المسحوق والأرض الصلبة

المسحوق والأرض الصلبة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

إبراهيم عادل

( أي تشابه بين شخصيات العمل، وبين الواقع، هو تشابه غير مقصود، لأن الشخصيات هنا خيالية بحتة، لا تمت إلى عالم الواقع بأي صلة، إلا الأسـماء، والأفعال ..أيضًا !!)

أنــا ليس لي علم الحواة ..كي أخرج الجبل العظيم ..من الحصاة . .

 

آ آ آ هـ ..

 هذه ليست كلماتي، إنها كلمات (أحمد مطر)، كلكم تعرفون هذا!، تبًا لقانون التداعي، وسيطرة الذاكـرة، ..  مـاذا أكتب ؟ …

لن أتركها فارغة:

عندما تكون الصفحة بيضاء ..كاللبن الحليب، فإن ذلك يستثيرني، ويثير فضولي، كي أقتحم بياضها، وأحيله إلى سواد (هامش:ليس كل من سود الصفحات مؤلفًا)*وكـأنني أحيل النهار، إلى .. إلى مـاذا ؟؟ ..

 

.. إلى ليل؟!!

تمهل قليلاً ..سيأتيك نص ..

ـ (تمهل قليلاً سيأتيك نص)  (فعولن فعولن فعولن فعو)..

صوت من خـارج الورقة :  لـســت شـاعرًا يا هذا !!

ـ ومن قال لك أني شـاعر ..

ـ يبدو أنك تحـاول أن ..

ـ لا ..لا ..يا عزيزي .. اطمئن، ولا أحاول ..

 

 ذات مرة اطلع أحدهم على كتابتي، وقال لي ( وهو لم يقرأها أصلا).. أنت تحتاج لمن يسمع صوتك ..ولكنني “كـاتب”، وأوقن بأن كل من أمسك بالورقة، وسيطر على القلم بين يديه، فهو “كاتب”، فمرحبًا بالكاتبين، والكتبة  ..والكُتَّاب .

……………..

حـســنًا ..فلنجعلها بداية ..(أو البداية)

 

قديمًا كـانوا يقولون :”تكلم لأراك ..”، اليوم يقولون:” أكتب لأسمعك”!ومع تعارض فعل القراءة مع السماع، وفعل السماع –قديمًا- مع الرؤية ..فإن هذه الأشياء تـقــال !!

النصيحة الأولى ..لأي كـاتب:اخـتيـار العنوان

 

بسم الله الرحمن الرحيم، يمثلُ اختيارُ العنوان النقطةَ الأولى في أي نصٍ إبداعي، إذ أن العنوان هو مفتاح النص، ولا يمكنك ولوج النص بدون مفتاح !! (خذ مفتاحك معك ..وأرح الكاتب)..!

ولتعلم جيدًا – عزيزي الكاتب- أن الناقد الحاذق يبالغ في التعاقل فيتساءل، وقد ارتفع مستوى عينه عن نظـارته، ما معنى تلك الجملة

 (مشيرًا إلى العنوان)؟؟ ..ولـمـاذا قلت هذا ؟..وهو –الناقد- قد يبرع في التذاكي، فيقول، وقد ارتفع حاجباه: عندما تأملت، وفكرت في العنوان الذي استخدمه الكاتب، وجدته مناسبًا للغاية ..! وهو في كلا الحالتين ينسى أو يتناسى قاعدة هـامة في النقد الأدبي (المسموع منه، والمقروء)تقول:إن الكاتب دائمـًا على حـق ….

أما أنا فقد استغنيت عن خوض غمار التجربة أصلاً، وأشكر من ألهمني ذلك العنوان ..لهذا النـص([1]) ..(المسحوق، والأرض الصلبة).. يجب أن تتسع عقولنا، وأفكارنا، ورؤانـا، ولن يتأتى ذلك إلا من نـصٍ ..مُشكِل !!ياله من عنوان!!، أرجوكم دعوه جـانبًا- الآن على الأقل-

(قبل اتهامي بالجنون، فلتمنحوني لحـظـةً لو تسمحون)

 

 .. وهذه أيضًا ليست كلماتي، إنها لإيمان بكري،..على الرغم من أن:

 (قبل)و(اتهامي) و(الجنون).. ليست ملكًا شخصيًا لأحد ..

 إذًا سينظر ناقد إلى هذه العبارة، ويتساءل طويلاً، ثم يضمنها إلى بحثه تحت اسم “تناص الكاتب مع الشعر المعاصر”ويمضي من عمره وقتـًا للكشف عن سبب إيرادي لهذه الكلمات في هذا الموقع بالذات.. 

