النوام

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سامح هواري

انتبهت له وقد وضع قلمه على مكتبه، وشعت عيناه احمرار غروب الشمس، وقف واتجه نحوي بخطوات مسطولة، تثاءبَ، وسقط في منتصف الغرفة.

 صديقي اسمه صلاح ويدعونه النوام، وميزته الوحيدة أنه لا ينام سوى في ميعاد محدد، لا تغفل عيناه إلا عند الشروق، فإذا فاته لا يقاربه النوم إلى الشروق القادم، فرض عليه هذا الأمر شكل حياة خاص، حياة ليلية، وبالرغم من أنه أمر مرهق للغاية كما اتضح لي إلا أنه يتقبله، بل هو في الحقيقة يعتز به، قال لي في لحظة صراحة أنه مدين لهذا الأمر بالكثير، فكما أجبره نظام نومه الغريب على الليل مسحه بسحر أسطوري، غرابة جذبت الناس إليه وكأنه حورية بحر أو طائر رخ، جكى لي عن سنوات شغله في السياحة، عمل في فندق صغير في الأقصر يدعى "ميد نايت"، سمعت سائحة فرنسية حكاية نومه هذه من أحد العمال فسحرت بها، حكاية عجيبة في بلد العجائب، تستحق الركض وراءها لتُحكى في المستقبل، دفعت له النقود لترافقه لبضعة أيام، مقابل مبلغ جيد سافر معها رحلة في الصحراء، هي وهو وحدهما، راقبته لبضعة أيام، كانت دومًا في حالة نشوة، قال لي أنها تظل لفترات تحملق فيه، ووقعت في غرامه، كانت مستعدة لأي شيء، لأن تترك بلدها وتقيم بجانبه، قالت إنها لم تر أجمل من لحظة نومه تحت الشروق، يسحب الليل الظلام منه ويتركه لضوء الشمس يبث فيه الطمأنينة فينام مولود جديد، أبوه الظلام وأمه النور.

مع أني صديق له منذ فترة ولكني لم أشهد نومه إلا منذ عشرة أيام تقريبًا، جاء الأمر بشكل غير متوقع، سافرنا أنا وهو سفرية تبع الشغل في سوهاج، هناك وعندما استيقظت لأصلي الفجر كان متيقظ، صليت وحضرت فطارًا فأكل معي، وجلسنا نتحدث حتى وجدته في منتصف الحديث خطفه النوم، ومع أني توقعت أن يكون الأمر مذهلا، إلا أنه كان عاديا، عاديا بشكل مبتذل، لا يتناسق مع أسطورته بأي شكل. وجدته يقترب مني ويقول لي، إذا لم أنم عند الشروق القادم سأموت، ثم ابتعد وهو يسب.

انطلق النوام مع صديقته حول العالم، لم يمر وقت طويل وعادا، يقول لي المرأة جنت، كانت تخاف عليه، تأبى أن يحكي حكايته لأحد، تقول ستسرق مني، ابق معي واتركهم، وضيقت الخناق عليه فانقلبت الرحلة لجحيم، وقرر العودة فعادا، ولكن جنون المرأة زاد مع العودة، لا تريده أن يتحدث مع أحد، قالت: ما رأيك نقيم في الصحراء، في عزلة لا يخالطنا فيها بشر، قرر تركها فحاولت معه، أغرته بكل شيء تملكه، ولكنها لم تكن بذلك الثراء، عندما يئست منه سافرت بلادها، وعاد النوام للقاهرة.

حضرت يوما ما مخرجة سنيمائية وعرضت على النوام نقودا مقابل تصوير لحظة نومه، كان المبلغ مغريا فوافق، كما تحمس أيضًا للشهرة، أعدت المخرجة موقع التصوير سريرا فوق سطح الهرم الأكبر، كاميرا تنتظر خروج الشمس من مخبأها، أخرى على وجه النوام، خرج الفيلم ولم يشاهده، ولم يسمع به أبدًا، حاول الاتصال بالمخرجة ولم يستطع.

قال لي ونحن نجلس على القهوة: الولية الفرنسية انتحرت، وبعثت لي تقول: “حبيبي صلاح، مثلت لي أسطورتك جمال الحياة، بدونها العالم قبيح للغاية، أقبح من مقدرتي على تحمله”.

عندما قابلت أمه قالت لي أنه لم يولد هكذا، ولكن بدأ الأمر معه من عمر سنة، كان الأمر مريبا للغاية، ذهبنا به للطبيب فلم يفلح، وتأكدنا أنها الولية جارتنا، ذهبنا به لشيوخ مصر كلها، ولم يستطع أحدهم فك اللعنة، تحايلنا عليها بنت الكلب إلى يوم موتها، ولكنها كانت تنكر ما يظهر كالشمس.

منذ خبر السيدة الفرنسية وهو لم ينم، لا عند الشروق ولا عند الغروب، شهر مر ولم يذق النوم.

انتبهت له وقد وضع قلمه على مكتبه، وشعت عيناه احمرار غروب الشمس، وقف واتجه نحوي بخطوات مسطولة، تثاءبَ، وسقط في منتصف الغرفة، نائمًا كان، وكانت الساعة ساعة ظهرية.

انتهت اسطورة النوام بخبر موت الفرنسية، وعاش سنوات يحاول إعادة أسطورته الضائعة، وعندما يئس تحسر عليها حتى نسى، ولكن يوما ما، وعندما طعن في السن، شاهد الفيديو الخاص به على اليوتيوب، بعدها انتحر، ترك لي رسالة وقال: “اليوم رأيت ما رأت المجنونة الفرنسية”، قرأت الرسالة وبكيت بشدة، بحثت عن الفيديو كثيرًا على اليوتيوب، وعندما وجدته أخيرًا، أصابني حزن شديد لأني رأيت الأمر عاديا، عاديا بشكل مبتذل.

 

 

مقالات من نفس القسم