الملاكان

إيمان يحيى
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

إيمان أحيا

على إحدى السقالات القديمة التي كانت جزءا من ميناء قديم على شاطئ البحر الأحمر، وحيث اعتدت أن أجلس كل يوم حتى أصبح الجميع يشير إليه “بمكانك” وكأنه ملكيتي من الأصل، وبينما كنت أسير متباطئا متأملا سعة البحر وزرقته على الجانبين، مستنشقا هواءه الذي يخفف أثقال القلوب، إذ بي أراهما من بعيد وقد أخذا مكاني، توقفت محاولا التحقق منهما ومما يفعلان.

كانا طفلة وولدا يبدو أنه يكبرها بقليل، اقتربت لتتضح الصورة لي أكثر: يخلع الولد ملابسه، يقترب منها يربت على كتفيها، أسمعه يؤكد عليها انتظريني ولا تقتربي.

تجمدت مكاني، ماذا سيفعل هذا المجنون؟!،هرولت نحوهما بأقصى سرعتي، ولكنه سبقني وقفز بالفع  ،في جزء من الثانية وجدت نفسي معه في الأسفل سحبته مسرعا، وصعدنا أعلى السقالة، تفحصته جيدا لم يصبه شيء ،ولكنه كان ينتفض بشدة.

حاولت تدفئته ببعض الملابس التي خلعها، رغم أنها لا تشبه الملابس كثيرا ولكنها أفضل من ملابسي الثقيلة بجفافها،هدأ بعض الشيء نظرت إليه وإلى الصغيرة الواقفة، طفلة في السادسة من عمرها تقريبا لها وجه لو قيس الأمر بالحسن لوجب ان تكون إحدى العارضات الصغيرات لأفخم العلامات التجارية، ولكنها ترتدي أشباه ملابس حتى أنك لتشبهها إلى أخيها من ملابسها .

سألتهما ماذا يفعلان وكيف يأتيان إلى هذا المكان الخطر بمفردهما، ثم متوجها إلى الولد بغيظ وارتباك: كيف تقفز في هذه المياه ومن هذا الإرتفاع، هل تريد أن تموت؟

نظر إلي الولد ذو الأعوام التسعة نظرة ملؤها العمق والألم وقال: كنا نبحث عن قبر أبي .

أفقدني وقع الكلمة النطق لعدة دقائق، ثم سألته :كيف؟ ومن أخبرك بوجود قبر أبيك هنا؟

أجاب الولد: أمي من أخبرتني، كلما سألتها كانت تقول إنه هنا في هذا البحر وإن بإمكاني أن أزوره عندما أكبر، كان يغيب كثيرا من أجل الصيد، أتذكره جيدا كان يحبنا كثيرا، في آخر مرة طلبت منه أن يشتري لي سيارة تتحرك بالريموت مثل التي كانت مع جارنا أدهم، وكان يقول لي لن تستطيع شراء مثلها لأنكم فقراء، حزن أبي عندما أخبرته ووعدني أن يشتريها لي، ومنذ أن خرج للصيد في ذلك الوقت لم يعد مرة أخرى ..لذا جئت أبحث عنه، هل تستطيع أن تساعدني في إيجاده، فأنا لا أعرف كيف تكون القبور.

حاولت القول مجاهدا غصة جففت حلقي: ولماذا تبحث عنه ؟ فأجاب كراشد يعي تماما ما يريد: أريد أن أعتذر له، فلقد مات أبي بسببي، لأنه ذهب للصيد في ليلة عاصفة رغم تحذير أمي وخوفها عليه من العاصفة ومن قاربه الصغيرالمتهالك، لكنه أصرعلى الخروج قائلا لها: لن أضيع فرصة صيد وفير في هذه الليلة وأنتي تعلمين أن معظم الصيادين سيخشون العاصفة ولن يخرجوا وبهذا سأتمكن من جلب الكثير من السمك وبيعه، وسأشتري لولدنا السيارة التي يريدها، لن أُحمل ابننا مزيدا من عناء فقرنا لا أريده أن ينكسر أمام أحد لأننا فقراء مرة أخري يكفيه انكسارا واحدا.

وأردف الولد قائلا: لو لم أطلب تلك اللعبة لما ذهب أبي، لو لم اخبره بكلام أدهم لما حزن وأصر على الخروج، سأطلب منه أن يعود لأنني اشتقت إليه كثيرا .

ضممتهما بكل قوتي والدمع يغرق عيني ،ثم إبتسمت لهما وسألتهما: هل تعرفان من أنا ولم انتظر اجابتهما: أنا صديق البحارة آتي إلى هنا دائما لإلقاء التحية عليهم ،باغتني الولد: وهل يسمعونك ،هل يجيبون؟ أجبته : نعم ، فقالا لي هل من الممكن أن تلقي التحية على أبينا ؟وأن تخبره أن يعود من أجلنا ؟

ضممتهما مرة أخرى يعتصرني الألم، تمنيت لو يمكنني حقا مناداته، ولو بإمكانه العودة.

في طريقنا الى منزلهم مررت بأحد المحلات رغبة في إدخال أي فرحة الى هذين القلبين وإلى قلبي بفرحتهما بشراء بعض الملابس التي ستزينها براءتهما قبل جمالهما، وطائرة بدلا من السيارة التي كانت حلم الولد فتحولت في قلبه الصغير لتصبح ذنبا كبيرا يثقل حتى على من يكبرونه..اصطحبتهما إلي بيتهما  ووعداني ألا يكررا هذا الأمر لكي لا يصيبهما مكروه يُحزن والدهما ، تركتهما على وعد بالزيارة ..

بعد عدة أيام ذهبت إلى مكاني، فوجدتهما، ولكنني فزعت فزعا أكبر فلقد بت أعرفهما، هرولت بسرعة نحوهما/ ماذا تفعلان مجددا ألم تعداني بعدم القدوم هنا مرة أخرى؟،أجاب الطفل مبتسماهذه المرة: طلبت من ادهم أن يعلمني شيئا ،فقبل بشرط إعطائه طائرتي فأعطيتها ل  ،لم أعلم أي شعور إنتابني تلك اللحظة سألته :ماذا أردت أن يُعلمك؟

قال: هذه

ومد إليً يده: بورقة كتب فيها :

“أبي أحبك أكثر من أي شيء اكثر من السيارة ومن الطائرة..أبي أنت بطلي “.

نظرت إليهما وقد تلاشت كل الكلمات من عقلي، ضممتهما، نظرت إليهما نظرة تحفر ملامحهما في قلبي وعقلي، لهما وجهين وقلبين وكأنهما يقسمان بأنك لن تلتقي بمثلهما ماحييت..

قلت لهما محاولا اثارة حماسهما: هيا لنرسلها إلى أبيكما معا ..،هللا فرحين، والتصقا بركبتي، وألقيناها عسى أن تشفي بعضُ من حنين هذين الطفلين الى اب لا اعتقد انه يجيد القراءة من الاصل ولكن هكذا ظن طفلاه أنً بإمكانهما مناجاته…

ولا اعلم سوى انني احسد ذلك الاب ،حتى وان كنت حيا وكان ميتا

 

 

مقالات من نفس القسم