المنحوتة في مدخل البناية

من سيرة الخائفات
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

إيمان بنداري 

*إلى عبده جبير

(1)

ثلاث كرات في مدار رأسي مجوف “المنحوتة في مدخل البناية”، إحداهن صغيرة في أسفل المدار، والثانية متوسطة الحجم في منتصفه في الأعلى، والثالثة كبيرة الحجم في الرُّبع قبل الأخير منه، وحمامة مفرودة الجناحين فوقه. لم أرَ أحدًا ينتبه إليها من قبل. عمومًا، لا أرى أحدًا في خروجي أو عند عودتي إلى البناية. ربما مواعيدي لا تتوافق مع أحد من السكان، ربما لا ألحظهم ولا يرونني.

المنحوتة في مدخل البناية، أظنها ترمز لما يكون عليه الأشخاص، أو يُفترض بهم أن يكونوا عليه في نهاية اليوم. إن كان في أيٍّ منها ما يشبهني لكان المدار الدائري الموضوع بشكل رأسي. لا إنجازًا حقيقيًّا يحدث، وعملي يُحتّم عليّ حمل عبء الكرات مهما اختلف حجمها.

عندما سألتها لِمَ جاءت؟ أجهشت بالبكاء، بكت كثيرًا حتى نفد الإشفاق، وبدأ التململ. استرعى انتباهها بندول مثبت على قاعدة خشبية، ظلت تحدق فيه حتى نسيت بكاءها، ثم بدأت الكلام كأنها لم تكن تعصر قلبها بكاءً منذ لحظات. بهدوء وبينما عيناها تتابعان البندول كأنها تتحدث وتفكر في أمر آخر مختلف، أخبرتني أنها جهزت إجابة لهذا السؤال ولأسئلة أخرى متوقعة كما تشاهد في الأفلام، وإن جملة: «الدكتور قال لي…»، ستبدو جيدة كحالة على فيسبوك، وأن حياتها لو كانت فيلمًا أجنبيًّا فإنها لن تكون الفتاة التي غادرت البلدة بعد حفل التخرج، أو التي قبَّلها حبيبها، ستكون الفتاة التي حملت تلك الليلة وتغيرت حياتها للأبد.

(2)

  • مَن يريد أطفالًا؟! أعجز عن ربط حذائي الرياضي أحياًنا، وأتكاسل عن تمشيط شعري لأيام، أهمل طعامي وملابسي؛ ف يبدو أي من هذا طبيعيًّا؟! الأطفال رائعون لكنهم يختلطون بالماء، أتفهم ما أعني؟

قبل يومين وبينما أسير في الشارع صادفت صديقة من سنوات الجامعة وحدث ذلك أمام محل لبيع الأحذية، كنا نتبادل في حماس الحديث عن الحال والأبناء وجهات العمل، ثم كتم الصوت وتعلقت عيناي بزوج أحذية جلدية بلون أحمر قانٍ. لم أسمع شيئًا مما قالت، بينما عيناي معلقتان بزوج أحذية بلون أحمر قانٍ وكعب عالٍ. كانت كل سعادتي في هذه الحياة معلقة بهذا الزوج من الأحذية وعلي شراؤه، وعندما افترقنا دخلت المحل بانقياد تام. كان ثمنه أكثر مما حملت في حقيبة يدي وكل ما عرفته أن عليّ شراءه الآن. هاتفت حسن وبعد عدة محاولات أجاب لكنه أخبرني أنه أعطاني كل ما معه تقريبًا في أول الشهر ولا يحمل سوى القليل. تشاجرت معه وأغلقت الهاتف ولم أكن أعرف ما عليَّ فعله سوى أنني أريد هذا الحذاء الآن وعليّ امتلاكه. هاتفت صديقتي التي التقيتها للتو وحين طلبت منها نقودًا صمتت طويلًا وتعللت بأنها وصلت إلى بيتها للتو، ولا تستطيع العودة لمقابلتي، وعليها إعداد الطعام. أنهيت المكالمة وهي  تتحدث. عدت إلى بيتي متأخرًا ولم أنم ليلتها؛ أريد هذا الحذاء وعليَّ شراؤه.

في الصباح توجهت إلى المحل ولم يكن قد فتح بعد. انتظرت طويلًا بينما سعادتي ووجودي كاملًا مُعلقان بهذا الحذاء،عندما وصل العامل ووجدني جالسة على الرصيف أمام المحل بدا سعيدًا. عدت إلى البيت بزوج أحذية بلون أحمر قانٍ وكعب عالٍ جدًّا لن أرتديه يومًا، وبدا ذلك مهينًا بشكل حقيقي ومؤسف، وعليَّ البحث عن مساعدة.

(3)

أحيانًا أشعر أنّ شيئًا ما مهمًّا يحدث هنا، في العيادة الصغيرة وأثاثها البسيط، والراديو الصغير الذي يشبه راديو جدي. عل شيء مهمّ أن يحدث هنا، وإلا لن يكون لأي شيء معنى.

امتلك جدي راديو صغير ثبت في نهاية سريره إلى الحائط. حينما يديره نعرف أن ميعاد النوم أتى. نترك ألعابنا وننسل تباعًا إلى السرير المجاور متقابلي الرؤوس والأرجل، ننصت في هدوء لسيدات يتبادلن حديثًا كالأغاني في برنامج إذاعي ما حتى ننام، في الصيف كان يترك الشباك مفتوحًا لنسمة باردة تلعب بيننا طوال الليل، وحين يقوم لصلاة الفجر ويهم بإغلاقها كانت رائحة الغرفة تشبه ساحة مسحورة توقف عنها المطر للتو.

(4)

مرات تأتيني دفعة نشاط، كل شيء يحدث بسرعة، كأنني أجري. أجري في الكلام، والعمل، في البيت، الشارع، وحتى في محادثات الجيران أجري. يرمقني الجميع بنظرات غريبة، وأنا، أجري. أجري حتى تنقطع أنفاسي، أجري ككرة ثلجية تهبط منحدرًا شاهقًا ثم حين لمست الأرض أخيرًا انزوت على نفسها وذابت. أتكوّم في سريري وأنام لساعة، لساعات، ليومٍ كامل أو عدة أيام.

كأن رأسي يفور ثم ينطفئ ، حتى يضغط شيء ما على زر خفي في وسط ضحكة صاخبة بالضبط، أو وسط قُبلة محمومة، أو لقاء حميمي فأركله كجرو مُبلل، وألعنه دون توقف. هو طيب ويحبني كثيرًا، يحتمل تقلباتي ومصائبي الشرائية، أو أن الرجل في الأربعين ساذج ومتصابٍ وحقير. لا أعلم لِمَ قلتُ هذا تحديدًا. هل تفهم ما أعني؟!

أنا لا أحبه، ولكنني لا أكرهه، ولا يستحق احتقاري، هل يبدو أي من هذا مفهومًا؟!

هل تؤمن بــ (الكارما)؟!

أظن أنني في حياة أخرى كنت حبة رمل على الطريق، ألتصق بأرجل الحفاة وأسقط بين قدم وأخرى، هذا الطريق يشبه المسافة بين نابَي تنين، ينفث الهم والرمال. لم أصنع سوءًا أو خيرًا بأحد؛ ولكن لسبب لا تفصح عنه الكارما جاءت حياتي تجمع مآسيهم جميعًا، وأكمل والدي إحكام الخناق وأسماني أسماء. أحمل يوميًّا أسماءهم جميعًا كي لا أنسى.

خمسة جنيهات للبطاطس، واثنان للطماطم ومثلهما للخبز، لم يكن عليّ أن أقبل رجلًا لا أحبه، ولكن ماذا عن اللحم، ورسوم الطبيب، والجوع؟! الجوع لا يرحم.. والحب لا يدوم، ولا الشباب، ثم لِمَ عليَّ أن أكون دائمًا حبّة رملٍ يدوسها الجميع في كل حياة أحياها؟! ما الذي ينقصني؟!

(5)

-لم تكن لدي أسباب تفسر كرهي لأبي، لم يكن يسيء لي أو لأمي، أو تأخر في الطريق إلى البيت بعد العمل، لا يعلو صوته طلبًا للطعام، أو يتأخر في المقهى، لم يكن يختلس النظر لنافذة الجارة المفتوحة دائمًا، أو يتعمد لمس الخادمة من وقت لآخر، أشبَه غيمةً صغيرة تعبر الردهة الضيقة بثقل نحو الصالة، ثقل يشبه سلحفاة لا تكترث للأرنب.

كان النيل يمتد أمامي كرصيف بارد. على مسافة بعيدة شاب يعزف على الكمان، بينما صديقه يصوره بكاميرا هاتفه المحمول. أتى اللحن من بعيد بسيطًا ومتكررًا، كأم تنادي طفلها من الشارع بينما ينحسر ضوء النهار، بسيطًا ومتكررًا حتى إنني وددتُ أن يكون لي أهل أعود إليهم، حتى وددت لو أن أمي تناديني، بسيطًا ومتكررًا حتى إنني بكيت.

(6)

-عملي يحتاج إلى أكثر من “مواصلة”، تنقلني من تراب الطريق إلى لسعة الأسفلت، بين كل عربة وأخرى أتخفف من لكنتي، ورائحتي، ومسقط رأسي. الناس هناك جهلة وأفَّاقون ذوو رائحة سيئة متشابهة. الاكتئاب سِحر، والشيزوفرينيا مَس، والصَّرع جِنيٌّ مُقيم. في عملي الناس أكثر تحضرًا ولؤمًا.

لدينا قدر كافٍ من المعرفة، كافٍ لنعرف ما نريد وما نحتاج وما نستحق، كافٍ للقدرة على رؤية كم نحن بائسون بالنظر إلى ما حصلنا عليه، بائسون بالقدر الكافي لنمنح معرفتنا لغريب لم يسألنا إياها قط، في محطة الباص النائية، في القطار المتهالك، أو في عيادة طبيب نفسي مُمل ومُتعرق. نمنح الأسئلة والإجابات كإرثنا الحقيقي الوحيد الذي نخشى عليه من الضياع؛ لذا دعني يا غريب أنبئك بأسمائهم: الهلاوس، والكآبة، وملل الزوار، والهروب من الأهل، والتعالي، والحزن، والاحتقار، والهم، والكسل، والبكاء، ونوبات الهوس، والكسل، والخوف.

كعروس ورقية تخزني دبابيس الأيام، تحفظني من العين لكنها لا تحفظني من نفسي. جوجل يمنحني عدة احتمالات، أُقلّصها وأشعر أن كل الأعراض تتشابه، وأريد أن أشعر بأنني بخير، أن أتوقف قليلًا عن الجري وألتقط أنفاسي، أن يقيدني دواء، أشعر بالعلة في داخلي، ولكنني أريد أن أعرف.

 هل تكتب لأنك تنسى؟! ممل وبارد!

(7)

عدت إلى البناية مشيًا كالعادة، بينما أنتظر المصعد تلهو طفلة عند قاعدة المنحوتة، تدفع الكرة الأصغر فتتحرك في المدار قليلًا لأعلى، ثم تعود لتتدحرج للأسفل، بوصول المصعد تبدأ أولى محاولاتها الناجحة، الكرة الصغيرة ترتفع لتصطدم بالكرة الوسطى التي تتحرك نزولًا لتصطدم بالكرة الأخيرة، والتي تتحرك بدورها لتصطدم بالأولى، وهكذا محاولة واحدة ناجحة كافية لتشعل حماس الطفلة، تكتمل الدائرة ثم يتعاقب اصطدام الكرات واحدة تلو الأخرى في تناغم، حتى لتنسى أيتها بدأت، أيتها تسببه؛ فضحكت. تعاقبت الدورات بينما أمد يدي لأضغط زر الدور التاسع، بينما عيناي معلقتان بالمنحوتة، وأظن أن الحمامة ترفرف وستطير. ينغلق الباب وأنا أضحك، وأن أريد أبي وجدي وأختي الوحيدة الصغيرة، وأضحك.

(8)

الندى على الزجاج في الصباح الباكر، بينما شيء من أشعة الشمس يشق طريقه يمنح المكان لطفًا مناسبًا لرجل يتخطى أمرًا ما، أو يحاول، الصباح الباكر، ولسعة البرودة لقدم امرأة تخطو حافية نحو المطبخ تعد لنفسها شيئًا دافئًا يبدو مناسبًا لامرأة تبدأ أمرًا ما أو تقترب.

أقف بجوار النافذة، تمتد المزروعات الخضراء أمامي، ويضج الهواء برائحة ذرة خضراء وطين بارد، بينما أطفال يوسوسون بخفوت بين الأرض الترابية والشبابيك كشياطين صغيرة تتحرك بحذر، وعلبتا دواء تتراصان على حافة النافذة، ويبدو ذلك ثاني أجمل طريقة تختم بها قصة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مجموعة “من سيرة الخائفات” .. الحائزة على المركز الأول في مسابقة الهيئة العامة لقصور الثقافة 2019

مقالات من نفس القسم