المهنة: أحمد طه

أحمد طه
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حسن عبدالوجود

فى أحد أيام صيف عام 50 ولد أحمد طه فى شبرا مصر، وترك الحى تأثيره على شخصيته، فقد صنع منه ابن البلد، الذكى، والجدع، والبسيط، والشجاع. مرت دراسته فى «شبرا الإعدادية» دون أحداث كبيرة، لكن فترة دراسته فى «شبرا الثانوية» حملت بدايات التغيير، والمواقف العاصفة، إذ أنه فى الصف الثانى الثانوى وجد نفسه فى مواجهة الزعيم جمال عبدالناصر وجهاً لوجه، فما الحكاية؟

قرر عبدالناصر فى هذا التوقيت إنشاء منظمة «الشباب الاشتراكى»، ومنها خرج «التنظيم الطليعى»، وكان على كل مدرسة وجامعة أن تراقب فتيانها، وأن تختار منهم العناصر الأفضل، وانضم المختارون إلى معسكر فى منطقة حلوان، لمدة أسبوع، وهناك حاضرهم أساتذة جامعات فى التاريخ والاشتراكية العربية. كان الطلبة خليطاً مدهشاً، أغلبهم من الجامعات، وبعضهم من المدارس الحكومية، وحتى من الأزهر، وكذلك موظفون، وقسّموهم إلى مجموعات، كل مجموعة يشرف عليها مقرر شيوعى سابق تأدب فى المعتقلات وأصبح صديقاً للدولة. سارت الأمور برتابة بالنسبة لطه، حتى ظهر فجأة عبدالناصر بشحمه ولحمه، ومعه على صبرى. تأمله طه ملياً، ولم يشعر بالرهبة، بل إنه تشجع بعد أن استمع إلى خطبة ناصر الطويلة عن الحياة الاشتراكية، وسأله عن مصير قواتنا فى اليمن بعد أزمة 65. كان لطه أخ يحارب فى اليمن، ومع الأخبار السيئة التى بدأت تتسرب، شعرت العائلة بالخوف عليه، وبدت هذه فرصة عظيمة لطه، أن يسأل الزعيم شخصياً، والزعيم بدا متقبلاً، وشرح باستفاضة وضع القوات، وقال إنه يجمعها ويعيد نشرها، لكن طه كان مشغولاً بأخيه أكثر.

يحكى: «فى المدرسة بدت المجموعة أشبه بأى تنظيم سياسى، لها مسؤول، تعقد اجتماعات أسبوعية، لمناقشة التكليفات، ومنها ما دوّناه من شائعات تُطلق على النظام، واختاروا بعضنا للمرحلة الثانية، لكننى شعرت بالزهق، وقررت الهرب».

عاد أحمد طه إلى ممارسة هوايته، كملكٍ للشارع، وأقام «دورى كرة قدم». وجاء الفتيان من الشوارع المحيطة لتسجيل أسمائهم وأسماء فرقهم، وتولى هو كل شىء، كان كابتن فريق، وحكماً، ورئيس لجنة المسابقات، واتحاد الكرة. أحب عالم الشارع لدرجة أنه بعد نجاحه فى اختبارات نادى الأهلى وقبوله ناشئاً، عاد إلى متعته، فقد وجد نفسه فى «التتش» مجرد فتى عليه أن يستمع للأوامر. غادر أسوار النادى بلا رجعة ليفرض هيمنته على شبرا. وينظم جدول المباريات، ويُحضر من شارع عبدالعزيز كأس البطولة، ويكتب أسماء الفائزين فى شهادات على الآلة الكاتبة، وكان لكل فريق اسمه، فمن فريق الأحلام، إلى الملوك، إلى الأهلى، إلى الزمالك، إلى هولندا، إلى البرازيل، وكان طه يختار ما يناسبه باعتباره كبير المنطقة: فريق «الأسد المرعب»، وكان كذلك هو المسؤول عن صناعة «كرة الُكلّة»، وهى نسخة مطوَّرة للكرة الشراب، نواتها قطعة إسفنج لا بأس بها، توضع فى شراب، يخنقه بعشرات الأمتار من خيط قوى، ثم يدهن الكرة بقشرة رقيقة من الكُلّة ويتركها لتجف. لم تتركه المنظمة فى حاله فقد هجمت عليه بعد عدة أيام، وأُجبرته على الالتحاق بالمرحلة الثانية، وبالتالى الالتحاق بمعسكر المنطقة الثانية، فى «أبوقير»، بصحبة محمد، شقيق أحمد عبدالمعطى حجازى، وقد وصلت أنباء بوفاته ذات يوم، فكتب عنه حجازى مرثية فى 67، قبل أن يفاجأ به يقف أمامه. هزم شائعة استشهاده وعاد ليعمل صحفياً فى «روز اليوسف».

