عبد الرحمن أقريش
منذ عقود من الزمن يربض حي (النوايل) الهامشي هناك مثل ورم سرطاني خبيث، الشباب والطلبة يسمونه (الحي الصيني) في إشارة إلى كثافته السكانية، يكبر الحي، ينتفخ، يتوسع، يحبل من الخلف، من الأمام، من الجوانب، تتناسل دوره في خصوبة منقطعة النظير.
في الأصيل يتزوج الشباب، وفي المساء تقتطع العائلات بضع خطوات من البراكات القصديرية، شيء يشبه الغرفة أو يصلح أن يكون غرفة، ومع الخيوط الأولى للفجر تظهر تفاصيل جديدة، طوابق على شكل علب، أبواب جديدة، غرف ونوافذ…
يمضي الزمن، يسرع أحيانا، يتباطأ أحيانا أخرى، سنوات، شهور، أسابيع، وفي كل يوم يخرج من الأبواب القصديرية أطفال ومواليد جدد يتكاثرون مثل الذباب، أطفال نصف عراة، عري يشمل عادة النصف السفلي من أجسادهم، يملأون الحي زعيقا وصراخا، يختنق الحي، وتضيق بهم أزقته باستمرار.
باستثناء بضعة أعمدة للكهرباء تتدلى منها مصابيح معطوبة، وسقاية واحدة، لا يعرف سكان الحي شيئا عن مرافق الخدمة العمومية، لا مستشفى، لا صيدلية، لا إسعاف، ولا مدرسة.
وحدها حافلات (الراطاك) المتهالكة تصطف هناك عند مدخل الحي.
وفي كل مساء، تهب ريح خفيفة من جهة البحر، تحمل معها دخان معامل الكيماويات، (ماروك شيمي) و(ماروك فوسفور)، ينتشر ذلك الدخان، يتمدد، يسافر، يختنق الحي، ثم تدريجيا يزحف على المدينة، تختفي وتغرق في سحابة من الفوسفور الأزرق.
…
منذ أيام لا حديث في المدينة إلا عن المطر، والطقس وأحوال الجو التي تغيرت فجأة.
ينزل المطر مدرارا، يضرب الأرض والجدران بقوة، يخفت قليلا، تنفخ فيه الريح، ثم يعود فيضرب بقوة أكبر.
في الحقيقة يبدو الأمر غريبا ومستعصيا، يبدو وكأن السماء تنتقم مرتين، تنتقم من سنوات القحط والجفاف التي حولت الأرض إلى رماد ورمضاء قاحلة، ثم هذا المطر العنيف الذي ينزل فجأة، ويتحول تدريجيا إلى سيول طينية تجرف كل شيء.
…
في المدينة تختلف نظرة الناس للمطر، بعضهم يبدو لا مباليا، لا يهتم وكأن الأمر لا يعنيه، بعضهم يبدو سعيدا، البعض يبدو سعيدا جدا، والبعض الآخر يبدو متذمرا وغاضبا.
في كل مرة ينزل المطر، يشعر الشيوخ بالرضى والهدوء والامتنان، المطر بالنسبة لهم دليل على أن أبواب السماء مفتوحة ولا تنغلق أبدا، فالله رحيم، رحمان، وعطفه أوسع وأكبر من خطايا البشر.
– الحمد لله، الله يرحمنا، أخيرا نزل الغيث…
– الله لن يتخلى أبدا عن عباده الضعفاء الفقراء إلى رحمته…
– إن الله لا ينظر إلينا نحن العصاة، عينه على الصبيان والبهائم والأغراس والطيور التي تغدو وتروح…
…
أما الأطفال، فعلاقتهم بالمطر هي أمر مختلف تماما.
