قصة: لوس جاباس
ترجمة عن الإسبانية: نجلاء الجعيدي
كان قد استعد بكامل طاقته، على الرغم من كونه يتمتع بخبرة كبيرة فى سوق العمل، إلا أنه استعان بكافة المواقع الإلكترونية، عن كيفية إجراء مقابلات العمل، لقد راجع عدة مرات إجابات الأسئلة المتوقعة؛ على سبيل المثال: لماذا ترغب في العمل معنا؟ أين تجد نفسك في غضون سنوات قليلة؟ ماذا تعلمت من وظائفك السابقة والحالية؟ ما هي نقاط الضعف و القوة لديك؟
كان قد تدرب على إيماءاته ونبرة صوته إذ كان عليه أن يتمتع بكاريزما، وأن يكون مستمعا جيدا، كما يكون متحدثًا لبقا؛ يبتسم دون مبالغة، ينظر في عين المحاور مبديا نقاط قوته دون المبالغة في الحديث، وإقناعه في وقت قصير بما سيضيفه للشركة.
رغم أنه يعتقد كون كل شيء تحت السيطرة، لكنه يشعر بالتوتر الشديد؛ فلقد تتوق لهذة الوظيفة بكل كيانه.
قد تكون بداية سيئة إذا كانت التوصية الأولى هي أن يتحلى المرء بالهدوء خلال المقابلة.
استغل كارلوس الثواني في المصعد السريع للمبنى، مقر المقابلة، ليهندم شعره القصير بيديه ويجفف عرق جبهته، فقد غادر منزله في وقت مبكر؛ ومع ذلك واجه حركة مرور غير معتادة في الحادية عشرة صباحًا حيث من المفترض أن يكون الجميع في المدارس والعمل، لكن اتضح أن موقف السيارات الضخم قد أغلق طابقين بسبب انفجار ماسورة ولم يكن هناك أماكن خالية.
استغرق الأمر أكثر من ساعة، ليجد مكانا على بعد عدة مبان من مكان المقابلة، وكما يقول قانون مورفي: إذا حدث خطأ ما ، فسوف يحدث الخطأ؛ كل شيء بإمكانه أن يسير فى الاتجاة الخاطىء سيسير فى الاتجاة الخاطىء.
قام على الفور بجمع شتات نفسه، أخذ نفسًا عميقًا، وفك عقدة حاجبيه، ورسم ابتسامة طبيعية.
كان قد وصل في الميعاد. وكان مظهره مهندم؛ فلقد اختار للمناسبة سترة بسيطة يعلم أنها تليق به جيدًا، كما أنه كان حريصا على تشذيب لحيته.
كان هناك امرأتان ورجل في نفس العمر، ربما أصغر قليلاً، ينتظران على مقاعد بسيطة، بتنجيد من جلد صناعي أبيض، أمام نافذة يمكن من خلالها رؤية إطلالة بانورامية خلابة للمدينة .
القى كارلوس التحية بتهذب مع إيماءة رأس خفيفة، ومنعا للمجازفة، فضل الوقوف بعيدًا، قليلاً، عن الباب الوحيد المرئي، والذي افترض أنه سيكون باب المكتب الذي تتم فيه عملية الاختيار.
عندما يجلس المرء، يمكنه إظهار إحدى هذه السلوكيات؛ إما اللامبالاة، الإرهاق، أو الصلابة الزائفة؛ ليتمكن محاور المقابلة الخروج في أي لحظة لاستدعاء المرشح التالي وإلقاء نظرة سريعة على الحاضرين، واستنباط نتائج خاطئة عن الأشخاص.