كان طه مغرماً -حتى هذا التوقيت- بشعر نزار قبانى، إذ دخل مرحلة الحب والإعجاب، وبدأ كتابة شعر، خليطً من الفصحى والعامية، بعد ارتباطه –من طرف واحد- ببنت الجيران، لم يتعد هذا الحب النظرة والإيماءة والابتسامة والخيالات الحارة، وأحلام اليقظة المتوهجة. كانت مجرد تلميذة، لكن طه تعامل معها كحب حياته، وقرر حمايتها، ليس هى فقط، وإنما كل فتيات الشارع، من هجوم منافسى الشوارع المجاورة وأوغادها. كان بعضهم يتجرّأ ويدخل الشارع ليستطلع ربما، ليحصل على نظرة إعجاب ربما، أو على وعد مؤجل ربما، وأى شخص كان يقوده سوء حظه إلى الشارع، يخرج له طه من أحد الشقوق، وخلفه فتواته، ويعيدونه بجسد لا يخلو من علامات الضرب المبرح.

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 29

يعود طه ليتذكر هروبه من المرحلة الثالثة للتنظيم الطليعى، الذى قاد المظاهرات عقب هزيمة 67. لم يسعفه مجموعه لدخول كلية الهندسة كما خطط، وكان محبطاً للغاية، وقرر دخول الجيش. وأبوه كاد أن يُجن، وخبأ أوراقه، وطه ألح عليه أن يسلّمها له، وأصر الأب وأصر الابن، وأصر كبار العائلة، لكن إرادة طه الصغير كانت أقوى من الجميع. فقد التحق بالجيش فى النهاية: «اعتقدت أن الحرب ستنتهى سريعاً، وبعدها فكرت أن بإمكانى تحقيق حلمى بالسفر إلى أوروبا، لكن الحرب امتدت، ومعها امتد وجودى فى الخدمة العسكرية ست سنوات ونصف، بدأتها فى 20 مايو 69، وأنهيتها فى أحد أيام 75. كنت أقدم مجند مؤهلات، وحصلت على كثير من الفرق، م ط (مدفعية) وقادة مشاة، لكننى لم أحصل على ترقية لأننى كنت كثير المشاكل، وخرجت مجنداً، لكنهم عرضوا علىّ وظائف فى أماكن مهمة رفضتها جميعاً. بقيت صايع، لا شغل ولا مشغلة، وذات مرة ذهبت إلى صديق غنى بتاع بنات اسمه فارس، وطلبت منه أن يطلب من أبيه شراء تاكسى، وأخبرته أننى سأعمل عليه».

كانت هذه هى أول حكاية لطه مع الوظيفة. اشترى الأب لهما سيارة موديل 124، وعمل طه عليها لمدة عام ونصف تقريباً، بدأت من يناير 76، ثم عمل فى إحدى شركات التأمين كإدارى سبع سنوات، ثم هيئة الكتاب. كان سيدخل الهيئة عن طريق صلاح عبدالصبور. سأله صاحب «أحلام الفارس القديم» الذى كان معجباً بما يكتبه: إيه حكاية التأمين دى؟! انت مكانك هنا فى الهيئة، فقال له طه: «يوم الخميس هاجى لحضرتك الصبح، اخلص بس أوراقى» وطمأنه عبدالصبور: «اعتبر نفسك اتعيّنت»، وتأخر طه يومين، وللأسف حينما جاء كان صلاح عبدالصبور قد غادر الهيئة، والدنيا كلها.

