رضا محروس
مازالت الرواية هي القاطرة التي تستطيع أن تجر وراءها كل أنواع الفنون الأخرى من شعر وموسيقى ورسم وسينما، وتصهرها كلها في بوتقة واحدة لتخرج لنا شكلاً إبداعياً كان ومايزال قادراً على جذب القارئ إليه ليجد في براحاته وآفاقه كل ما تهفو إليه نفسه من متع القراءة والحكي. وتستحق الرواية بما تملك من أدوات شتى – والتي لها القدرة على إحداث فعل المتعة – أن تكون ديوان العرب بعدما تراجع الشعر – بفعل فاعل- عن هذا الدور عندما وجد نفسه غارقاً في دوائر التغريب والتجريب والحداثة… وإذا كان المسرح أبو الفنون فإن الرواية بلا أدنى شك تعتبر – من وجهة نظري – هي الحقل الخصب الذي من الممكن أن يحوي كل الفنون…إن الرواية على أية حال ليست كالقصة القصيرة.. ليست شخصية أو مشهداً أو حتى حالة مفردة، بل هي بناء محكم لابد أن يتوافر فيه عدة عناصر أساسية حتى تؤتي أكلها لتحقق التأثير والصدى الإيجابي لدى المتلقي.. إنه عمل شاق ومضن، والولوج إليه لابد أن يكون بمحاذير وعن تجربة وخبرة ودراية وحرفية عالية.
أقول هذا، بعد أن انتهيت منذ قليل من قراءة رواية “تعاريج ” للفنان حسين نوح، والصادرة عن دار الشروق 2015، قرأتها هكذا في جلسة واحدة.. دلفت إلى الرواية ولم أستطع ان أبرحها إلا مع كلمات النهاية الثلاث “حادثة.. حادثة.. حادثة”.. وما أصعب أن تنتهي هذه المتعة الخالصة والرحلة الطويلة بحادثة..!!.
حسين نوح – والذي أعرفه عن قرب- تلك الشخصية البسيطة والتلقائية والمفعمة بالوطنية وحب هذا البلد.. وجدته أمامي بين سطور روايته يشدني من يدي أو يشير إلي أحيانا من بعيد كي يطوّف بي بعيدا في عوالم متباينة وساحرة، بين عالم المدينة الصغيرة ثم إلى عالم القرية ثم ينتهي بنا المطاف إلى القاهرة العامرة، ليرصد لنا فترة زمنية غاية في الخصوصية والأهمية.. تقلب فيها المجتمع المصري بين تعاريج ومنحنيات ومطبات اجتماعية وسياسية غاية في الخطورة والحساسية والتي أعقبت نكسة 67 وانتهت بنا إلى مشارف يناير 2011 وذلك من خلال أسرة الست “عزيزة” وفي القلب منها “ماهر” بطل هذه الرحلة والذي هو “الظل الحقيقي لحسين نوح” وهو محور معظم الأحداث ومحركها الأول.
يرصد حسين نوح تلك التغيرات الكبيرة في كل مناحي الحياة المصرية من خلال هذه الأسرة: الأب صابر والأم عزيزة ثم الابن الأكبر أحمد والبنت الكبرى كريمة وأختيها وفاء وصفاء ثم ينتهي بالبطل ماهر… يموت الأب مبكرا فتتصدر الأم المشهد لتقود سفينة هذه الأسرة وتنأى بها بعيدا عن كل العواصف والأنواء، يرصد نوح هنا تفاصيل كثيرة ويغوص في فسيفساء حياة الأسرة المصرية المتوسطة الحال وتدور كاميرته ببراعة وهو يصور لنا “يوم المحشي” وتربية الطيور و”أم ميمي” المسيحية صديقة الأسرة والتي ستكون سببا في زواج الابنة الكبرى كريمة..
هنا يلتقط أدق التفاصيل عندما تنتهي الأم وبناتها من لف المحشي في الحلل ليأتي “ميمي” الطفل ذو الأعوام الأربعة يقف ثم “يطرطر” على الحلل ويتناثر بوله بين رصة المحشي. تعالج الأم “عزيزة” الموقف بمنتهى الحكمة والعقل حتى لا تغضب جارتها وصديقتها المسيحية وتكتفي بكلمة “لعله خير” ويكون المحشي من نصيب الدجاج والطيور.