لسبب ما؛ قد يكون أول حرف من لقبه أو تاريخ تقديم طلبه أو سن ميلاده ، كان كارلوس الأخير فى ترتيب الدخول‘ كما لم يستطع أن يستشف شيئا من وجوه الآخرين طول جلسة انتظاره. كانوا عاقدين شفاهم مع ادعاء ابتسامة وهمية فيما يتنفسون الصعداء في طريقهم إلى المصعد. من جانبه كان يبادلهم نفس الابتسامة فكان ذلك يبدو طبيعيا. إذ من غير المناسب إعطاء الكثير من القرائن للخصم حول ما سيجده بالداخل.
على عكس إضاءة صالة الانتظار، كان المكتب مظلم إلى حد ما؛ لقد أغلقوا الستائر الألمونيوم وأشعلوا ضوءًا فوق طاولة، لم يجلس عليها شخص واحد بل اثنان؛ لاجراء المقابلة. كانا، المرأة التي خرجت لاستدعائه ورجل آخر، كلاهما فى الأربعينات، نحيفان للغاية، يرتديان سترات بلون داكن.
دعته المرأة للجلوس أمامهم، لكن كارلوس استغرق بضع لحظات للتفاعل، مشتتًا بتحليل رصين للغرفة؛ إذ كان قد تخيل قبل لحظات محادثة غير رسمية في بيئة أكثر انسجامًا مع الصورة الجديدة والشبابية التي كانت تحاول الشركة أن تبرزها، أما الآن، فقد غزاه إحساس، كما لو كان في مركز شرطة.
يجلسان على جانب من الطاولة وهو بالجانب الآخر ومصباح مضاء في المنتصف. في ذلك الحين، تبادر إلى ذهنه أن الانطباعات الأولى مهمة للغاية، فقد قرأ أن بعض مجري المقابلات يكفيهم مجرد النظر إلى الطريقة التي يدخل بها المرشح، وكيف يسير، يتصافح، ويجلس؛ لتقييمه؛ لذلك بخطوة رشيقة وثابتة اقترب من الطاولة وانحنى قليلاً ومد ذراعه لتحيتهم عن طريق مصافحة رشيقة ولكن حازمة، مخاطراً بأن يبدو الشخص الجريء الذي يتعدى حدوده.
قدم نفسه، اسمه ووظيفته وشكرهم على الفرصة، كانت المرأة تدعى صوفيا بينما الرجل، سانتي، أو كما صحح له الاسم قائلا: “شانتي”، حيث أنه يُنطق كما في الإنجليزية؛ حرف ساكن احتكاكي لا صوت له، كما لو أنك تطلب من أحدهم أن يصمت: ششش.
كارلوس، الذي كان يتحدث الإنجليزية بالإضافة إلى الفرنسية، الألمانية والإسبانية ، كرر الاسم بشكل صحيح دون أن يدرك مدى بغض الرجل. جلس مستقيماً، متطلعًا إلى الأمام، مبديًا الاهتمام، واثقا أنه مستعد؛ كان يعرف كل المعلومات حول الشركة عن ظهر قلب، فيما يخص تاريخها، وضعها المالي، منافسيها الرئيسيين، منتجاتها وخدماتها، حتى أنه فكر في اقتراحات حول كيفية تنفيذ وتحسين موقعها الإلكتروني وتمرن على كيفية طرحه دون أن يبدو منتقدًا. على جانب آخر، إذا طلبوا منه أن يخبرهم عن وظيفته الحالية، فسوف يدركون سريعا مدى معرفته بشركته، ومدى خبرته في المهام التي يؤديها، إذ كان لديه توصية من مديره الذي شجعه على اتخاذ هذه الخطوة الكبيرة في حياته؛ لأنه كان يدرك أنها فرصة مميزة.
كان مديره رجلا طيبا، إنسانيا جدا، على الرغم من أنه سيفتقده، لكنه لم يستطع كبح طموحه، بسبب مشاعره تجاهه؛ ففي الحياة عليك أن تمشي إلى الأمام دون توقف.
علمه والداه (من البيئة الريفية) الكد في المحاولة؛ لتحقيق أحلامه. لقد غرسا فيه قيمًا ثابتة فيما يتعلق بالمسؤولية والتقدم.
