محمد جعفر
ثلاث حيوات أم حياة واحدة؟ أيضا كيف منحت الكاتبة الفرصة للذات المتشظية لأن تلتئم؟ ثم من تشبه نورا أكثر في هذه الحكاية؟
أظنها الأسئلة الجوهرية التي فزت بها من خلال قراءتي لرواية نورا ناجي بيت الجاز الصادرة عن دار الشروق المصرية، وإذ أعاود استعراضها هنا من جديد، فلرغبة مني في تفكيك ولو على السريع شيفرات هذا العمل الملهم، وإعادة إنتاج ما قاله مرة بصوت عال ومرات بشكل موارب.
يقدم العمل سيرة ثلاث بطلات هن مرمر (الحقيقة) ويمنى (الرواية) ورضوى (الكاتبة)، تناوبن على سرد حكاتهن عبر راوي عليم، وإن تشكلت طينة كل بطلة في بيئة مختلفة إلا أن المعاناة ظلت سمة الجميع، فكلهن يخشين العار، ولديهن ما يحاولن التستر عليه وإخفاءه، ما دمن يعشن في عالم لا يزال يحتكم إلى العرف والتقاليد وقوانين مجحفة لا تريد أن تتغير أو تبلى.
ثلاث حيوات أم حياة واحدة؟
لا ندري هنا إذا ما كانت نورا تسعى إلى ترميم ذاتها من خلال فعل الكتابة باعتبار أن الممارسة علاج أيضا. ويظل هذا غير مستبعد، ثم ما دور الكتابة إذا لم يكن التطهير جزءا منها. أيضا لعل ما يهم القارئ أساسا هو هذه النتيجة التي تمخضت عن هذه الممارسة، وهذه التوليفة المتقنة، والتي جعلتنا نستمتع كقراء.
وإذا كانت الرواية تعكس عالما تشظت فيه الذات، فإن ما حصل في الغرف الخلفية من الوعي وبشكل موارب هو محاولة إعادة تجميع هذه الحيوات في بوتقة واحدة وإعادة ترميم جادة تبدت من خلال تجاوز الصيغة التي دأبت على تبنيها الرواية النسوية. والظاهر أن نورا تنظر إلى الكتابة كالتزام أخلاقي، كما لم يكن هذا لينجح من دون معرفة بالصنعة، ومن دون إبداع أصيل ينفذ إلى قلوب المتلقين باختلاف مشاربهم، فيحدث الأثر المطلوب. وإن تسليط الضوء على قصص خلفية تعتبر من الطابوهات في المجتمعات المنغلقة على نفسها (الإجهاض والممارسات المجتمعية العنيفة) فيه من الشجاعة الشيء الكثير، ويكفي أن نورا حاولت فتح شق ولو صغير في جدار يظل يحجب عنا الكثير من الأسرار والفظائع.
إنها بذلك تكون قد أسلمتنا أول الخيط، وخطت الخطوة الأولى الضرورية لأجل المواجهة، والتي لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال فعل التعرية. وإن عود الكبريت الذي أشعلت به الطفلة نفسها، هو نفسه العود الذي يمارس الإنارة في هذه الرواية. ولعل نورا لم تحاول الوقوف عند هذه الجزئية، فلغة الرواية تجاوزت شعرية التباكي والشعور بالمظلومية إلى لغة فيها الكثير من التعرية والتحريض.
كيف منحت الكاتبة الفرصة للذات المتشظية لأن تلتئم؟
إذا ما كانت الذات المتشظية تنشد الالتئام والامتلاء، فإنه لن يتأتى لها ذلك إلا من خلال رد الاعتبار، ومن هنا يجب أن ندرك أن المعركة التي أعلن عن شرارتها بيت الجاز لا يمكنها أن تُحسم لمجرد رفع الصوت عاليا، فهي مرتبطة بأكثر من شجاعة تبديها الكاتبة، ومنوط برأيي تجاوب الآخر الذي كُتب هذا النص لأجله، ما يشكل جبهة للتصدي، جبهة ليس شرطا أن تكون من النساء المقموعات، ما دام أن التحيز للإنسانية هو مهمة الجميع.