رتّب القدر لطه عملاً فى الهيئة رغم رحيل عبدالصبور. سامى خشبة وسليمان فياض تحدثا مع رئيسها آنذاك الدكتور عزالدين إسماعيل، وطلبا منه أن يقابله، فوافق وقدم له عقداً كمصحح فى الهيئة، وأسس طه مجلة «عالم الكتاب» عام 83. وكُلف أستاذ المكتبات والوثائق الدكتور سعد الهجرسى برئاسة تحريرها، بينما أسند منصب مدير التحرير لجلال السيد. وطلب الهجرسى أن تكون اجتماعات المجلة فى مكتبة الكونجرس بجاردن سيتى، لكن طه رفض. يحكى: «وصلت الخناقة بيننا إلى الدكتور عز الدين إسماعيل فحاول إقناعى، لكنى رفضت وقلت بوضوح إننى لن أذهب إلى هناك، يمكنه أن يذهب هو كيفما شاء، فابتسم، وقال لى لا تذهب، والمجلة لن تخرج من هيئة الكتاب».

استمرت المشاكل بين الاثنين، واضطر أحمد طه الزاهد فى كل شىء إلى التخلى عن مكانه وذهب ليعمل كمحرر فى مجلة «القاهرة» مع إبراهيم حمادة، عام 85 أيام سمير سرحان، وتعرض طه لنكسة أخرى، إذ سُجن بتهمة المشاركة فى تنظيم ماركسى لقلب نظام الحكم، هو ومحمد سليمان وإبراهيم عبدالمجيد وفتحى عبدالله. خرج طه وسليمان بعد ثلاثة شهور، أحد أيام شهر أبريل، وسارا فترة طويلة، وتوقفا أمام محل عصير قصب ليرويا ظمأهما.

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 29

كان أحمد طه يسكن فى الزاوية الحمراء. وشقته أصبحت قبلة لكثير من الكتّاب والشعراء والمثقفين، ولم يقتصر الأمر على المصريين، وإنما امتد إلى أصدقائه العرب. وأصبح هناك رواد دائمون، أحمد دحبور، عفيفى مطر، قاسم حداد، إبراهيم منصور، وغيرهم. كان يقيم ندوة كل خميس، فسمّوها ببساطة «الخميسية»، وآخر ندوة ناقشوا فيها رواية صنع الله إبراهيم «بيروت بيروت». شربوا فى هذا اليوم، كالعادة، كمية شاى ضخمة، كان المشروب الرسمى للندوة، مع أن  الحصول عليه بدا وقتها أصعب من الحصول على الأفيون، إذ لم يكن موجوداً سوى فى دكاكين التموين، وبالتالى كان طه يضطر للتعامل مع سيدة فى السوق السوداء. لم تكن هناك ماركات للشاى، وإنما كان هناك فقط «شاى سايب»، أسود، منقوع فى الورنيش، ومُعطَّر بالنشارة، وأعواد الشجر، وشوائب المعادن، لكنه كان جميل الطعم على أية حال، كما دلّه بعض معارفه على موظف يعمل فى «جمعية تعاونية»، فمنحه الكمية التى يحتاجها من الشاى والسكر، وأكثر، وطه القنوع أعاد إليه بعض الأكياس، واتفقا على أن يعود إليه كلما احتاج، وهكذا تم حل مشكلة الشاى. المهم أن البوليس فى هذا اليوم هجم، على الشقة فى وقت متأخر، بعد أن غادر الجميع، وتركوا طه وحيداً. كان منهمكاً فى كتابة موضوع لمجلة «عالم الكتاب» ثم سمع الطرق المخيف المتتالى على الباب. دخلوا وقلبوا الشقة، و«جابوها على الأرض»، وحرّزوا أكثر من 600 كتاب، وكل أوراق طه المهمة وغير المهمة، أى حرف كتبه، وأى قصاصة دوّنها، وأى صورة شخصية له أو لعائلته، وأى خطاب جاءه من صديق أو صديقة: «اقتطعوا 35 عاماً من حياتى، ومحوها. لن تجد لى أثراً قبل سن الخامسة والثلاثين. حتى الشعر الذى لم أحفظه أخذوه، انتهى كل أثر له، قطعوا جزءاً ضخماً من ذاكرتى حتى عام 85، أى أننى أعيش نصف عمرى الآن».

