المكان كذاكرة غائبة للماضي

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

قد يبدو لقارئ رواية (ابتسامات القديسين) أن (ابراهيم فرغلي) يحاول اكتشاف تصالح ما بين هويات متصارعة، أو بمعنى أدق بين اشتباكات متناثرة تكافح لتكوين عقائد إنسانية محصنة، لكنني أتصور أن (ابتسامات القديسين) هي توثيق سردي يطمح لتجاوز فكرة الهوية، واستخدام هذا التخطي لإعادة صياغة أماكن الماضي وليس مجرد شخصياته وأحداثه فقط.

ربما تمثل الهوية ظلاً لموضوع أكثر غموضاً أو أكثر وحشية بالضرورة وهو القدر، إذ تبدو الرغبات والدوافع الحتمية التي تأخذ ظاهرياً شكل الاختيارات الذاتية كأنها تقود لنفس المتاهة أو لنفس الهزائم، وعلى هذا فإن الرواية تحاول استبدال ما يمكن أن يُعد مسارات حاكمة لهذا القدر بفضاءات متعددة ومتجادلة من التساؤلات عن الزمن وعن فكرة استعادة العالم وفقاً لأسرار الأماكن، ربما هذا ما يعطي انسجاماً بين الحالات الحلمية في الرواية والتي أفكر فيها كمناطق ملائمة للاستفهام أكثر من كونها مجرد استعمال للواقع في نطاق أسطوري.

إن الميزة في لغة الرواية أراها تكمن في قدرتها على التعامل مع هذه المستويات الحلمية كأنها شروط بديلة للعالم، تتحرك فوق سطح التفاصيل لتُغيّب الحدود بين المراحل الزمنية وترتفع بها ـ بقدر مقصود من الحياد ـ نحو نوع من المطلق، المفارق، المحتفظ بصلاته مع سلطة الحواس، ولكنه يأخذها إلى طبيعة متوترة أقرب إلى المحاكمة.

هناك سيرة ما ولكن المحو هو الذي ينظمها، ليس محو الماضي وإنما محو يقينه .. اليقين المرتبط بالقدر. وهنا تبدو الكتابة كحيز ملائم لهذا الإجراء الذي لا يعني التوافق بقدر ما هو مشغول بضمان الرفض، نحن لا نواجه صوراً ثابتة بل إشارات لفقدان الصور. (ابراهيم فرغلي) لا يخبرك بذلك على نحو واضح وذلك هو جوهر اللعبة .. ليست لديه تأسيسات داخل الجغرافيا بل علامات مبهمة لهذه الجغرافيا حينما كان يجب عليها أن تكون في وجود آخر غير مدرك .. لهذا يمكن أن نشعر بمتعة ما تنبعث من الهزائم، وستكون الكتابة هي مصدرها .. في تعيين سيرة مغايرة يمكن أن يخلقها أقوى أنواع الالتزام باستدعاء الواقع .. حياة لامرئية غير متوهمة ولكنها ترفض تسليم حقيقة ما عنها .. وعد يطالب السرد بتحقيقه طوال الوقت دون شك في إمكانية حدوثه رغم كافة الدلائل المضادة .. لدينا إذن (التجسيد) مقابل (القمع) .. الماضي في مواجهة الظلام الذي يمنعه من الظهور كما كان يفترض .. ليس كممارسة تصحيحية وإنما كحلم متأخر لديه استعداد لفقدان الذاكرة .. تشييد مثالي للعالم لا يستبعد أسباب الجحيم ولكنه يحولها إلى أدوات للخلاص.

بشكل شخصي أحب هذه الرواية ليس بسبب (المنصورة) ولكن لكتابة (ابراهيم فرغلي) عن (المنصورة) في الرواية .. كأن هناك فهماً لديه عن كيفية أن تكتب عن هذه الأماكن تحديداً .. فهم يمكن أن يكون مشتركاً بينه وبين واحد مثلي تنقل جسده بين كل هذه المساحات، ويعرف جيداً أنه ـ رغم كل شيء ـ لم يكتبها بعد.

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم