الهانم

amr al batta
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عمرو البطا

1

يتردد في ليل عزبة الكلاف أنين أنثوي مبهم، خافت، وحزين. كل ليلة يتردد صداه، فينكمش أهل العزبة داخل الدور مرتجفين. يعتقدون أنه صادر من القصر المهجور الذي لا يسكنه إلا القطط والواقع على طرف العزبة بعيدا عن العمران. تشاع حول القصر حكايات عجيبة، وتنسب إليه كرامات وخوارق. زعم البعض أن المرأة العقيم تُشفى من العقم إن باتت ليلة بمفردها داخله، لكن لا أحد يستطيع تأكيد هذا الزعم أو نفيه، فرغم محاولات كثير من النساء المشتاقات للإنجاب لم تنجح واحدة في إتمام مبيت ليلة داخله بمفردها، فما إن يترك المرأة أهلها داخله ويغادروا حتى يجدوها تهرول وراءهم بعد دقائق معدودة. واحدة فقط نجحت في إتمام مبيت ليلة كاملة هناك، وكانت معروفة بالجرأة وقوة القلب، غير أنهم وجدوها في الصباح جثة هامدة بعينين جاحظتين لم تجدا من يسبلهما.

يتكون القصر من طابقين فسيحين مرتفعي السقف والأعمدة فضلا عن قبو سفلي، بنيت من الأحجار وعروق الخشب، وزخرفت بنقوش بديعة لم يعد مثلها ممكنا هذه الأيام. لكن لأن القصر قديم جدا ومهجور منذ عشرات السنوات، يبدو في حالة مزرية؛ تنتشر الصدوع والتشققات في كل مكان، فضلا عن أيدى اللصوص التي نهبته واقتلعت منه أعواد الخشب وقضبان الحديد. كل القصر نُهب تقريبا إلا القبو المظلم والذي لا يعلم أحد حتى الآن ما يحويه، فلا أحد اجترأ على الدلوف إليه رغم أن بابه الغربي مشرع، فهناك اعتقاد راسخ أن عفريت الهانم مقيم هناك ولا يسمح لأحد بالدخول إلا طوفان القطط المقيمة داخله والتي تهاجم أي شخص يحاول الاقتراب من بابه الغربي أو فتحة التهوية الشرقية الصغيرة المغلقة بالقضبان الحديدية، ويرجح أن هذه القطط من الجن المتجسدين في هذه الهيئة أو من الأطفال التوائم الذين يتحولون في المساء -كما هو معروف- إلى قطط، وأن عفريت الهانم يستخدمهم جنودا له.

عادة لا يلقي الأطفال بالا بتحذيرات الأهل، لا سيما عندما يشبون عن الطوق ويقتربون من سن المراهقة اللعين. يغريهم الخلاء المحيط بالقصر من كل اتجاه للعب الكرة، فيرصون الأحجار على الأرض كقوائم للمرمى ويلعبون حتى المغيب. أحيانا تقفز الكرة إلى داخل سور القصر، فيتباهى أجرأ الأطفال بقدرتهم على الاضطلاع بمهمة تسور القصر وجلب الكرة، وما إن يعبروا السور حتى يدوي صوت الأنين المخيف، وفي أحيان قليلة تتدحرج الكرة بالقرب من باب القبو الغربي أو نافذته الشرقية، عندئذ يتضاعف الخطر؛ ففضلا عن صعوبة إبعاد القطط الشرسة التي تحمي القبو، يحكي بعض هؤلاء الأطفال أنهم رأوا عفريت الهانم نفسه عبر نافذة القبو الشرقية الصغيرة. يقولون إنه بهيئة امرأة عجوز، وجهها شديد البياض، كذلك شعرها وعيناها، تنظر في دهشة من خلف القضبان الحديدية، وتئن بعبارات غير مفهومة. يفر الأطفال بمجرد رؤيتها مرتجفين، ويروون ما رأوا، فيكذبهم الكبار، حتى هم أنفسهم عندما يكبرون سيظنون ما رأوا مجرد أوهام طفولية، وبعضهم انمحت هذه الذكرى من رؤوسهم تماما، لكن ثمة شيئا يؤكد روايات هؤلاء الأطفال؛ فكل ذؤابات رؤوسهم وخطها الشيب فجأة في عز طفولتهم بمجرد أن رأوا ذلك.