عندما كان شابًا كان طالبًا نجيبا، مرحا وغير متمرد، أنهى شهادته الجامعية في العام المتوقع بدون إرجاء، وحصل فورا، أولاً، على تدريب، ثم على وظيفة؛ محاولا تجنب قضاء الكثير من الوقت تحت رعايه والديه المادية، وفي الوقت نفسه الاستمتاع -في وقت مبكر- بالاستقلال.
بعد أن استأجر شقة لعدة سنوات، استطاع، أخيرًا، أن يشترى منزله الخاص، شقة في منطقة لطيفة وهادئة، كان يعتبر نفسه صادقًا في جميع جوانب الحياة، ينفذ القوانين بدقه وصرامة، بدءاً من الاستخدام الإلزامي للقناع الطبي، عندما أعلنت الحكومة عن موجة جديدة من فيروس كورونا وصولا إلى دفع الضرائب.
كان يحب زوجته ويحترمها، يلعب قدر استطاعته مع ولديه الصغيرين اللذين كان يعشقهما.
كان يقود سيارة عائلية، لطالما كان مولعا بالسيارات، راضيا عن إنجازاته، وقد حان الوقت لاتخاذ خطوة إلى الأمام وتسلق درجة أخرى.
كم كان سيستمتع بقيادة سيارة أكثر فخامة!
نظرت صوفيا، ذات الشعر الداكن المنسدل حول كتفيها، إلى الأعلى من بعد قراءة بعض الملاحظات عنه وسألته: كيف وصلت إلى هنا؟
كان يفكر بما أنهم تحدثوا إليه بصيغه أنت وليس بصيغة رسمية؛ فتراءى له أن يجيب بالمثل.
– أبلغني مديري بالوظيفة الشاغرة و…
– قاطعته: أقصد ما هي وسيلة النقل التي استخدمتها للوصول؟
– عقد كارلوس حاجبيه. أجاب بصراحة: جئت بسيارتي.
– هل تتحرك دائمًا بسيارتك؟
– فكر؛ هل كانت الإجابة الصحيحة المفترضة هي، النقل العام؟ رد كذبا: فقط عندما أذهب مع عائلتي أو يكون لدي موعد مهم مثل اليوم، عادة أذهب إلى العمل بالمترو.
لم يكن يحب تزاحم الناس بالمترو، وبالرغم من الاختناقات المرورية، فإن قيادة سيارته لطالما أعطته شعورًا لطيفًا بالحرية، أزعجه أنه بدأ كلامه بكذبة، لكن لم يعجبه نبرة التوبيخ من المرأة.
وعلق شانتي بصوت هادىء محايد متناسب مع مظهره قائلا: أأنت متزوج ولديك أطفال؟
انتظر كارلوس سؤالًا لم يأت بعد، أومأ برأسه، قليلا، وضم شفتيه.
– هل عن طريق الكنيسة؟
– نعم، …
لكنه ندم على الإجابة، حيث كان هذا أحد الأسئلة النموذجية المتوقعة بالمقابلات لتقييم تحكمه العاطفي، لكنه في الغالب يأتى في نهاية المقابلات.
– أضاف بجدية ودون انزعاج: أعتقد أن هذا الأمر لا علاقة له بتحديد مدى ملائمتي للوظيفة.
– كل شيء وثيق الصلة.. عائلة تقليدية .. نطق شانتي الكلمة بصوت منخض، كما لو كان يتحدث إلى نفسه، بدت وكأنها توبيخ.
هز كارلوس كتفيه وعلق دون تفكير وبشكل دفاعي قليلاً:
حسنًا، عائلة عادية طبيعية.