وإذا كانت الرواية تجسد صوت المرأة مرفوعا عاليا، فإننا لا بد أن نتساءل أمام أي سلطة؟ هنا يجب أن نعي أن نورا لا تُوجِّه أصابع الاتهام إلى السلطة الذكورية المهيمنة في المجتمع كما قد تفعل كثيرات حين يعلو صوتهن خلال المواجهة (ذكر- أنثى)، لإدراكها بأن هذه السلطة نفسها تقع تحت نير سلطة أكبر تظل تطحن المواطنين جميعا، فلا تفرق بين أحد منهم، ومن هنا أيضا يظهر حرصها على منح زيزو وهو البطل الذي اغتصب مرمر هامشا ولو ضئيلا من الحكاية، وإن لم تسع بالمطلق إلى التبرير له، لأن ما كان يشغلها أساسا هو أن تحرص على كل صوت مقموع من الهامش في بلد لم يجد بعد ضالته عقب ثورة 25 يناير.
من البطلة التي تشبه نورا أكثر في هذه الحكاية؟
إنها ليست تجربة خاصة أبدا، فوعي الكاتبة بالعملية الإبداعية (مقوماتها وأهدافها) لن يسمح لها باختصار التجربة في الجزء الذاتي باعتباره المنطلق والمنتهى، ولتؤكد نورا هذا المنحى اعتمدت خطا يتخذ من ثلاثة نماذج نسائية متباينة (ظاهرا) لتفصح عن حكايتها (حكاية كل النساء في عالمنا العربي)، مع ذلك فقد يعتقد كثيرون أن نورا قد تمثلت كثيرا من تجربتها الشخصية في البطلة الكاتبة رضوى (والذي هو نفسه اسم مستعار في اعتراف مضمن في النص، هذا من دون أن ترغب نورا الروائية في إزالة هذا اللبس، وأتصور أن هذه الصيغة وحدها فحسب التي يمكن أن ترضيها، كما أنه وبناء عليها سيسمح لها ذلك بالأخذ والرد حين نسعى نحن كقراء إلى التأويل أو المحاكمة)، فهي كاتبة بدورها، وتقيم مثلها في طنطا، ومثلها ستكون رحلتها شاقة في عالم الكتابة (كاتبة تفد على عالم القاهرة من الهامش)، واعتقد أن ذلك وبرأي نورا كان ضروريا لسبب وحيد وهو رفد العمل بالصدق المطلوب، فتجربتها الحياتية أيضا تستحق، فإذا كانت تملك ما هو جاهز فلماذا عليها استعارة حياة أخرى؟ كذلك أرى الطبيبة يمنى المتعلمة قد جسدت صوت الأفكار الأكثر تطرفا في الرواية، إنها صوت العقل المحض، وأما وجوب حضوره فكان ليعكس الاندفاع البشري عبر تلك المصوغات التي يمكن للمرء أن يمنحها لنفسه (فهي ضحية ماضيها أيضا، وإن بدا أنها تملك زمامها أيضا، ما يوحي بالحرية والقدرة على الانطلاق)، في حين جسدت الطفلة مرمر الروح المشفوعة بالطهارة والنقاء، ما دامت لم تختبر الحياة بعد، وفي سنها لا يمكننا تحميلها وزر ما حصل، كما لا يمكننا اتهامها بشيء، لتكون الضحية في كل الأحوال. وجلي أنه أبدا لم يكن لينضبط شكل هذه الرواية من دون هذه المتوازيات الثلاثة التي اختيرت عن وعي من طرف الكاتبة، كذلك فإن هذه النتيجة أو التوليفة البديعة هي نتاج شجاعة كبيرة، شجاعة كانت قد أبدت جزءا هاما منها في نصوص سابقة، والكل يعلم ما توجب على نورا دفعه حينها كضريبة.