فتشعر بهوائه الرطب .
قدم الكاتب صورا متعددة لشخصيات بأعمار مختلفة وأوضاع اجتماعية وسياسية وثقافية متنوعة وسط تغيرات الأوضاع خلال الحرب السورية التي لا تطالهم بشكل مباشر ولكن تكسر نفوسهم، لا دماء ولا رصاص في هذه الرواية وإنما إحساس بالفجيعة مدوي وجروح لا تندمل لشخصيات رصدها الكاتب تظنهم أصدقاءك أو أخوة لك أو ربما نحن جميعا.
شخصيات الرواية شخصيات ضعيفة “كما السوري حاليا” لا يوجد شخصية قوية هم ضعفاء وهشين ليس لديهم القدرة على قراءة ماضيهم وحاضرهم أو مستقبلهم بوضوح وكأنهم ينظرون إليها عبر زجاج مغبش .
السياسات الخاطئة تشوه الأرواح
رواية سورية بامتياز ترصد المشهد السوري عبر جيلين وحربين في زمنين مختلفين من خلال شخصيات روائية يطاردها الهجران سواء كان زياد، جوري، عزيزة، عبد الله، عادل، سها.
عندما تبدأ بقراءة رواية الهجران “الحائزة على جائزة نجيب محفوظ” تشعر بأنك في السينما تشاهد فيلما بمحاور وأحداث متنوعة، بين الماضي والحاضر بسرد تفصيلي للأحداث لا أصوات في هذه الرواية سوى صوت زياد وصوت الراوي الذي يعرف الأحداث فيروي لنا تطور الشخصيات وماضيها ومكامن بؤسها وسعادتها .
الرواية تطرح أسئلة كثيرة ولكن أعتقد أن الكاتب لا يفكر حاليا بإيجاد أجوبة فهو فقط يحاول استيعاب ما فعلته سنون الحرب داخلنا ليقول لنا أننا لم نتوقف عن الحرب يوما وعن الخسارات والهجران ولنلمس الخراب داخلنا ولندفع فاتورة كان علينا أن ندفعها منذ زمن بعيد.
يعيش زياد الهجران “الانكسار” من قبل ولادته، لأب يساري قتل في المعتقل ليكبر تحت عباءة أمه عزيزة ،إلى أن يلتقي بجوري التي تعيش هي وعائلتها الهجران بموت أخيها عبد الله ذلك الشاب الذي لم ينتظر أن ينهي دراسته بل على العكس قدم طلب استعجال ليلتحق بالخدمة الإلزامية “قبل الحرب” من أجل اختصار مراحل من حياته فيتزوج البنت التي يحبها بسرعة.
في خدمته العسكرية يرى أهوالا يصعب عليه حتى سردها كونه سائق سيارة إسعاف يجمع جثث أصدقائه من أرض المعركة لذلك كان يغرق في صمت عميق فالانكسار العاطفي واليأس بعد ترك حبيبته له والموت منتشر حوله في كل مكان “كيف للمقاتلين في حرب يرفضونها أن يستعرضوا بطولاتهم أو هزائمهم” بعد تسريحه تدهور حالته النفسية، فالحب دمر قلبه والحرب دمرت إنسانيته أصبح دائم البحث عن موت يعفيه من التمزق والهذيان الذي يعيشه فكان الانتحار خلاصه الروحي.
عادل مناضل سابق هرب بداية الثمانيات إلى فرنسا بعد أن وشى برفاق النضال الحزبي، أصبح رساما مشهورا، عاد إلى سوريا كفاتح منتصر أقام معرض فني كبير وكتبت عنه الصحف والمجلات .
يعيش مع جوري التي تصغره بثلاثين عام علاقة عاطفية محورها الجنس ولكنها تفشل، صارت جوري بالنسبة لعادل عجزه وفكرته عن الهلاك، لم يستطيع تقديم شيء لها فبدأ بالإساءة إليها والإهانات “رجل مهزوم يرسم موتا مشتهى ”
توفيق أبو زياد الأب الغائب كان ضحية لأمثال شخص مثل عادل “سنظل ضحايا ما دام السبب لم يغادر، فالطاغية أصبح فكرة”.
النساء في الرواية
جوري شابة في العشرينات خريجة قسم اللغة العربية قوية ترعى اخوانها وكأنها أم ثانية لهم حزينة لكنها تضحك دائما وفي الليل تبكي لأسباب كثيرة، وكلما تقدمن في القراءة زادت أسباب البكاء لديها اللاءات الكثيرة في حياة جوري وموت أخوها وابتعادها عن زياد وعلاقتها مع عادل جعلها تعيش الهجران بأبعاد مختلفة.
عزيزة أم زياد تعيش الهجران من بداية حياتها تخرج من اللاذقية لتتزوج توفيق خطيفة الذي أحبته وهربت معه الى حلب دون رضا أهلها وتعود إليها بعدما اعتقل زوجها ومات، لتصبح أرملة شابة وأم لطفل وفي داخلها حسرات تفوق عمرها.
ذاكرة عزيزة “الأم” هي “تاريخ سوريا” لا ترغب بمغادرتها، يتساءل زياد ابنها هل أمه كانت منذ البداية هكذا أم أنها أصبحت هكذا، حيث أنها وصلت إلى نقطة اللاعودة كما هي سوريا وفي النهاية حلقت عاليا كطائرة ورقية خفيفة في سماء اللاذقية .
زينب أم جوري امرأة مستسلمة وزوجة لرجل متعسف متسلط صاحب مزاج سيئ يضرب أبناءها وهي كل عام تنجب له ولدا. وكذلك سها زوجة عادل المناضل السابق والرسام المشهور امرأة منكسرة، كل نساء الرواية لا يحاولن التغير، ولا يفكرن به أصلا، مستكينات يجدن التضحية سر لوجودهن، فهن مخذولات من الداخل منكسرات نتيجة خياراتهم الاجتماعية، باستثناء جوري التي كانت تشغلها فكرة أنها منحت نفسها للرجل الخطأ أكثر من فكرة لوم النفس، لذلك بدا إصرارها على الحياة والحب أقوى من كل شيء .
“الحب هو فقط الكدمات التي يتركها في قلوب العاشقين والنظرات الفارغة التي يحفرها في عيونهم”
حب جميل كان ينمو بين جوري وزياد، هي كانت تريد ان تشعر بأنها مرغوبة لكن زياد شاب صامت جاهل بشؤون النساء ولا يعر ف التعبير عن مشاعره لجوري التي تبحث عن الحب مع زياد ولكن مع دخول عادل إلى حياتها يختلط الأمر عليها بين الحب والشهوة “فالمتعة تقصي الشرور تهدئ الهواجس وتمسح عن الجسد أعبائه”
علاقات الحب لم تجلب للشخصيات في الرواية سوى الألم والخيبة والحزن، في البداية الحب في حياة عبد الله كان مشرقا نديا ولكنه أصبح سببا في تغيير حياته ،يترك جامعته لينهي خدمته الإلزامية ويتابع حياته الطبيعية مع حبيبته ولكن بعد تسريحه صار عبد الله يقف أمام النوافذ وعلى الشرفة كأنه يخبر أهل اللاذقيه بمرضه ويقول أنه ليس بخير ويعلن إدانته لهم جميعا اللذين رأوا أولادهم يقتلون وبقوا صامتين يستقبلون الجثامين.
“يبدو أن حرب السوريين من ذلك النوع
الذي يبدأ كي لا ينتهي ”
لم يسجل الكاتب موقف واضح من أطراف النزاعات والحروب في سوريا لذلك جاءت الحرب في خلفية الرواية كمؤثر مباشر ولكن غير مرئي واستخدم الكاتب تقنية الفلاش باك لسرد الأحداث فجاءت الحبكة متينة ومقنعة في رسم خلفية تاريخية لتوفيق وعادل، عادل الذي سلم رفاق النضال واحد واحد في ثمانينات القرن الماضي فأصبح إنسانا يبحث عن مجد ما ،لملئ خوائه الداخلي “التجارب هي من يصنع الجوهر “وتجربته أفقدته المعنى والجوهر
كانت نهايه الرواية بموت عزيزة “الحياة الهادئة التي كان يعيشها السوريون وموت عبدالله “الحاضر “واستعادة مشاهد موت توفيق بالمعتقل إشارة إلى أن الجرح قديم
الكتاب قاسي مؤلم لأنه كتب في أوج الأزمة وقمة ألمها كانت المشاعر مضطربة تعكس الضياع والاضطراب لكن الكاتب يحاول أن يحرر شخصياته بالحب، ليأتي صوت الحب في أخر الرواية الصوت الأعلى طالما كنا قادرين.