حدق شانتي في وجهه بابتسامة ساخرة وهو يدون بعض الملاحظات وحينها فهم كارلوس خطأه، ومن المؤكد أنه سيكتب عن كونه تقليديا إلى حد ما، مساوم، ممتثلا للأعراف والتقاليد؛ كان هذا هو المعنى المرتبط الآن بكلمة “تقليدية” التى قد لا تكون فى أوقات أخرى مهينة.
في أجزاء من الثانية، خطر بباله وابل من الأفكار المتضاربة. كان بحوزته كل المعلومات الفنية والتقنية عن الشركة، لكنه لم يفكر في أي وقت في الجانب الأيديولوجي. حتى الآن، ودائما، يطبق النصيحة: أن يظل على طبيعته ويجيب بصدق. شعر بتعرق جبهته ويديه، هل كان يجب أن يجمل، قليلا، رده عندما قال: “عائلة عادية وطبيعية”. فلم يكن يبدو أن العائلات الأخرى ليست كذلك، أو أن يبدو ذلك مهينا لباقي العائلات؛ لم تكن تعني أن الآخرين لم يكونوا كذلك؟ ربما من الأفضل لو اضاف بعض التلميح إلى حقيقة أنه في بيئته، هناك أسر أحادية الوالد وعائلات من المثليين.
وضعت صوفيا حدًا لشكوكه مؤقتًا، بتغيير الموضوع. وسألته: هل تعتبر نفسك متدينا؟
رمش كارلوس! فجأة شعر بأن الفخاخ تنصب له، كان عقله يتسابق؛ فإذا أجاب بالنفي، فسيكون موضع تساؤل، فهو قد تزوج في الكنيسة، وإذا قال لهم نعم، فإن كلمة “تقليدية” يمكن أن توسع بعدها السلبي.
من ناحية أخرى، ونظرًا لأنه لم يكن لديه أي فكرة عمن يبحثون عنه، فقد وجد أنه من المفيد استخدام الغموض منذ تلك اللحظة.
– أجاب: روحاني. أعتقد أن هناك شيئًا يتجاوز ما هو مادي.
تذكر بشكل خاطف يوم زفافه وتوتر الأعصاب، الفرحة، الإخلاص في إبرام العهود، الشعور اللطيف بالاستمرارية الوجودية التي توفرها الكنيسة الصغيرة في بلدة والديه، المكان الذي اختاره هو وزوجته للزواج، حيث أنها كانت من أهل المدينة، حيث سمحت لنفسها أن تتكيف بعد ذلك مع هذا المكان الريفي المحلي العائلي. أمضيا الصيف في القرية حيث حررا، هناك، أنفسهم من ضغوط وظائفهم.
كانت تتنزة، تقرأ وتزرع الحديقة، أحيانًا كان يمزح بعرض فكرة الانتقال إلى هناك والعيش في الطبيعة وامتلاك الكثير من الحيوانات، وكان يقول لها ربما عندما نتقاعد، حيث كان عليه أن يحقق أحلامه وينجح في المدينة أولا.
سعل لبرهة لخنق الضحك؛ أنه لم يخطر بباله أن يستخدم هذا التعبير في مقابلة عمل! وبالطريقة التي كانت تسير بها الأمور، قد يسألونه عما إذا كان يعتقد أن الحب والالتزام يعنيان التملك، وأن الزواج هو أفضل طريقة لإنهاء الحرية الفردية. نظر إلى عين صوفيا مباشرة وابتسم كي يتكتم على موضوع الدين وبقدر ما أصروا، فإنه لن يضيف أي شيء آخر عن حياته الشخصية.
– سأل شانتي: هل تريد مشروب؟ ماء، مشروب غازي، أو بيرة؟
لماذا! هل رأوه متوترًا! ربما يكون صوته غليظا؟ ثم تذكر مما قرأ أنه إذا عرض عليك مشروبًا في مقابلة، فيمكنك قبوله طالما أنه ليس كحول. لقد كان إذن سؤالًا عاديا لم يكن هناك به شيء يستدعى القلق.