ثم يعرج بنا نوح إلى القرية ويرصد لنا تفاصيلها الثرية من خلال لوحات غاية في الإتقان والحرفية.. هي تابلوهات نابضة بالحياة والحب والسعادة والحزن والبكاء أحيانا من خلال بيت العمة وأبنائها و”بديعة” دلالة القرية وزوجها عبد الدايم “الجساس” ولمة “الجوزة” في بيتها والحكايات والسمر من خلال لغة أهل القرية الحقيقيين ولا أعني اللكنة الريفية التي نعرفها كلنا عن أهل القرية، ولكن هناك لغة استطاع نوح أن ينحتها ويصبها في قوالب صوتية حية ونابضة بالحياة والحركة فعندما يقول: تعالي أطنبرلك… فلان عنده بقرة عاوزة تعشر… جاموسة شرقاوي شايلة… عندهم فتح مية عند الفجر… لا يمكن أن يأتي حسين نوح بهذه اللغة إلا إذا كان قد عاينها ولم بكل تفاصيلها وقدمها لنا في لوحات صوتية رائعة… كان نوح عليما بكل تفاصيل حياة أهل القرية البسيطة ولم تأت الحوارات على ألسنة الشخصيات جزافا أو بشكل عشوائي، بل عن خبرة وتجربة سابقة حين يقول: ” لنساء يدلقن الماء الممزوج بالصابون أمام الباب”.. هو هنا يعلن عن لقاء جنسي مباح وحلال تعلن عنه القرويات بفخر وتباه أمام جيرانهن.. وعندما يقول: “ارتوت أيادي الفئوس والمناجل بعرق السواعد” ما أروع هذه الصورة وأشدها تأثيرا عليّ… إن حسين نوح لابد أن يكون قد جرّب كيف يمسك بالفأس والمنجل وعاين وأحس بالعرق وهو يتسرب من يديه إليهما… ثم عندما يريد أن يرصد فعل الجنس الحران نراه يثبت كاميرته على الجميزة ليصور لنا مشهد شواشي الذرة وهي تتحرك بفعل اللقاء الحميم، هو أيضا لا يخجل حين يزرع كاميرته في الزريبة ليرصد لنا العلاقة الحرام بين أحدهم والحمارة والتي رفسته بين فخذيه ليلقى مصرعه في الحال.. ما أقسى هذا وما أروعه في ذات الوقت. نحن هنا أمام فنان يشكل لغته التصويرية من مفردات حقيقية فتعطي العمل الأدبي صدقاً فنياً وحياة نابضة في كل كلمة أو سطر.
لم يستطع حسين نوح أن ينفك أو يتخلص من تأثير تقنيات السينما وأدواتها عليه… فالرواية لديه عبارة عن Shoots “شوتات” هو يعدل كاميرته ويلتقط من الزاوية التي يراها مناسبة، كل فصول الرواية تصلح أن تكون حالة خاصة أو قصة منفصلة عن سابقتها رغم أنه يربطها جميعا بخيط واحد لا ينفلت من بين يديه ، لذلك جاءت معظم عناوين الشوتات بأسماء أصحابها مثل : ” ماهر…أم ميمي…بديعة… أبو قليطة…كريمة…المربوط…عبد الحي…وائل نعيم…نعمة”.
إن هناك الكثير من التركيبات اللغوية الجديدة والتي تشي عن امتلاكه أدوات “عجن وطبخ” اللغة وتشكيلها بكل سهولة ويسر، ولكنه آثر اللغة المباشرة والبسيطة والتي تناسب جداً طبيعة والمستوى الفكري والاجتماعي للشخصيات التي تناولها.
الحوار عند حسين نوح ثري وممتد ويملك الكثير من صفات لغة المسرح، لذلك اندهشت عندما علمت أن حسينا لم يكتب مسرحا من قبل..
تستمر رحلتنا مع نوح وهو يطوف بنا في كل “المزلقانات” والتحولات التي عصفت بمصر منذ النكسة مروراً بنصر أكتوبر والفترة التي تلته منذ عصر الانفتاح الاقتصادي والتحولات الحادة التي نتجت عنه وأثرت على المجتمع المصري بشكل سلبي وسيء حتى يهدأ بنا قليلا ونحن على مشارف يناير 2011… لقد رصد من خلال ماهر (حسين نوح) صاحب استوديو التسجيلات مدى تدنى وانحدار وانهيار القيم والذوق من خلال هذا الطوفان من الركاكة والتدني والتسطيح في عالم الغناء والموسيقى… هو نوع من المسخ والتخنث أصاب المجتمع المصري واستدرجه ليستيقظ ذات صباح على حادثة… حادثة… حادثة… والتي يختم بها رحلته ليبرهن لنا أن كل ما سبق لابد أن يجرجرنا إلى انفجار حتمي ولابد أن يفضي بنا إلى أحضان حادثة.
حسين نوح قدم لنا رؤيته وشهادته على تلك الفترة من خلال كاميرته وفرشاته التي نصبها في كل أركان المجتمع المصري بحاراته وشوارعه قراه ومدنه ليقدم لنا لوحات من التحولات والتعاريج التي مازلنا نعاينها ونتلظى بنيرانها حتى الآن.