لكن صدقوني، وبعيدًا عن الاستطرادات المملة، فإن الأمر خطير، وأقسم لكم، لو لم يكن خطيرًا لمـا استهلكت من وقتي، وأوقاتكم ذلك الوقت الذي تقرؤون فيه تلك الكلمات ..ذلك لأنني موقن أننـا نحن : (الذين نعيش بالكلمات، للكلمات، في الكلمات ..في حلمٍ جميلٍ ..مـستحيل)([2])، وهذه أيضـًا ليست كلماتي، إنها كلمات “محمد..”

وهي هنـا على سبيل “الاقتباس”..

أين كـلــماتي إذًا ؟؟

هل تـسرع “الكلمات”في الفرار من ذهن كاتبها/قائلها بهذه الطريقة؟!! .. نحن -ولا شك- في عصر السرعة، وأنـا واثقٌ أن ثلاثة أرباع القراء، ونصف المتعلمين، لا يعون من خطورة “السرعة العصرية” إلا المظـاهر ..تلك التي تلفت الانتباه .. مـظـاهر من مثل: المشهد الأخير من الإجهاز على حـيـاة رجلٍ، كان يعبر شارعًا مـا بسرعةٍ لم تكن كافية لتفادي اصطدامه بتلك السيارة ..الـملاكي/أو الأجرة ..مـاركة  “….”

عصر السرعة يعني لدى الكثيرين، قدرته على أن يرسل برقية لأمريكا الجنوبية، وتصل في نفس اللحظـة، عصر السرعة يعني أنك قد ترسل من أقصى الأرض، إلى أقصاها رسالة SMSفتصل في ثـانيـة.

 

أمـا أنا فإن عصر السرعة يعني لي شيئًا آخـر:

  تمهل قليلاً ..في كـل شيء، في عصر السرعة يتحتم عليك ألا تزيد عدد صفحات نصك عن “الساعة”، حتى إن كنت ممتعـًا لأقصى حدود الإمتاع!!، لأنه-ببساطـة- لست وحدك، هناك كتاب آخـرون، يريدون أن ينقلوا إليك ما لديهم، وهناك معلقين-شبه نقاد- يريدون أن يثبطوا من همتك !!، ثم إن هناك “مكانًا محددًا” لكل ذلك([3]) ….

ولذلك اسمح لي -يا عزيزي الكاتب- أن أهديك النصيحة الثانية: في هذا الزمن المتسارع ( الذي قال عنه “أحمد عبيد” (( هوا احنا زماننا اللي استعجل، ولا احنا كبرنا وبنداري ؟!!)))([4])  ..

لا تكن  مفهومًا ..دعهم يحملقون فيك بـشـدة بعد سماعهم للنص، أو لنقل، دعهم يتساءلون خمس مـراتٍ يومياً حول “مغزى النص”..

عزيزي هذه التقنية موجودة فعلاً، ويستخدمـها-بكثير من المبالغة، والغباء أحيانًا- جيلٌ كـاملٌ من الكتاب، وسأقول لك بشيء من الصدق، الممزوج بكثير من الصراحة (هذا أسلوبي):

مـاذا سيحدث “بعد قراءة نصك”في كل الأحوال ؟؟:

في حـالة مـا إذا كان نصك مفهومًا،وسلسًا : أقصد أنك إذا كتبت مقالاً كانت فكرته واضحة، واستدلالاتك منطقية، واستطعت أن تقنع القارئ بكلامك بنسبة 100%، أو كنت شاعرًا (عموديًا أو حـرًا)تصف لحظـاتٍ من الواقع، أو تتغزل بالمحبوبة”الشمس، والقمـر ..”، أو حتى تعترض على واقع أليم مفترضًا أنه “لا شيء قد تغير”، أو كنت قاصًا ذا لغةٍ خـاصة، تحكي عن موقف تخيلته، أو مر بك، على السواء ..وكنت في كل هذا بسيطًا وواضحًا ومحددًا ..صدقني، فإنك ..الخـاسر الأول ..ستنال شيئًا من الإشادة بعملك، و..لا شك ..ولكن ..ولكنك لن تحصل على ما هو أغلى من ذلك ..

حديثًا قالوا (الوقت هو الحـيـاة):احرص على أن تحصل حياة الآخرين ..من خلال وقتهم ..!!

