المشاء العظيم لأحمد الفخراني: الهوية تحت رحم المقايضة 

ahmed al fakharany
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحمن إبراهيم 

(١)

تولد الرواية من رحم فرضيات مأهولة، ومدفوعة بخصوصية ذاتية لكاتبها، غير أنها ما تزال تتحقق من تلك النكبة التي يفر منها المرء هاربًا خلف ما تحاكيه الكلمات دون وعي بقصة شخص آخر، لذلك تمثل المحاكاة لأي نص جوهر الأصالة في تفكيك أي كتلة هجينية أو وعي لم تسعفه الأدوات في إدراكها، ولكن هل تتحقق ذات الكتابة صوتًا أصيلًا لكاتبها تحت وطأة تأثره بأسلافه؟ وهل يتعثر نص الكاتب في محاكاة أسلافه بغية البحث عن نفسه داخل ذواتهم التي أصبحت وعيه المبهم خلف أناه؟

ففي رواية المشاء العظيم للكاتب أحمد الفخراني ـ دار الشروق ٢٠٢٣ ـ لا تكمن الرؤية الأكثر وضوحًا حول تعريف الأصالة إلا عبر مقاربه الزيف متكئًا على محورين من الأفكار، الفكرة الأولى وهي تمثيل صورته مجردة على أعتاب نسيانها في نص المؤلف، والصورة الثانية هي مداراتها بخفةٍ أمام أعين القارئ، الذي ليس باستطاعته إلا أن يقف مصفقًا أمام الحيلة الفنية الأكثر تشدقًا لاستئصال المعنى أمنًا وهم الإدراك.

فمنذ البداية، تضعنا المقدمة أمام نصين يكشف عنهما الكاتب صراحةٍ، وأن “المشاء العظيم” ليست سوى مسودة أولية ممهدة داخل نصين متفرقين، الأول وهو “همس الجنون” والثاني وهو “المسخ” قد نسبه محمد الأعور إلي أستاذه فرج الكفراوي، وأما الثاني فقد نسب إلى تقنية الذكاء الاصطناعي، لا تستطيع أمام مراوغة مقدمة المحقق على إدراك حقيقة اللعبة في أنها مجرد رواية؟ أم اعترافات كاتبها؟ أم أننا أمام ثلاثة نصوص داخل حلقة من المراوغات، اثنان منها متحققان في وسيط بين الخفة والدهشة، متمثلان في كاتبين مكشوفين منذ الوهلة الأولى، وآخر لا تستطيع أن تكشف عن هويته من ظل الخيوط التي أطلقها الكاتب في مسرح عرائسه وهو أحمد الفخراني!

ففي النهاية تبقى الخفة هي حيلة الكاتب الأزلية في الاختباء، ليس فقط في الإتيان بها في صرح مكشوف تقف فيه بثقة كبيرة لتضع أرنبًا خارج القبعة، ولكن الأكثر إثارة للدهشة هي الطريقة التي وضع بها داخلها من الأساس. 

فكيف يقدم أي كاتب مقترحه الجمالي دون أن يكشف عن نفسه في وسيط المحكي؟ وكيف يمكن أن تكون الإشارة إلى الذات باعتراف مسبق هو في الآن نفسه دليل على نفيها؟ وهل فن الحكي في الأساس هو طوق نجاة لمن يريد التعري دون وصمة عار بالفضيحة؟ وهل هذه الحيلة هي طريقة الأعور في التخلص من خطيئته الأبدية؟ أم مجرد مقترح جمالي لفن الحكي؟

(٢)

فكل تلك الأسئلة تنهض على هامش حكايةٍ تبدأ بأناة مقحمة للبطل منذ البداية، كأن الخصوصية محققة بشرط اعتراف مسبق بها دون خفيةٍ أو مواراه، لكنه سرعان ما يتجرد منها عاريًا أمام مرويته التي شاء الفخراني أن يكشف عنها صراحة، ليوهم المتلقي أنه أمام حوارية مباشرة، أو سردية تفتقد للصمت أكثر من إنفاق أفكارها في وسيط من الثرثرة، ليضعك أمام لعبة أكثر خِفةٍ من الأولى، وهي محاكاة تكوينية لأصالة مفقودة ومصحوبة باعتراف صارخ بنفيها!

ما الحيلة إذن؟ كاتب طموح أدرك طريق الأدب عبر طرق ملتوية وأساليب خادعة، جعلت منه كاتبًا ناجحًا باعتراف مبيعاته، لكنه يفر هاربًا من شبح أستاذه “فرج الكفراوي” الذي يطارده طلبًا في تسديد دين قديم قد أبرم عليه اتفاقًا مسبق، بعد أن سرق منه ست روايات منسية منحته في سياقه شهرة واسعة، وفي المقابل سيمنحه هو رواية سابعة تجسد حياته. 

هنا تنهض الفرضية الروائية على هامش سؤال واحد “ماذا لو كان كل شخص يحتكم على رواية واحدة فقط تقبع بين دفتيها حياته؟” التي كان شاهدًا عليها منذ البداية؛ كمحض نص يفتقد إلى التدوين. لذلك بقي هذا الخطأ الذي يغفل عنه الأعور هو ما حال بينه وبين أن يكون كاتبًا أصيلًا، وأن الكفراوي منذ البداية كان يرى الأعور كمشروع رواية أكثر منه تلميذًا مخلصًا، اوهمه ببراعة شديدة بوجود سر لصنعته وأن الكتابة المتقنة ليست إلا سرقة ثمينة يتقاتل عليها كبار الكتاب كالصوص محترفين محاولين اقتناصها. 

إذن، الثمن الذي سيدفعه الأعور هنا ليس إلا حياته، سيبقى الأعور هنا بدون هوية لا يستطيع استعادتها أبدًا كلعنة أبدية جراء خطيئته، سيعش على أعتابها بدون معنى، مجرد صخرة سيزيف الأبدية التي يحملها مرغمًا، تلك المفارقة الفادحة التي يطرحها الفخراني هنا ليست من المذنب رغم تورط الكفراوي فيها، ولكن من سيحمل الخطيئة للأبد.

(٣)

يمثل محمد الأعور بطل الحكاية مسألة محض جدلية في عملية الكتابة، وهي هاجس الكاتب في لحظة ما حين يدرك أن كل النصوص السابقة التي أنجزها لم تكن إلا محض مسودات، وأن نموذج الكتابة الحقيقة الأكثر اكتمالًا لا يكمن في الكتابة عن قصص الآخرين باعتبارهم نصوصًا، ولا باعتبار الكاتب ذاته مجرد أداة أو ترس في عملية الكتابة، ولكن باعتبار الكاتب ذاته نصًا غير مكتمل، يضيف مع كل رواية يكتبها ومع كل قصة يقتنصها من شخصًا آخر شيئًا إلى سيرته المبتورة. 

هنا الكتابة سرقة معلنة، لم يتفق الطرفان فيها على أنها فضيحة، كأن كل الروايات التي كتبها الكفراوي ليست إلا مسوداته المبتذلة، مقايضًا طموحه في قصة الأعور الواهم أمام نص يساق خلاله في مخيله الكفراوي، فالأعور هنا تحول إلي مسودة سرقها الكفراوي بخفة يد لص متمرسة في عالم الأفكار، وقد سلمه الأعور حياته مرغمًا تحت رحم المقايضة. 

إذن أين تكمن الأصالة في انتحال كتابة من سبقوا من الكتاب إلا إذا كانت الفكرة ذاتها هي السؤال، تلك المقاربة التي قدمها الفخراني منذ البداية لم تكن سوى مراوغة مدهشة لطرحه المعقد، ماذا سيفعل الكتاب إذا اصابتهم لوثة من الخواء، وبقيت أجزاؤهم المتلاشية في نصوص أشخاص آخرين هي هويتهم، ماذا لو كتبت كل رواية عبر انتحال شخصية من سبقتها؟ وماذا لو بقيت الكتابة مجرد وعاء خاوٍ رغم وجود الكلمات؟ هل الكتابة الأصيلة هي محاولة للفرار من فخ التأثر بالأسلاف ؟ أم محاول اكتشاف ما تغاضوا عنه عمدًا أو بدون عمد ؟ 

 

 

 

مقالات من نفس القسم