2

يقولون إن هذا القصر بناه محمد بك الكلاف مالك العزبة القديم والذي سميت العزبة باسمه. والكلاف ليس لقبا لعائلة محمد بك، وإنما سمي بذلك نسبة إلى المهنة التي كان يمتهنها قبل أن ينال البكوية ويصبح من الأعيان، فقد كان يعمل كلافا في حظيرة المواشي الملحقة بعزبة أحد الباشوات الكبار. كان كلافا كسائر الكلافين، غير أن الحظ قرر أن يبتسم له في إحدى الليالي، وكانت لديه موهبة لاقتناص الفرص لا تتوفر إلا للقليلين. لم يكن للباشا مالك العزبة زوجة ولا أولاد، وكان يعاني وحدة قاتلة جعلته لا يستقر في مكان، وكلما سنحت له فرصة ترك قصره القاهري وسافر إلى خارج البلاد أو إلى عزبته إن لم تسمح ظروفه بذلك، حتى عندما يزور عزبته لا يقر له قرار داخل قصره ويظل يتجول في أنحائها. وفي هذه الليلة السعيدة خرج الباشا من قصره وحيدا يقتله الملل، لا يصحبه إلا قائد الكاريتة الصموت العليم بأنحاء العزبة ودروبها. كانت الليلة صامتة وكل من في العزبة يغطون في السبات إلا رواد الغرزة الواقعة على أطراف العزبة والتي تعج بالسكارى وبنات الليل من الحلب، وبالطبع مكان كهذا لا يليق بالباشا ارتياده.

لم يجد الباشا في تجواله الليلي إلا محمد الكلاف، كان ساهرا أمام الحظيرة وحده، بجواره كوب الشاي، وأمامه الجوزة المرصعة بالجمر المشتعل.

في العادة لا يسهر محمد إلا بمفرده جوار الحظيرة، فهو لا يحب البشر بطبعه، فضلا عن أنه لا يملك مالا كافيا لارتياد الغرزة. وهو لا يسهر إلا في المرات التي يستطيع الحصول فيها على حشيش، وفي غالب الأحيان لا يأتيه إلا كهدايا عند شفاء جاموسة عالجها -كما حدث في هذه الليلة السعيدة- أو نجاح وصفته في زيادة اللبن الذي تدره، فعلى عكس البشر يكنُّ محمد محبة عميقة للبهائم ويأتنس بهم ويجيد التعامل معهم ومداواتهم.

لا يعلم أحد بالضبط ما دار بين الباشا والكلاف في تلك الليلة عندما أمر الباشا قائد الكاريتة بالتوقف عند الحظيرة واقتعد الأرض جوار الكلاف الذي هب واقفا غير مصدق نفسه فأصر الباشا على إجلاسه. أي حديث يمكن أن يرأب تلك الهوة الشاسعة بين الرجلين حتى علت ضحكاتهما حتى بزوغ الفجر! ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تواعدا على تكرار السهرة في الليلة التالية، ثم دعاه الباشا في قصره في الثالثة، وعندما حان يوم عودته إلى القاهرة قرر الباشا أن يصطحبه معه!