كل هؤلاء، بعد قراءتهم لنصك، والإشادة، به، أو الصمت عنه، أو حتى نقضه، سيغلقون أجهزتهم، و ينتقلون إلى حياتهم الخاصة (جدًا)، والتي لا تمثل أنت فيها شيئًا !!، سيواصلون (مثلاً) متابعة برامج ومسلسلات التلفزيون التي لا يشك أحد منهم أنها مملة، للغاية !!، وسيضحكون، ويقهقهون، (لماذا لا تكثر مشاهد الحزن، والألم، وتصوير المأساة في التلفزيون، وتزداد مشاهد  المفارقة، والكوميديا السمجة بصورة مملة؟؟، هل تذكر آخر مشهد محزن شاهدته، استطاع أن يحرك بؤبؤة عينك، ويستدر الدمع -ذلك العزيز- من مقلتيك المتحجرتين من زمن ؟؟ …(تلك اللحظات المتميزة التي يتوقف فيها الزمن، وتقلل من سرعة “عصر السرعة”…. لحظـات الحزن، لكم هي بـطـيئة  ..ورائــعـــة !!

ولحظات أخـرى عزيزي ..نعم، لحـظـات القراءة الثانية ….

وهنا -وعلى وشك الانتهاء، وقبل الانسحاق – أؤكد على أن هذا النص الذي بين يديك بحاجة مـاسة إلى “قراءة ثانية”، واقرأ إن شئت كل مـا كتبه السادة المفكرين، والعلماء، والنقاد من الغربيين، والعربيين، عن (فعل القراءة)، ومـا يسمى باستعادة “إنتاج النص”، وأنصحك بالرجوع إلى فصل “مقدمات منهجية”([5])

 وستعلم حينئذٍ مقدار ما ترتكبه من جرم حينما تحكم على نصٍ مـا من القراءة الأولى، أو السماع الأول، ..عزيزي (الحب)فقط، هو الذي يمكنك التعامل معه من منطق “الأول”:(أول نـظرة، أول همسة، أول لقاء ..) ..و شيءٌ آخـر

  التفوق، والنجاح (احرص على أن تكون الأول ..أيًا كانت الظروف)!!

والجدير بالذكر أن بعض النابهين قد تنبهوا لتلك الحقيقة مبكرًا، حتى في المجالس الأدبية، فإذا بهم يطالبون الكاتب بأن يعيد مـا قرأه/ما كتبه !!

القراءة الثانية، تمنحك فرصة أخــرى ..للبـقـــاء ..

في عصر السرعة عندما تجبر أحدهم -ممن ابتلاه الله بهواية القراءة- على إعادة قراءة نصك، فإنك بذلك قد ربحت، وأخذت جزءًا من الوجود في الـعدم !!

لا بد أن تع تمامًا أنك تحيا في زمن لا معقول ..

وليس معنى ذلك قطعًا أن تلجأ في كتابتك إلى طرائق معقدة، وغرائبية، وشاذة، فهناك من يهوى تمزيق أوراق الكتب، والمؤلفات أيضًا: . . .

 

لم أكن أملك من أمري شيئًا حينما قابلتها، سحرتني نظرة عينها، أخذت تتأملني ..من أنا ؟؟ ..تشير إلي من بعيد ..تـسارعت خفقات قلبي، أقبلت عليها، وأنا أحاول أن أبدو متباطئًا:

 ـ لمـاذا تقف هنـاك بمفردك ؟

ـ إنه قدري ..يا لجميلة !

ـ لا من فضلك، هذا المكان مخصصٌ لكبار الـسن ..

ـ وأنـا أصبحت واحدًا منهم مذ رأيتك .

ـ لا مجال للتغزل ..الآن ..إنها الأوامـر .

 

وأشارت بيدهـا ..فابتعدت ..ومع ابتعادي، بدأ عدد سطور الورقة يـقل ..ويقل ..ليتلاشى !!

وحينما تنتهي الأوراق لديك، فكل ما عليك هو أن تشتري ورقًا آخـر، وإذا لم تملك ثمن الورق الذي تكتب به، فلا عليك ..مما لاشك فيه أنك لا تملك أيضًا ثمن الحـبر الذي يُكتب به ..وحينئذٍ ..اسمح لي أن أحسدك، فلن تغوص قدمـاك في الرمال، مـادمت تقف على أرض صلبة!!

وتذكر جيدًا أن الكتابة مغامرة، وأن عدد الكتاب يفوق أحيانًا عدد القراء ..وأحيانًا يموت المرء، وهو يكتب، ..وحينئذٍ سيكون كل ما يزعجه أنه لم يراجع آخر ما كتبه !!