-أنا بخير لا داعي، شكرا.
لسبب ماكر خبيث ، فكر في رد فعلهم على وجوههم إذا كان قد قبل الجعة، وأنه أكثر مشروب يحبه، أو في انطباعهم إذا اعترف لهم بأن البيرة جزء من نظامه الغذائي المعتاد كجزء من أسلوب حياته.
كان قد اعتاد أن يأخذ واحدة أو اثنتين كل يوم بعد العمل، مع الزملاء أو في المنزل، أمام الأطفال. ربما كان مخطئًا عندما أخبرهم كم هو ممتع أن يحتسوا بيرة باردة.
بدا متناقضًا له، منعهم من تجربتها، متخفياً خلف مبرر ضرر الكحول على الصحة، بينما يستمتع بجرعته اليومية؛ إذ لطالما كانت التناقضات جزءًا لا يتجزأ من الحياة.
نهض شانتي وغادر المكتب، حينها، مالت صوفيا إلى الوراء على كرسيها المعدني المصنوع من الجلد الصناعي الأبيض، فكت الكبسول العلوي لبلوزتها، عقصت شعرها لأعلى بشريط مطاطي كان حول معصمها.
بررت قائلة : الجو حار. مستخدمة نغمة ونظرة ودية لأول مرة، ثم انحنت إلى الأمام مسندة مرفقيها على الطاولة، همست كأنها تريد الاعتراف بسر كبير.
– سيرتك الذاتية مثيرة للإعجاب. أمضيت في هذا المجال سنوات عديدة، وأؤكد لك أنك متفوق على أقرانك، بالإضافة إلى مظهرك. عضت شفتها السفلى، بمكر: أنت تقدم شخصية وسيرة ذاتية مثيرة للاهتمام، مهما كان القرار النهائي للشركة، هل تمانع إذا اتصلت بك يومًا ما؛ لنتبادل الانطباعات في بيئة أقل رسمية!
كان لدى كارلوس شعور طفيف بأن المرأة كانت تغازله، لقد فوجيء بالتغير المفاجئ في موقفها. شعر بالإطراء والتودد إلى حد كبير. على الرغم من أنه كان يعتنى بنفسه مما جعله يبدوا أصغر من أقرانه؛ يهتم بمظهره كثيرا، إلا أنه كان قلل من ساعات ممارسة الرياضة وجعل شعره قصيرًا جدًا لإخفاء خط شعره المتراجع.
لقد منحتاه؛ الطبيعة والجينات؛ الكثير. مضيفان إليه كثير من رعونة الشباب؛ استفاد، جيدًا، من كل فرصة مغازلة جاءت في طريقه، ومع ذلك، منذ زواجه، لم ينتهك قانون الإخلاص أبدًا ولم يكن يخطر ذلك بباله، ولا حتى للحصول على وظيفة أحلامه، ومهما كانت المرأة جذابة بالنسبة له.
أجاب بحزم: لا أعتقد أنه سيكون لائقا.
شعرت صوفيا بخيبة أمل، واستأنفت موقفها القاسي.
– يا لها من خسارة…
تساءل كارلوس فى نفسه: ماذا تقصد بالضبط؟ ماذا كانت تشعر؛ برفضه، أم ماذا ستصبح النتيجة لذلك؟ هل تقلصت فرصه في الحصول على المنصب فجأة؟ لقد بدأ يمل من هذه المقابلة. نظر إلى ساعته، اكتشف أنه قد مكث، فقط، حتى الآن، عشر دقائق، فى حين لم يمكث المرشحين السابقين جميعا أكثر من خمس عشرة.
كل ما يدور بذهنه، كيف يدير الوقت المتبقي من هذة المقابلة.
نظريا، إذا مررت بهذة المقابلة السريعة الأولى، فسيتم استدعاؤك لواحدة أخرى أطول، تنهد داخله؛ فلم يكن يريد حتى أن يتخيل كيف ستكون الإجابات على الجولة الأخرى من الأسئلة السخيفة.