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 29

قابل طه د. كلاريسا برت -التى ستصبح زوجته فيما بعد- أثناء حضوره هو وصديقته المقربة عزة بدر مؤتمر طه حسين فى المنيا. يقول: «أنا خجول بطبعى، أخذت هى الخطوة الأولى، عمرى ما حاولت التقرب من فتاة. أنا من يتم اصطياده. كان أسامة الدناصورى يسمّينى العنكبوت، ويقول إننى أكمنُ فى انتظار فريسة، وقلت له هذا الأمر ينطبق عليك كذلك، لكنه كان يرى نفسه ذئباً، وقلت له أنا أيضاً ذئب، لكن لما واحدة تيجى ناحيتى مالكش دعوة بيها الله يخليك. المهم، بعد حبسى كانت كلاريسا تأتى لزيارتى فى سجن القناطر، وكان يدخلونها كأنها أنتيكة تستحق الفرجة. تدخل وتحتضننى، فنصبح تسلية للجميع، وفى إحدى المرات طلبتْ أن تنقل أشياءها إلى شقتى فى الزاوية الحمرا. بدت خطوة جديدة مهمة فى علاقتنا، فوافقت فوراً، وبسببها كان بعض المثقفين يتهموننى بأننى عميل للـCIA. جاءت إلى القاهرة فى منحة غلابة، إذ كان أربع طالبات يقمن معها فى سكن بسيط بوسط البلد، ولأسباب ما عادت كلاريسا فجأة إلى أمريكا، وكانت تأتى إلى مصر كل شهرين لتخطف أسبوعين معى، وبمساعدة الدكتور فاروق عبدالوهاب حصلت على منحة فى جامعة شيكاغو، وألحت علىّ لنتزوج، فرضخت، ويوم الفرح كنت أرتدى «قميص وبنطلون»، بينما ارتدت هى فستاناً أبيض، وذهبنا إلى الشهر العقارى فى العتبة لنوثق الزواج، وأمضينا عامين فى مصر، ألحّت خلالهما لنذهب إلى أمريكا ونستقر هناك، وتدخل الدكتور عبدالمنعم تليمة لإقناعى. كان صاحب تأثير كبير علىّ أنا وآخرين، إذ كان يمنحنا مقعد الأستاذية فى شقته، ويجلس على الأرض، ويتركنا لننتقده. كان أستاذاً حقيقياً، وحتى بعد رحيلى استمر صديقاً لأولاد أختى، خاصة رنا التونسى».

وصل طه إلى شيكاغو وأحبّها من اللحظة الأولى. اعتبرها مدينته الثانية بعد القاهرة. حفظها شبْراً شبْراً، وزوجته أبدت اندهاشها وهى تسير معه فى الشوارع، فهى نفسها لم تكن على دراية بالمدينة. يقول طه إن شيكاغو تبدو مقسّمة بحدود صارمة بين البيض والسود. لو أخطأت الشارع إلى مناطق السود، لصار مصيرك الضرب أو حتى القتل ببساطة. فَهِمَ مكامن الخطورة وأخذ احتياطاته. إذا خرج إلى الشارع كان يخبئ المال فى «الشراب»، وحفظه السود بمرور الوقت، حفظوا ملامحه، بعد أن تبادل معهم أحاديث قصيرة عرفوا منها أنه قادم من إفريقيا مثلهم، وإن كانت بشرته فاتحة، وأصبح صديقاً لبعضهم، وكفوا عن تفتيشه.

كانوا يوقدون الحطب فى البراميل، وكل برميل تتصاعد منه الأدخنة، يقول: «تأكدت أنهم كسالى للغاية، ونساؤهم يقمن بكل الجهد البدنى، والعمل». اختبره السود أحياناً ليروا إن كان يعاملهم كصديق أم أنه يزدريهم فى أعماقه. يخرج أحدهم من مكانه فى الشارع أحياناً ويناديه، ويمد يده إليه بالماريجوانا، وكان طه يعلم أنه لو تردد لحظة واحدة فى قبولها فربما يخسر حياته، وهكذا كان يلتقطها ويدخن فوراً، ثم يعيدها مصطنعاً البهجة، وأخطر ما قام به بعد أن حفظ خراباتهم أنه بدأ يسرق منها الماريجوانا. كان يلتقطها ويضعها فى حقيبة قديمة جلبها خصيصاً لهذه المهمة، منطلقاً كالصاروخ. أى خطأ كان يعنى نهايته. لو رآه أحدهم فلن يستطيع أى ركن فى المدينة حمايته منهم.