تمهل قليلاً … هذا النص يحتاج لقراءة ثانية، لأنه-ببساطة- ليس نصًا سطحيًا، ولا مباشرًا، قلت لك من البداية ..ستحصل على التعليق، وقد تحصل على “السكوت المطبق”بعده، وأنت تعلم جيدًا أن (السكون علامة الرضا..!)ولا تنس أنه في كل الأحوال، سيعود القارئ إلى  عمله أو بيته، أو سيطوي صفحة الكتاب، أو الجريدة، (ويغلق الجهاز)!، وقد يكون مصيرهـا في النهاية (قرطاس ترمس) ..لا تيأس تمامًـا ……

هل تعلم أنه حينئذٍ فقط يمكنها أن تكون ذات تأثير، أو جدوى وأهمية، أنا أعلم أشخاصًا (من بين الذين يمارسون هواية القراءة)، يقرؤون بعد التهام أقراص “الطعمية”،وحبات الترمس، أو قطعة البطـاطا (على اعتبارها ورقة ببلاش!) ..ولكن لا تيأس تمامًا ..سيذكر ذلك القارئ ذات مرة لأحد أصدقاءه، أنه قرأ إحدى مقولاتك ..وسيقول لصديقه أنه لا يذكر أين قرأ تلك المقولات … وسيسأله صديقه عن اسم ذلك الكاتب/المبدع ….

 وعندهـــــا …

عند تلك اللحظة من عمر الزمان ..تتوقف عـقارب الساعة فجأة (لأن البطارية خلصت)..  ولا يرى الناس قرص الشمس (لأن السماء ملبدة بالغيوم).. وتوقن أنت أنك حزت على لـحـظة في عصر السرعة ..مـرت أمامك ببطء …

يقول له:هـاااااااااااااااااااا ……لا أتـذكـر ….

نعم، عزيزي ارض بواقعك، نحن من جيلٍ يكتب للكتابة، بل إن أحد النقاد، وصف كتابة عصرنا بأنها (الكـتابة بدلاً عن الحـياة )…

تمهل قليلاً ..

حاول أن تستحضر كل ما قاله السابقون عن الزمن ….

إن كنت قد نظـرت قبل قراءة هذا النص إلى نهايته فثق أنك لن تصل لشيء ..!!تمهل قليلاً ..لا تفعل مثلي ..!

اجعل النص يفاجئك في كل لحظة … هل أقول لك سـرًا ؟ (لكم نهوى الأسرار)…هذا النص هو بداية لما لا نهاية له، …

حــــسـنًـا … عندمـا تقرأه إذا اقرأه ببطء …………… ببطـء ..

تذكر كيف كـانوا يعلمونك المشي في سنين عمرك الأولى (يااالها من أيام !!)…. 

(تـا … تا ….. تا تا  )…نعم . . …

لاحظ  ……..إن البطء معجـزة في عصر السرعـة، ….

وعليه عندما يكون الطريق خاليًا من السيارات ..احرص على أن تسير ببطء، في عصر السرعة  … حينما يكون الشارع خاليًا من السيارات عليك أن تتباطأ …

…………………………

بعض القُرَّاء يعتقدون أنك تملك “أسلوبًا خاصًا”في الكتابة ..والأسلوب”الخاص”..تقييد، وأنت رجل حـر، ضد التقييد … احذر أن يكون لك أسلوبًا خـاصـًا …..

(الباقي يقرأ ببطء شديد )

هذا هـو السطـر الأخير مـن  هـذا النص

مـلحـوظـة : ((هذا المقال هو الجزء الأول من مجموعة من المقالات كتبها المؤلف قبل رحيله المؤسف، وسنواصل عرضها هنا تباعًا إن شاء الله، إحساسًا مـنــا بالـــمـســؤولــيـة تـجــاه هــذا الـكـاتب!!)).

20/3/2004

ــــــــــــــــــــــــ

*حقيقة علمية !!

([1]) هوا عارف نفسـه J

(([2] الصديق محمد قرنة: من قصيدته ( أنشودة لليل )

[3]))  يبدو أن الكاتب بتحدث عن النصوص المقروءة على جمهور مستمعين … (يحدث أحيانًا)

([4] ) الصديق المغمور “أحمد عبيد” من قصيدته الخالدة ( بايني كبرت) الديوان الصادر مؤخرًا عن سلسلة الكتاب الأول، المجلس الأعلى للثقافة، مبروووك يا عبيــد

[5])) من كتاب هام، نسي – رحمه الله ـ ذكر اسمه !!  

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال