د. شيرين أبو النجا
طغت الحروب بكل نتائجها المدمرة على الكتابة الابداعية مؤخرا، وكان للنساء نصيب كبير في هذه الكتابة باعتبارهن يدفعن الثمن مضاعفا. اكتسحت النزاعات المسلحة مساحات كبيرة من العالم العربي فكان لابد أن تشتبك الكتابة النسوية مع الواقع الأليم في اليمن وسوريا والعراق وفلسطين، وهو اشتباك احتفظ للنسوية بخصوصيتها المعرفية والأيديولوجية ووضعها في مواجهة وحش الحرب الذي ينهش أجساد النساء في المقام الأول. بالإضافة إلى الحروب هناك وحوش أخرى على الذات أن تواجهها وتشتبك معها قبل أن تصل إلى أرض نسوية صلبة متماسكة. وحوش تنبع من الداخل تبدأ من خوفنا من الظلام أو الوحدة وتنتهي بالنظر إلى الغولة في عينيها وتمر بعدم تقديرنا لأنفسنا وعدم تصالحنا معها. تشتبك الكاتبة المصرية سمر نور مع هذه الوحوش في روايتها الصادرة عن دار العين في 2018 بعنوان “الست”، في اشارة إلى سيدة الغناء العربي أم كلثوم.
في عام 2013 كتبت سمر نور روايتها الأولى بعنوان “محلك سر” (سبقها مجموعات قصصية)، حيث لمى وصوفي). بدا الأمر وكأنه إعادة جرد للذاكرة ومفرداتها وأسماء الأماكن والشخوص فكانت النتيجة إعادة قراءة للماضي من أجل فهم الحاضر. انقسم العمل إلى جزئين، الأول عنوانه “شرفات” ويدور حول طفولة لمي وصوفي. أما الجزء الثاني فعنوانه “جدران” حيث تستدعي لمى الثلاثينية ذاكرتها كاملة، وهو استدعاء لا يشكل عبئا بقدر ما يتحول إلى وسيلة تحرر من سطوة الأب ورموزه وتجلياته. رحلة الذاكرة التي تعيد طرح السؤال ليست سهلة، فكان لابد أن تتحول كل شخصية إلى مرآة تعكس الوحوش التي لابد من مواجهتها، مواجهة تدفع الذات إلى الخروج من عالم الطفولة والمراهقة لتصل إلى لحظة النضج الثلاثيني حيث السؤال والبحث عن اجابة جديدة. قطعت “محلك سر” شوطا في التعرف على الكيفية التي تتشكل بها مفردات الوعي النسوي، والرحلة التي لابد من البدء في مسارها ليتحرر الوعي من ذاكرته.
حين ظهرت تلك الرواية كتبت مقالا في “أخبار الأدب”- عام 2013- أؤكد فيه أن سمر نور تُعيد إرساء علاقة مع جيل التسعينيات من القرن الماضي من حيث محورية موقع الذات في السرد، فهي ذات متأملة في داخلها وفيما حولها من شروط مادية تساهم في تشكيل الوعي ثقافيا واجتماعيا ونفسيا. وفي العمل الجديد- “الست”- تواصل الكاتبة مساءلة الذات ومحيطها. وكأن هذه الرواية تُكمل رحلة “محلك سر”. تعيش الراوية الآن بمفردها تماما، فليست في حاجة إلى الآخر الذي يعكس لها الوعي ويدفعها إلى التفاعل. هي الآن امرأة وحيدة في بيت بمفردها تستمتع بوحدتها وباستقلالها عن بيت الأهل. هناك عدة وحوش عليها مواجهتها: الجيران المتشككين فيها في البناية، البواب، أصوات غريبة تأتي من المطبخ، قطط تصر على نبش كيس النفايات، والرجل الذي يتجاهلها بقسوة. هكذا تتنوع الوحوش. بقليل من التأمل تبدو كلها وحوشا تُصنع في داخل الروح وتعبر عن الرغبة في الحماية والمساندة. وعليه تبدأ الراوية التحدي لتحقق الوحدة النفسية والفكرية والمجتمعية كاملة غير منقوصة.
تعيش البطلة على روح الألوان (تعددية اللون لها دلالة) وتتأمل نفس الألوان في أثناء الطهي، تتناغم هذه الألوان لتُشكل رؤيتها لذاتها، ثم تبدأ رحلتها مع الأصوات، فبعد أن كانت تسمع أصواتا غريبة غير معروفة المصدر من المطبخ، يحتل صوت أم كلثوم القادم من الشقق المجاورة المشهد. تكتشف الراوية للمرة الأولى هذا الصوت، في دلالة على ايجابيات الوحدة التي تسمح بالرؤية من زوايا مختلفة عن تلك التي نشأنا عليها. في متابعتها لأم كلثوم، تبدأ الراوية- التي عشقت الصوت- في مساءلة قصص الأغاني. الحبيب الأول الذي يهجر ويغضب لكن المحبوبة تتغنى به وبحبه. ترفض الراوية قبول الرؤية السائدة في أغاني الست، وتطرح احتمالات مغايرة لكون الحبيب قد هجر الحبيبة، وتتساءل الراوية ما إذا كان الحبيب المزعوم يعلم بهذه المشاعر في المقام الأول. بهذا التساؤل الذي يلح على الذهن تتمكن من مجابهة الوحش الذي كان يعتمل في داخلها تجاه أحدهم الذي افترضت أنه يتجاهلها. وقرب النهاية تعرف أن قصتها معه انتهت من داخلها تماما، تماما كما شعرت بعدم احتياجها للجلسات مع الطبيب النفسي. نعم، تنتهي الأساطير إذا نظرنا لها من زاوية مختلفة. بالقضاء على المخاوف والأساطير تظهر الروائح في النص، وتتوقف الراوية- وهي كاتبة- عن النفور من رائحة جلد أمها. لحظة التصالح مع النفس وبالتالي مع الآخر.
هكذا تخوض الراوية تجربة الاستقلال والوحدة لتشتبك مع مخاوفها إلى أن تتعثر في صوت أم كلثوم. يتحول هذا الصوت إلى وسيلة أخرى للتحرر من المخاوف، وكلما تتأقلم الراوية مع وحدتها كلما يتأكد القارئ من قدرتها على هزيمة الوحوش بداخلها، وكلما تتساءل الراوية عن القصص التي تتغنى بها الست كلما تفتح حوارا مع الوحوش الرابضة حولها. بقدر ما تشتبك الكتابة النسوية مع الوحوش بقدر ما تكون قد رسمت خطوة على طريق حرية الذات ومسار تحررها من شروط مادية اجتماعية يفرضها الواقع تتحطم في كل التفاصيل اليومية التي نمر بها.
………………
*نقلا عن “ضفة ثالثة”