كان يحمّصها فى الفرن ويتركها لتنشف قليلاً ويفركها. وبعد أن ينتهى مخزونه منها، يخرج متشمماً هواء شيكاغو، يقوده دخان البراميل إلى الخرابات، ليقطف الأوراق الخضراء. كان يشترى تبغاً رخيصاً لأنه يعرف أن بعضهم سيقابله ويطلب منه سيجارة، فيمنحه واحدة، لكنه فى اليوم التالى يستردها، إذ يطلب سيجارة جيدة بعفوية من آخر شخص مدين بالتبغ.

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 102

عمل أحمد طه فى وظيفة طباعة الكتب فى مكتبة «كينكوس» بجوار جامعة شيكاغو. ودرّس فى الصيف الأدب العربى فى الجامعة بتوصية من يورسلاف استاتكيفيتش، أحد أكبر أساتذة العالم، وصاحب الكتب المهمة فى أدب الرحلة، كان يأتى كل عام إلى مصر، وكتب عن كثير من أدبائها وشعرائها، وكان يجيد سبع لغات منها العربية. وأشرف على رسالة كلاريسا: «كان فاروق عبدالوهاب يدرّس العربى فى الجامعة، ولم يحصل على الأستاذية، وبالتالى استمر لمدة أربعين عاماً يكرر الدروس ذاتها. وكان عندى طلبة من جميع الأجيال. منهم شخص فى الرابعة والسبعين من عمره، وهو أستاذ فى جامعة ميتشجن، قال لى إنه جاء إلى هنا ليقوّى لغته العربية، وقال أيضاً إن أباه يبلغ 96 عاماً، ويتعلم، وإنهم عائلة مُعمّرة، والكل يبحث فيها عن المزيد، ولكن كانت هناك طالبة نيجيرية جميلة ومشاكسة، وفجأة وجدتُ هذا الرجل الطاعن فى السن يشير إليها بغضب ويقول إنها تضحك كلما بدأ يتحدث، كانت هناك فروق ضخمة فى الأعمار وفى الثقافات، لكننى سيطرت على الأمور».

أنجزت كلاريسا الدكتوراه، وأكملت التدريس فى جامعة شيكاغو، وكانوا يخرجون جميعاً، أساتذة وطلبة ليسهروا عند أحدهم، كانت صداقات جميلة وبريئة، غير أن أمراً سيئاً حدث، فقد تحرش أستاذ مصرى بطالبة. لمسها فى شعرها، فجن جنونها، والموضوع وصل للإدارة وبدأ التحقيق، وسين وجيم، وكلاريسا صديقته المقربة قالت إنها مع الحق وشهدت ضده، وتسببت فى مشكلة ضخمة جداً له، وبالتالى أصبح عدوها، بدأ يلاحقها: «كانت صارمة جداً مع الأسف فى طريقة التدريس، فبدأ الطلبة يشتكون منها، وضاقوا بها، واستغلها ذلك الشخص فى ملاحقتها، ومحاصرتها، واضطرت فى النهاية إلى التدريس فى مدينة أخرى، هى أوهايو».

كانت تجربة أوهايو سيئة للغاية. كره طه هذه المدينة من اللحظة الأولى وأدرك أنه لن يكون بينهما عمار. يقول: «كنا فى بلدة جنوب أوهايو اسمها آسنس، كلها ثلاثة أو أربعة شوارع، والبقية غابات، وشعرت من الأسبوع الأول باكتئاب. أنا مواليد شبرا، أحب الزحام. أنا ابن القاهرة، أحب شيكاغو لأنها تشبهها. أنا ابن البارات المزدحمة بالناس المختلفين، أكره بارات أوهايو التى لا يرتادها إلا الفلاحون. كانوا يأتون بدراجاتهم النارية، ويتركونها فى الخارج، وجدتهم غليظين، وقساة، وشديدى الفجاجة. يخلطون الويسكى مع الكولا، ويتجشأون فى وجهك. كنت أنظر إلى آخر الشارع وأشاهد الغابة فينقبض قلبى».