في الطريق إلى المدرسة يغسل المطر أرواحهم الصغيرة، تشرق وجوهم فجأة وتغمرهم سعادة عارمة، المطر بالنسبة لهم فرصة للعب والاستمتاع والتوحد مع الطبيعة، يحملون ممطرات ملونة ولكنهم لا يفتحونها، تخترق خيوط الماء ملابسهم، تغسل وجوههم، أجسادهم، ينتعشون، تنتعش أرواحهم، يرفعون أعينهم إلى السماء، ثم يمشون بخطوات مصممة وسط البركات والبحيرات الصغيرة التي يرسمها المطر في الطريق وعلى جنبات الأرصفة، يلعبون، يمرحون، يجرون، يقفزون، يتصايحون، ولكنهم يستمتعون أكثر بصوت الماء وهو ينضغط داخل أحذيتهم المطاطية، يدغدغ أقدامهم…
– اسمع، اسمعوا كم هو جميل وعجيب هذا الصوت، بججج، فججج، غججج…
…
عندما لاحت الخيوط الأولى للصباح، كانت النساء ينتزعن من الأوحال بعض ما يمكن إصلاحه واستعماله، ينشرن في الشمس أشياء أفلتت بصعوبة من ليلة قاسية وجارفة، قمصان، جوارب، أحذية، أغطية وبقايا فراش متهالك.
في مدخل الحي الصفيحي، تصطف سيارات (الجيم) و(الإم روج)، ينزل منها موظفون مدنيون وعسكريون، ينظرون جهة الحي المنكوب، ينظرون إلى الخسائر وحجم الدمار الذي خلفته السيول وراءها، بعضهم يبدو متعاطفا، وآخرون ينظرون بدون مشاعر، وجوههم قاسية، عيونهم جامدة، محايدة لا تقول شيئا، فيبدو الأمر وكأن ما حدث لا يعنيهم.
غير بعيد، يمينا ويسارا، ينتشر مراسلون لصحف ومواقع إخبارية يقتاتون على تفاصيل الكوارث والمآسي وأخبار الفضائح، يجرون في كل الاتجاهات، يستوقفون الناس، يسألونهم ويلتقطون الصور.
…
في الطريق إلى الحي الصناعي، يدفع (باعلال) دراجته المتهالكة، يدفعها بصعوبة، يقاوم ويحاول ألا يسقط.
يبدو متعبا، هادئا ومستسلما، في الحقيقة هو يحاول أن يكون هادئا، يضغط على نفسه ليخفي حجم الغضب الذي يمور بداخله، ففي الليلة السابقة غمرت المياه الطينية براكته القصديرية، أفسدت آنية الطحين وبعض الأثاث القليل الذي يملكه، أفسدت الفراش وملابس الأطفال، أفسدت كل شيء، أفسدت بالخصوص كتبهم المدرسية.
كانت ليلة قاسية.
…
ثم تهب الريح، ويعود المطر مرة أخرى.
اختنقت البالوعات، تجشأت، ثم لفظت ما بجوفها من أتربة وقاذورات، وراحت السيول تجري في اتجاه البحر وتجرف كل شيء.
في المنعطف المؤدي إلى المعمل، وأمام إشارة الضوء الأحمر، توقف (باعلال) يفكر ويمضغ هواجسه، ينتظر، ينظر إلى الضوء وإلى الأرقام تتوالى هبوطا، بجانبه توقفت سيارة فارهة، ثم ينتبه، يعود إلى نفسه، يلقي نظرة على زجاجها الضبابي المعتم، ينزل الزجاج، ينفتح، يطل من النافدة رجل ضخم، يمسك بين شفتيه سيجارة بغلاف مذهب، ينظر إليه بعيون منتفخة، عيون أتعبها إدمان الخمرة والسهر ودخان السجائر.
يبتسم الرجل، يمتص الدخان، يمسكه للحظة، ثم يرسله في حركة سينمائية.
ويخاطبه.
– الخيرات هاذي !!(هذا خير كثير!!)
ينظر إليه (باعلال) يتأمله، ترتسم على وجهه الخطوط الأولى لتعبير قاس يمتزج فيه الاحتقار بالغضب.
يرسم لحظة صمت.
ثم يجيبه.
– الخراء هذا!!