في قصر القاهرة لا توجد حظيرة ولا بهائم. ماذا يفعل الكلاف هناك؟

بعد شهور قليلة من سفره إلى العاصمة لن يستطيع أحد من عزبته لو صادفه أن يتعرف عليه بملابسه الإفرنجية وطربوش الأفندية يزين رأسه. أصبح محمد مرافقا للباشا في كل مكان، ينادمه كل ليلة، ويرافقه في أسفاره إلى أوروبا. وعندما يزور العزبة معه لا يتخلى عن ملابسه الإفرنجية منعزلا في غرور سافر عن أهل العزبة الذين راحوا يرمقونه بسخرية وحسد، ولا يكاد يهبط من قصر الباشا إلا لمرافقته في نزهته الريفية، فهو أصلا كان غريبا هبط على العزبة ليس له فيها أهل ولا يعلم أحد له فيها أصلا وفصلا، ولولا البهائم التي يشتاق إلى زيارتها لما كان له في هذه العزبة حاجة.

غير أن الطامة الكبرى كانت عندما فوجئ الجميع أن الباشا استطاع بعلاقاته في القصر الملكي منح محمد الكلاف لقب البكوية وأقطعه هذه العزبة التي سميت باسمه بين ممتكات أخرى، وسمح له بالإقامة في منزل مستقل ملاصق لقصره بالقاهرة. لا أحد يعلم سر كلف الباشا الغريب بالكلاف، ذلك الجلف الذي استطاع أن يأكل بعقل الباشا حلاوة في نهاية أيامه في الدنيا. سرت شائعة بين الناس تفسر الأمر وبقيت سرا بينهم لا يستطيعون الجهر بها علنا؛ قالوا إن سر هذا الأمر يرجع إلى علوقية الباشا التي جعلته يعزف عن الزواج طيلة حياته ويزهد في النساء، وأنه وجد في الكلاف بهجته التي كان يسعى إليها طوال حياته وأصابه الحرمان منها بقلق وجودي عميق جعله يقدم على الانتحار في غير مرة، ويعضدون هذا القول بأن محمد بك الكلاف -هكذا أصبح اسمه بمرسوم ملكي!- لم يجرؤ على التفكير في الزواج خشية إثارة غيرة الباشا إلا بعد أن توفي.

3

على ضفاف فرع النيل السعيد في إحدى مديريات الوجه البحري يقع قصر عثمان باشا الذي عمت أياديه البيضاء المديرية بحالها ويذكره أهلها بكل خير. ظل القصر دوما عامرا بالضيوف ومقصدا للمعوزين وطالبي الإحسان، حتى بعد أن توفي سار نجله على دربه. وفي حديقة هذا القصر تظل سعاد تلعب طوال النهار مع قططها؛ يتسلقن الأشجار، ويطاردن الفراشات، تجري القطط وتجري هي وراءها، وتتطاير جديلتاها الطويلتان خلف ظهرها. وذات صباح لم يجدلوا لها جديلتيها، وإنما جمعوا شعرها في دائرة واحدة حول رأسها من الخلف، وألبسوها ثوبا كالكبار، ومنعوها من الخروج إلى الحديقة. يومها زار أخاها ضيف لم تره من قبل؛ قصير القامة، عريض الجسد، وجهه قمحي منتفخ، لكنها لم تشغل بالها به، فضيوف أخيها كثيرون، كل ما كان يشغلها اللعب في الحديقة الذي حرموها منه ذلك اليوم.

هذا ما رأته سعاد في ذلك الرجل الذي أتى طامعا في أن تصبح حرمه المصون. لم يكن يهتم كثيرا برؤيتها، فكل ما يهمه سمعة عائلتها العريقة التي ستكفل له مكانة مرموقة بين الأعيان تنسيهم مهنته التي صارت لقبا ملاصقا له. لم يشعر يوما أن مهنته سبة تشينه، ولم يعارض الباشا وهو يلحق -بلذة مازوخية غامضة- ذلك اللقب باسمه أمام الجميع حتى أصبح لقبه الرسمي، لكنه اكتشف مؤخرا أنه سبب نظرة الازدراء التي تحيط به في كل مكان وتحول دون بلوغه كثيرا من طموحاته، لا سيما بعد أن فقد الباشا داعمه الرئيسي. حاول الكلاف كثيرا أن يصاهر عائلة ذات أصول عريقة لتعينه على الارتقاء، وقوبلت كل مساعيه بالرفض، ولذلك لم يصدق أذنه عندما أخبروه بموافقة أهل سعاد المبدئية، وكان يظن رفضهم أمرا مفروغا منه.