فى أوهايو، المدينة الكريهة، كان طه يجلس فى البلكونة ليقرأ رواية أو ديوان شعر أو حتى ليتصفّح مجلة، ويمد يده ليلتقط حبة فول سودانى من طبق أمامه، مستمتعاً، ثم يفاجأ بورقة شجرة تسقط على أنفه، أو شعره، أو على الطبق، فيتأمل ألوانها الجميلة، ويمد يده ليمسكها ويقرّبها من عينيه، أو حتى ليلقيها بعيداً، ولكن تتوقف أصابعه قبل أن تصل إليها بسنتيمترات، إذ تطير الورقة فجأة عائدة إلى شجرتها، ينتفض إذ يكتشف فى هذه اللحظة أنها فراشة. كان يدخل كذلك أحياناً ليحضر زجاجة مياه فيجد السناجب -التى تقضى نصف يومها تراقبه من خلف الأغصان القريبة الملونة بقلم فولماستر بُنى- قد استولت على مخزونه من الفول السودانى. أحياناً كان يعبرُ وعلٌ أسفل البيت، ويشعر بأن طه يراقبه من البلكونة فينظر إلى أعلى باتجاهه، وتلتقى نظراتهما، فيهز شبكة القرون القوية فوق رأسه كأنما يحييه ويسير مبتعداً. كان أمراً غريباً ومدهشاً وجنونياً، فى هذا المكان لم يكن البشر يناسبونه ولا الحيوانات ولا الغابة ولا الفراشات كذلك.

وبفضل الدكتورة سامية محرز حصلت كلاريسا على وظيفة جديدة، فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة، ولكنه عام 98، بدأ حياة جديدة بدونها إذ أعلنا انفصالهما خلال هذا العام.

انتهى هذا الفصل من حياة طه لكن قصصه لم تنته. عام 88 أسّس «الكتابة السوداء» ثم سافر إلى أمريكا قبل أن تصدر، وحصل على منحة عام 94 وجاء إلى القاهرة وأسس جماعة «الجراد» مع بعض السبعينيين، وكان أقربهم إليه صديقه التاريخى عبدالمقصود عبدالكريم، ربما من أيام «تانية إعدادى». دخل عبدالمقصود المدرسة وهو فى الثامنة، «كان بشنبات»، و«سيبويه الجامعة». و«علامة الجراد الكبرى»: «كان أعضاء الجراد يحضرون إلى شقة زوجتى كلاريسا فى الزمالك، محمد متولى، بهاء عواد، أحمد يمانى، أحمد حسان، هدى حسين، نجاة على وصديقاتها. كانوا بلا عدد، يسهرون حتى الصباح يأكلون ويشربون ويتحدثون فى الشعر. كنت أحبهم للغاية، إلا أن وجودهم أصبح ضاغطاً بالنسبة لكلاريسا. خرجت مرة وانفجرت فيهم قائلة لهم إنها تريد إقامة علاقة مع زوجها. معى. طلقتها، وذهبت للسكن فى شقة الهرم، شطّبتها بنفسى، وساعدنى أصدقائى، مثل سهير المصادفة وزوجها شاعر العامية محمد عليوة».

فى وقت لاحق أحضره سمير سرحان وقال له إن غالى شكرى أصبح قعيداً، وطلب منه أن يقود مجلة «القاهرة»: «خلى بالك أنا جايلى توصية من وزير الثقافة إن عبدالرحمن أبوعوف يبقى معاك» فرفض لأسبابه الخاصة، إذ يرى أن مكان غالى شكرى واسع جداً عليه، كما أن لديه كثيراً من الملاحظات على أدائه، وأولها أنه سيأتى إلى المجلة مفروضاً عليها، وبعد استغلاله -كما يحكى- لأزمة مرض غالى.

 بدأ طه يعمل فى التدريس للأجانب. وكان يكسب ألف جنيه فى اليوم، ولم يشعر بالاحتياج إلى هذه الوظيفة، لكنه عاد وقبلها بعد إلحاح، وهناك فى مقر المجلة شاهد أموراً غريباً، فقد كانوا يحضرون المكافآت الشهرية فى كيس بلاستيك، ويخصمون لأنفسهم مكافآت الكتّاب العرب والأجانب وكبار السن من المصريين مثل إدوار الخراط، فلن يأتوا ليسألوا عن هذه المكافآت. كان تقليداً لا سرقة، كما يحكى، لكنه منع هذا الأمر تماماً، وأقر استلام المكافآت من خزينة الهيئة، وفى أول اجتماع قال إن أى مادة مُختلَف عليها ستخضع للتصويت: «قبلت بوجود أبوعوف فى منصب شرفى هو نائب رئيس التحرير، وكان معى فتحى عبدالله، والسماح عبدالله، وكريم عبدالسلام، ثم أحمد يمانى الذى كان يعمل -مع الأسف- مصحح لغة بمبلغ هزيل، ذهبت إلى سمير سرحان وطلبت منه أن يوقع قراراً بنقله إلى المجلة، فرفض وقال لى.. انت هتقلبها جراد كده زى ما بيقولوا»..

وفى غفلة من سمير سرحان وضع أحمد طه طلب النقل وسط الأوراق، فوقّعه دون أن ينتبه وهكذا أنقذ يمانى. يحكى: «أبوعوف عمل ملحق فن تشكيلى لفاروق حسنى بحجة أنه عرض أعماله فى اللوفر، وأنا سألت عن الموضوع، وأصدقاء أخبرونى أنه لم يعرض بالمتحف، وإنما فى مبنى ملحق به، يقع أمامه، ويسمح لكثير من فنانى العالم غير المعروفين بالعرض، وبدأت المعركة بيننا، لدرجة أنه كان يكتب مقدمة، وأنا أكتب مقدمة أخرى داخل العدد نفسه للهجوم عليها، ثم ضربته، وأخذونا إلى قسم بولاق. قفزت فى البوكس بينما ركب هو «تاكسى»، والضابط حاول بقدر الإمكان مصالحتنا. انتوا مثقفين وعيب. لكنه كان مصراً، وهناك قلت للضابط إن أبوعوف مريض نفسياً وتحدث له تهيؤات. حضرتك بص فى وشه كويس، مفيهوش خربوش واحد. هل ده منظر واحد مضروب؟! أنا لو ضربته هيموت، والضابط اقتنع، وأبوعوف شعر بالرعب، وقال للضابط: ده هيستانى فى الشارع ويضربنى تانى. ومن جاءوا معنا من الهيئة كانوا يكتمون ضحكاتهم، ثم ذهب إلى النيابة الإدارية، وقال إننى خصصت بدلات للموظفين، وهم من يوصلون النسخ المجانية إلى الصحفيين، وهذا حقيقى. كنت مندهشاً لماذا ينزل هؤلاء من بيوتهم وهم يتاقضون مبالغ هزيلة، 80 جنيهاً فى الشهر يصرفون أكثر منها على المواصلات؟! كنت أسألهم: لماذا تقبلون بهذا؟! وقررت أن أخصص هذه المكافآت لهم، فقد صعب علىّ حالهم جداً. ووكيلة النيابة تفهّمت الموضوع وحفظت القضية، والمجلة نتيجة للخناقة قفلت، أرادوا إحضار أنيس منصور لينقذها -أو هكذا تخيلوا- لكن الأمر لم يكتمل بسبب الاعتراضات»، ويضيف: «حصلت على إجازة بدون مرتب، وللأسف انتفاضة 25 يناير، وأنا أسميها هكذا، طفّشت الأجانب، وبالتالى أعتمد حالياً على المعاش».

يبدو النقصان هو الحالة المعبّرة عن أحمد طه. كثير من الأمور العادية، أو الجميلة التى بدأها لم تكتمل. ترك مكانه فى القاهرة بعد أن كان واحداً من أشهر شعرائها بحثاً عن حلم لم يتحقق بالكامل فى أمريكا، فقد مكانه هنا، ولم يجد نفسه هناك. عاد فوجد المحررين الصغار رؤساء تحرير، بينما كان عليه أن يبدأ من الصفر. كان الأكثر شهرة فى جيل السبعينيات، لكن وجد الخريطة تغيرت. يقول: «كنت غير محبوب، إذ آمنت بالهوية المصرية، وكنت ضد الهوية العربية، فى وقت كان كثير من شعراء السبعينيات معها. ضحيت بأشياء ما كان يجب أن أضحى بها. أنا نادم على أمور لا تعد ولا تحصى، ولكن خلاص مات الكلام. لا أريد النظر إلى الماضى، سوى لأستعيد الأماكن التى أحبها، وأقربها إلى قلبى شبرا، وناسها».

يقول طه فى قصيدته الجميلة «حائط المنفى» من ديوانه «امبراطورية الحوائط»:

«لكننى

لم أنس حين غادرت شبرا

أن أقيم جسراً بينى وبينها

لا لأعبره

ولكن

لأنظر إليه».

مقالات من نفس القسم