سمع شانتي يقول بينما يقف وراء ظهره: هل أنت على عجلة من أمرك؟
قفز كارلوس، فمن كان يظن أن ينظر إلى الساعة في مقابلة عمل، استدار ورأى أن الرجل كان يحمل صينية مشروبات، لا يعتقد أنه قد فعلها مع المرشحين الآخرين. هل هذا يعني أنه ذهب إلى مستوى آخر؟ شعر بالارتباك والتيه؛ فلم تكن هناك طريقة لمعرفة ما إذا كان على الطريق الصحيح.
استفاق فجأة: لا، لست متعجلا.
تحثنا الإجابات النوذجية؛ إنه لا يجب عليك الإجابة على الأسئلة بنعم، أو لا، بل يجب، دائمًا، تقديم شرح موجز، بما في ذلك محاولة ربط الإجابة ببعض صفاته، قدراته أو مميزاته للوظيفة المعروضة، لكنه لم يستطع إيجاد طريقة للقيام بذلك، اختار ألا يقول شيئا، لأن أي شيء يمكن أن يفسر ضده .
بالإضافة إلى المشروبات، كان هناك طبق مقبلات.
تناولت صوفيا بيرة وشانتي مشروبا غازيا.
على الرغم من أن كارلوس رفض تناول شيئا في السابق إلا أنه قد قبل الآن كوبًا من الماء لمسايرتهم وحتى لا يضع حاجزا بينه وبينهم.
أخذ شانتي قطعة صغيرة من الجبن وقدم له الطبق بابتسامة. لم يكن كارلوس جائعًا ولم يرغب في ترك أي طعام بين أسنانه، لكنه لم يستطع رفض تلك اللفتة.
أخذ شريحة صغيرة من لحم الخنزير وقرب الطبق من صوفيا، التي هزت رأسها بالرفض ووسعت عينيها للتأكيد على رفضها.
– أنا نباتية، أنا متعصبة بخصوص العنف ضد الحيوانات، مشيرة إلى شانتي، قريباً، سأجعل زملائي لا يأكلون حتى الجبن.
فكر كارلوس: ماذا كان من المفترض أن يعلق بذلك الخصوص؟ ماذا إذا قبلت عرض مقابلتها ذات يوم، وقمت بدعوتها على مطعم لحوم! حيث كان طعامه المفضل هو لحم العجل المشوي. علق قائلاً: كل الأذواق محل احترام، على أمل أن يبدو الرد مهذبا بما فيه الكفاية.
قفزت صوفيا من فوق الكرسي بثبات: ليس كل الأذواق! الإساءة للحيوانات غير مبررة على الإطلاق فى الوقت الراهن، وفيما يتعلق بهذا لا يمكن أن يكون هناك احترام.
هز كارلوس كتفيه، محدثا نفسه؛ كيف نكون صادقين وعلى صواب في نفس الوقت!
– أنتم أقلية ضد مئات الملايين. بالنسبة لي، الاحترام هو أهم شيء للتعايش بين مختلف البشر.
قال شانتي، آنذاك: العالم يتغير. وفي شركتنا نقدر بشدة السلوكيات المتحضرة والتقدمية، ثم اردف موجها كلامه إلى كارلوس: فكر في شخص قريب منك، إذا سألته كيف تبدو، بماذا سيرد فى رايك؟
أخيرا، سؤال عادي! كان عليه أن يستغل الفرصة ويتحدث عن مميزاته. استعاد كارلوس اتزانه ورباطة جأشه فلم يكن بحاجة إلى التفكير في أي شخص قريب منه، فكان يعرف نفسه جيدًا.
– لدي القدرة على القيادة، لكني في ذات الوقت أعرف أهمية التباحث والتشاور، في الحقيقة أنا أفضل العمل ضمن فريق.