غير أنه عندما وقعت عينه على سعاد أدهشه جمالها. كانت شبيهة بمدموازيل ديانا التي قابلها الباشا في مارسيليا ذات مرة؛ الوجه المضيء، والشعر المتموج الزاخر، والعينان الوامضتان، غير أن سعاد تحمل من البراءة ما تفتقر إليه شبيهتها. فتاة بهذا الجمال، سليلة عائلة عريقة واسعة الثراء، ولم تتجاوز بعد الخامسة عشر، ما الذي يجعلهم يقبلون بتزويجها بالكلاف؟

في ليلة الزفاف اكتشف حل هذا اللغز؛ إن عقل سعاد توقف عند سن السابعة!

بذكائه المعهود لم يفتعل مشكلة مع أصهاره وأبقاها على ذمته اتقاء للفضيحة -أولا-، وليكسر -ثانيا- عين أصهاره -ذوي النفوذ الواسع- بجميل زواجه بابنتهم المعتوهة فلا يرفضون له طلبا. ومع ذلك بقيت مشكلة؛ كيف سيواجه المجتمع بفتاة في عمر السابعة؟ يتأملها وهي تلهو مع قططها داخل المنزل -بعد أن منعها من اللعب في الحديقة درءا للفضيحة- ويفكر: كل الناس يعرفون الآن أنه متزوج، وحضر القاصي والداني حفل زفافه، ولن يستطيع إخفاء حرمه ذات الحسب والنسب عن الناس المتلهفين على التعرف إليها.

عند أول مناسبة اجتماعية مكث أياما يدربها على حسن التصرف في هذه المواقف، ويتلخص الأمر في أن تجلس في مكانها صامتة ولا تنطق إلا عند الضرورة بعبارات مقتضبة محفوظة. ظل يكرر عليها القواعد طوال الطريق، وما إن وصلا واصطحبتها سيدة البيت لمجلس النساء حتى ارتسمت على وجهها ابتسامة بلهاء يعرفها جيدا، فوقع قلبه في قدميه، وظل -وهو في نصف هدومه- يختلس إليها النظر من بعيد وهي تلاعب الأطفال وتطاردهم بين النساء الجالسات. لكن -للغرابة- لم يحدث شيء مما كان يخافه، فقد أحبتها سيدة البيت وأثنت على ذوقها ولباقتها وتواعدا على التزاور، وتكرر الأمر نفسه بعد ذلك مع كل معارفه.

كانت مهارات سعاد الاجتماعية مفاجأة لم تكن في الحسبان. صحيح أن سلوكها يخرق كل القواعد الاجتماعية وتشوبه خفة وغرابة، لكن ذلك لم يثر حفيظة أحد فكان الجميع يتقبلون أي شيء تحت وطأة جاذبيتها الخفية. فجأة امتلأ بيت الكلاف -الذي لا يحب البشر بطبعه- بضيوف من الشرق والغرب؛ الهوانم، وبنات العائلات، والأطفال، والقطط، وبعض الأميرات من الأسرة المالكة، كل هؤلاء يتجمعون حول سعاد هانم، تؤنسهم، وتلاعب الأطفال، وتقص عليهم الحكايات، وتشاكس القطط وتجري وراءها، كل ذلك والكلاف يراقبهم من بعيد بسعادة بالغة لم يكن يتخيلها.

غير أن الضجر بدأ يتسلل إلى نفسه مع مرور الوقت. هذا الزحام داخل البيت يزعجه، وسعاد هانم ثرثارة لا تستطيع كتمان سر واحد في حياته مهما حذرها، وفي كل جلسة تجذب انتباه الحضور بتفاهاتها التي تروقهم فلا يستطيع هو أن يتفوه بكلمة جادة واحدة. راح الكلاف يزداد ضجرا وعبوسا في حضورها دون أن يشعر أحد بما يعتمل داخله، وقرر أن يقصيها شيئا فشيئا من حضورها الاجتماعي، وبالفعل لم يصحبها معه في أول دعوة تلقاها، وكانت من حسين سري باشا نفسه، وما إن وصل حتى وجد الباشا نفسه وحرمه ناهد هانم يسألانه عن سعاد هانم، فتحجج بإصابتها بمرض حال دون مجيئها.