قاطعه شانتي قائلاً: أعني شيئًا شخصيًا بدرجة أكبر، شيء نضيفه إلى ما نعرفه بالفعل أو يمكننا أن نستشفه، مثل “تقليدي”، متدين، معتدل، طموح، حريص بخصوص المال، أو نهم.
أضافت صوفيا بابتسامة خبيثة: صادق ومخلص. تلمح إلى أن مغازلتها البسيطة ربما كانت مقصودة ومرتبة.
عبس كارلوس قليلا وهو يفكر لبضع لحظات.
– آه، حسنًا هذا.. كان يبدو له أن ما يردده ليس بصواب؛ فما كان يجب أن يستخدم كليشيهات كلامية.
كان يظهر عليه التوتر، تنحنح قائلا: أنا دقيق، مسؤول، منظم، مبدع…
رفع شانتي كفيه:
منظم ومبدع في نفس الوقت! الإبداع فوضوي!
حاول كارلوس أن يؤكد على صدق كل ما يصرح به، لكن للأسف كان يشعر أن كل ما يحاول التصريح به يتم الإطاحة به. شعر بموجة من الغضب تتصاعد داخله وكان عليه أن يبذل جهدًا كبيرا حتى لا ينفجر؛ يعتبر نفسه رجلًا هادئًا وواثقًا من نفسه، لكنه لم يتمكن من تجنب اللدغات اللغوية لهذين الزوجين من الوحوش. انتابه شعور بمهاجمته ولم يكن هناك طريقة للتعبير عن نقاط قوته بإيجاز وبشكل محدد وصادق، فقد أراد التحدث عن نفسه بإسهاب ليعرض نفسه بشكل أفضل، لكن يبدو أن صوفيا وشانتي ليس مستعدان للاستماع إليه، كأنهما غير مهتمين بما سيقوله، بل إنه بدا وكأنه استجواب حول شخصيته. فكل ما كان يأمله، هو التحدث عن نقاط قوته.
كان من المفترض أن يسأله مجري المقابلة عن سيرته الذاتية وخبرته، تحليل خصال محددة؛ مثل سلوكه، اتزانه، طموحه ونضجه. كان بحق رجلا ناضجا، فلما يشعر كأنه طفل يتصرف بوقاحة؟ أو الأسوأ من ذلك؛ لماذا يشعر بالذنب؟
قال منزعجا، متسللا إليه أنه على حافة الهزيمة: لا أعرف ما إذا كنت أفهم بالضبط ما تريدان أن تعرفاه عني، أو ماذا تريدان أن تسمعان؟
أصدرت صوفيا نبرة من السخط ، كما لو كانت منزعجة من الاضطرار إلى شرح ما هو واضح بالفعل، قائلة: نريد أن نعرف شخصيتك الحقيقية ؛ ليس ما تظهره، نريد أن نعرف ما هو الانتصار الحقيقي في الحياة؟ هل هو تحقيق أهدافنا أو السعي نحو مستقبل مهنى جيد؟ ماذا لو كانت أهدافنا خاطئة منذ البداية؟ هل أنت قادر على الاعتراف بأنك مخطئ؟
وأضاف شانتي: كيف يمكننا أن نعرف أنك قادر بشكل كافٍ على التكيف مع تحديات العصر الجديد؟ هذا هو بالضبط الملف الشخصي الذي نبحث عنه لفريق العمل لدينا. هذا السؤال سيخبرنا الكثير عنك أكثر من حصولك على الماجستير، إذا رددت بالايجاب عن هذا السؤال؛ هل تنام جيدًا؟ نظر مباشرة في عينيه: هل تنام جيدا ، كارلوس؟
– بصراخ: أنام بشكل ممتاز!
– هل تندم على أي شيء؟ هل سبق أن أردت تغيير مجرى حياتك؟ كيف تعرف على وجه اليقين أنك تعلمت الشيء الصحيح وليس ما يريد الآخرون زرعه في رأسك؟
فك كارلوس عقدة ربطة عنقه، تداعت في ذهنه كل النصائح النموذجية لأي مقابلة عمل؛ لا تكذب. كن صريح. كن نفسك. كن على طبيعتك.
يا لها من أكذوبة..
كان على وشك أن يتدارك شيئا، وهو أنه قد فشل في إظهار مهاراته الشخصية، فكانت كل الأسئلة تثير مشاعره بالقلق وعدم الارتياح، لقد اعتبر نفسه ذكيًا بما يكفي ليدرك أن الصراحة أصبحت قيمة مستحيلة أو خطيرة و لم يعد بالإمكان أن يكون هذا وقت الإجابات الصريحة.
أى نوع من الموظفين يبحثون! هل يبحثون عن شخص كفء أم شخص نموذجي كما يقول الكتاب؟
ما كان عليه إلا أن يفتح فمه ليقول ما يتوقعون سماعه، فقط، فمثلما قاموا بتحليله، كان يفعل الشيء ذاته. تسلل إليه حينها شك جديد.
ماذا لو كان على خطأ؟ في أي اتجاه يفترض أن تذهب إجاباته؟ أين يكمن اليقين أنه على صواب؟ ماذا لو كان هذا اختبارًا كبيرًا؟ هل كانا يقودانك في اتجاة ما آملين منه أن يتبعه أو يغيره؟ هل كان يجب عليه أن يكذب أو يكون صادقًا؟
انتابه إرهاق رهيب كما لو أنه شاخ لعقود في نصف ساعة فقط، حينها تذكر بحنين زمن الطفولة السهل البسيط، عندما كانت المحادثات عبارة عن جمل قصيرة مباشرة بدون لف ودوران، عندما كان المرء ببساطة إما أن يكون لطيفًا أو أحمقا، مجتهدا أو كسولا، فى المجمل دون الدخول في تفاصيل عديمة النفع، بغض النظر عن الدين وعادات الطعام والمستوى الاقتصادي والهوية الجنسية أو السياسية لأفراد عائلتك.
كان يبدو له جليا من أين كان يأتى وإلى أين كان يتجه؛ كان يعتبر نفسه سعيدًا بما يكفي ليتعايش ويستمتع بالأوقات السعيدة وتحمّل الأوقات الصعبة طوال الوقت، كان كل ما يتمنى، أن يعيش بسلام وألا يكون مصدر إزعاج لرفاقه الذين يشاركهم المكان و الزمان.
نظر إلى كليهما بالتناوب في عينيهم وانتفض قائلا: فلتذهبوا إلى الجحيم.
كان رد فعل صوفيا وشانتي الوحيد على فورة غضبه هو تبادل نظرات سريعة لبعضهما البعض.
تأهب كارلوس ليغادر.
قالت صوفيا، بنفس نبرة الصوت الجافة المستخدمة من البداية: شكرا لحضورك. سنتصل بك للتواصل إذا انتقلت إلى الجولة التالية من المقابلات.
وأضاف شانتي وهو يضع أطراف أصابعه فوق شريحة لحم على طبقها: شكراً لأنك لم تسأل عن الراتب، الإجازات أو الحوافز؛ فإن ذلك يقول الكثير عنك.
تفاجأ كارلوس بالهدوء الذي خاطباه به، مشى بصمت نحو الباب وهو يفكر، أبقى يده على المقبض لبضع ثوان، تجمعت أمامه كل التعليمات والنصائح حول كيفية النجاح في مقابلة عمل والتى تركز على الكلمات الأخيرة التي يلقيها المتقدم.
وعلى الرغم من أن كل ما أراد، فقط، في تلك اللحظة، هو الابتعاد عن هناك ونسيان تلك التجربة برمتها، ولكن على كل حال تشبث بالتعليمات لآخر نفس، قال:
“أشكركم على وقتكم”.