جلس الكلاف طوال تلك الليلة وحيدا لا يلتفت إليه أحد إلا للسؤال عن سعاد هانم فقط، وفي النهاية عاد وحيدا إلا منزله وفي صدره مرجل يغلي، وما إن طلع الصباح حتى وجد ناهد هانم ومعها لفيف من الهوانم آتيات لزيارة سعاد هانم وعيادتها في مرضها، عندئذ قرر الكلاف أن يضع حدا لهذه المسألة.

في هذه البقعة من عزبته اختار أن يبني قصره كما يشتهي أن يكون؛ شاسعا وفخما كقصر ملكي، بعيدا عن البشر عند تخوم الصحراء، وملحقا به حظيرة شاسعة تسع كثيرا من البهائم التي يحبها وتحبه، ويفهمها وتفهمه، وفي غضون أشهر قليلة أعلن انتقاله وحرمه للإقامة الدائمة في العزبة النائية، ولن يأتي القاهرة إلا لماما لقضاء مصالحه، بينما ستظل سعاد هانم مصونة هناك حتى تُنسى ككل شيء في الحياة.

لم تر الهانم في ذلك الانتقال ما يضر، على العكس تملكها حماس طفولي لخوض تلك المغامرة واكتشاف هذا المكان الجديد. كعادتها اندمجت في حياة العزبة وارتاح الفلاحون لها واستبشروا خيرا بوجودها، حتى البهائم أحبتها وصارت لا تأكل إلا من يدها. لكن البك لم يترح أيضا. ازداد غضبه المكظوم، وأقبل على الحشيش والخمور بإسراف، وتدريجيا أصبح ضربه لها طقسا يوميا سواء كان بسبب أو بغير سبب. وذات صباح استيقظ الناس على خبر اختفاء الهانم!

قال أهل العزبة إن النداهة نادتها فهامت وراءها على وجهها، أما البك فراح يفتش عنها في كل مكان في سرية تامة (هكذا اتفق مع أسرتها على إخفاء أمر غيابها المفاجئ درءا للفضائح وكلام الناس). يقولون إنه ظل يسهر الليالي مخمورا حزنا على فراقها، وشوهد أكثر من مرة وهو يبكي ندما حتى مات كمدا في غضون سنوات قليلة. يقولون إن عفريت الهانم خنقه وهو جالس على مقعده في القطار من العزبة إلى القاهرة. نام، وحين أيقظوه لم يستيقظ.

4

عيناها اعتادتا الظلام، فأصبحتا تريان الأشياء فيه بوضوح مثل القطط. لا تكاد ترى من الضوء إلا تلك الخيوط الرقيقة التي تتسرب إليها وقت الشروق. عالمها في حجم غرفة صغيرة؛ أسفل الجدار البحري طلمبة يدوية قديمة اعتراها الصدأ تستخرج الماء من الأعماق، وتحتها حوض حجري يصرف المياه والفضلات عبر ماسورة متصلة بحفرة عميقة جواره لها غطاء من الزهر الثقيل.

وجهه كان آخر عهدها بالبشر. يهبط إليها مخمورا، يصفعها، ثم يحتضنها، ثم يبكي. أحيانا يطؤها بغلظة كالبهائم، فهو لا يجيد التعامل إلا معهم، وأحيانا ينام في حضنها، فتمسح دموعه عن وجنتيه المنتفختين، وتغني له أهازيج الأطفال التي لم يسمعها يوما. ربما لا تفهم تفسيرا عقليا لما يفعله، لكنها تشعر بحدسها القلبي بإرث أسود يثقل كاهليه يمتد منذ الإنسان الأول.

لقد أطاعته وانتقلت معه إلى هذا القفر البعيد. أحبته، وأحبت بهائمه، لكن ذلك لم يخفف من ضجره الذي أخذ في التزايد دون سبب مفهوم ولم تعرف طريقة لإطفائه. كل ما تفعله يغضبه وتنال على إثره عقابا مبرحا. وفجأة، قبل غيبتها بأسابيع قليلة، توقف عن ضربها دون سبب.

لم تسعد سعاد بهذا التغيير الذي اعتراه، فقد صاحب ذلك مقاطعة صارمة منه لها؛ لا يوجه لها كلمة، ولا يستمع إلى كلمة منها، فكأنها لا شيء. آخر تعامل دار بينهما قبلها كان يوم عاد من القاهرة فوجدها في الحظيرة جوار تلك الجاموسة المريضة التي فشل في علاجها فأمرهم قبل سفره بذبحها قبل أن تموت “فطيس”. وجد الجاموسة قد شُفيت تماما على يد الهانم التي أصبحت البهائم متعلقة بها. توقعت الهانم أن ينالها العقاب إثر ذلك، فهى تُعاقب على كل شيء سواء كان جيدا أم سيئا. لكن ذلك لم يحدث، وبدلا من ذلك حدثت القطيعة.

خلال هذه المدة جلب عمالا من خارج العزبة وأعدوا غرفة القبو كما يشتهي؛ زنزانة بالغة الترفيه، بها مصدر ماء دائم وحجرة صرف سفلية، جدرانها بيضاء (وإن حال اللون الآن وتساقط بفعل الرطوبة والزمن)، وجيدة التهوية إلى حد ما. وذات ليلة اصطحبها إلى تلك الغرفة وتركها، وأخبر الناس باختفائها.

لا يؤنسها في غرفتها إلا صديقاتها القطط؛ تلاعبها، وتغني لها، وأحيانا تموء مثلها، ويتناهى إلى سمعها، عبر فتحة التهوية الشرقية، نداءات البهائم لها قبل أن تختفي تماما وتنقض الحظيرة. تهم القطط بمهاجمته حين تستطيل يده لتؤذي صديقتهم، فتمنعهم إشارة من يدها، وتتلقى الضربات صامتة. أحيانا يهبط إليها كل ليلة، وأحيانا يغيب أياما بعد أن يترك لها ما يكفي من الطعام. وفي آخر مرة شعرت أنها لن تراه مرة أخرى، وبكت كثيرا وهو يغادر، وما زالت تنتظره حتى الآن.

هي لا تعلم أنها الآن أتمت مائة عام بالتمام والكمال. لم تر نفسها منذ عقود، ولا تعلم كيف تحولت إلى امرأة عجوز. حين طال غيابه وفني طعامها، راحت القطط تتسلل إليها حاملة أطعمة شتى لا يعلم إلا الله من أين تأتي بها، وتظل رابضة حول الغرفة صباح مساء لتحميها من أذى البشر، وكل البشر أذى. تتمسح القطط بقدميها، وتنام كل ليلة عند ركبتيها مصغية إلى غنائها الناعم الحزين. تدريجيا نسيت لغة البشر فلم تعد تتلفظ إلا بذلك الأنين الممرور بحزن الانتظار الأبدي. يسمعه أهل العزبة فيرتجفون، ولا يعلمون أن داخل هذا القبو امرأة حية ترزق، فقد مات سرها مع سجانها. يرونها أحيانا من عالمهم عبر النافذة الشرقية الصغيرة، فيفرون رعبا، وتراهم أحيانا من عالمها ظلالا غير واضحة، إذ يبدو أنها عشيت عن الإبصار في الضوء، وبين العالمين تاريخ شاسع من الدم والحديد ضارب في جذور الأرض.

مقالات من نفس القسم

علي الدكروري
تراب الحكايات
موقع الكتابة

المارد