المستوحشون

المستوحشون
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد اللطيف النيلة      

إن رأيتَ أحداً يحمل كتابا في بلدتي، فاعلمْ أنه غريب. أغلقتِ المكتباتُ أبوابها منذ زمن بعيد، وتحوّل أغلبها إلى محلبة أو مطعم أو مخبزة أو محل لبيع الملابس أو الأثاث... الكتب تربض فوق رفوف الخزانات خرساء مغلفة بالغبار، بينما طاولات الخزانات وحيدة لا يجلس إليها أي قارئ، وبين أرجلها تعْبث الريحُ المتسربة من شقوق نوافذ كبيرة نخر السوسُ خشبها. والذين أقامتِ الكتبُ بينهم في غابر الأيام، جعلوها في أكياس أو صناديق من كرتون، وألقوا بها في الغرف المظلمة المكتظة بالأشياء المهملة، أو في سطوح البيوت، أو أقبية الفيلاّت، أو حتى في المزابل. ذهبتْ  بعض المصانع إلى حد تطبيق فكرة مبتكرة للانفلات من عبء الكتب: بآلات مفرطة القسوة تعجنها عجنا، وتصنع من عجينها ورقا للتمخيط والمسح والتنشيف والتلفيف. لكن ركام الكتب كان هائلا، يبدو كما لو كان عصيا على الاستنفاد. أهل بلدتي يعتقدون أن أجدادهم كانوا يرزحون تحت ثقل الوقت الفائض عن الحاجة، فلا يملكون وسيلة لتبديده غير اقتناء الكتب والاستغراق في التسكع بين صفحاتها.

«أما زال في الدنيا حمقى ينشغلون بالكتب؟!».

هكذا يعلق ابن بلدتي لو صادف، في قناة تلفزية، حواراً مع كاتب، أو إعلاناً عن صدور كتابٍ جديد، أو نشاطِ توقيعِ إصدار… ويرد عليه جليسه متأففا:

«دعنا من صُداع الرأس!».

ثم يفرّان إلى ما هو أمْتع: مباراة في المستديرة الجلدية، مدوّخة الرؤوس. أو حفل لكشف الصدور وإمالة الأرداف على إيقاع موسيقى ملفقة، تصحبها كلمات فجة لقيطة من غير روح. أو مسلسل ملتهب العواطف. أو شريط مفخخ بالعري وقبضات الأيدي…

غير أن ليلة ليست مثل كل الليالي، دشنت أول إرهاصات الخطر الذي سيجتاح بلدتي. كان رجل يركن سيارته، بعد عودته متأخرا من سهرة ماجنة، فالتقطت أذناه غناء منبعثا من قبو دارته. انحنى إلى الأرض يطل من بين قضبان نافذة القبو، فرأى الضوء مشتعلا والكتب التي انتهت إليه أبا عن جد، الكتب كافة ترقص فوق الأرض.. فرك عينيه جيدا، لم يكن سكرانا، كانت تلك الكتب العتيقة المغبرة ترقص وتردد بصوت يشبه إطلاق حزمة أصوات عبر أنابيب:

«أعز مكان في الدنى سرج سابحْ

آبحْ.. آبحْ.. آبحْ

وخير جليس في الزمان كتابُ

آبُ.. آبُ.. آبُ».

وصعدت امرأة، بعد ذلك بأيام، إلى سطح بيتها لتنشر الغسيل، ففوجئت بكتب تدور في حلقة وهي تنتف حروفها وترمي بها عاليا، وتندب بصوت أكثر من امرأة نائحة:

«ها سْرّي     ها مْرّي

ها غْدايْدي    ها فْقايْسي».

وفي أحد المنازل، دلف طفل صغير إلى غرفة الأشياء غير المستعملة، فخرج مُعْولا يصيح:

«آه يا ماما ابنة الحرام عضتني!».

هرولت أمه نحوه تسأله بخوف:

«من عضك يا حبيبي؟».

فصاح:

«الكتب يا ماما!».

وفيما كان نبّاش يقلّب أكوام القمامة بخُطافه، تراجع إلى الوراء فزعا. وحين قرّب ظهر يمناه من عينيه ليرى أثر ما ظنه عضة، ارتمت على قدمه ثلاثة كتب تنهشها، فأراد أن يسحبها فتعثر وسقط…

قيل إن صاحب الدارة لم يصْح من السكر منذ تلك الليلة، والمرأة فقدت عقلها بمجرد أن نزلت من السطح، والطفل أصابته حمّى أودت بحياته حتى أن أباه أشعل النار في محتويات الغرفة اللعينة، أما النباش فقد شهد المارة كيف افترسته الكتب فتركته عظما بلا لحم.

توالت الوقائع الرهيبة تباعا، فتكررت اعتداءات الكتب على أهل بلدتي، واغتذت الحقائق بالأوهام، فصدّق بالمصيبة حتى المكذبون، وأيقن بالهلاك حتى المستريبون. كان سعار الكتب قد تأجج، فانطلقت الحروف من قواعدها الورقية تصبّ ويلاتها على من هب ودب. عمّ الهلع بلدتنا، وأطلق البعض سيقانهم للريح لا يدرون أي طريق يسلكون، ووقع البعض بين مخالب الكتب، ولجأ البعض إلى سلاح النار فشبت الألسنة اللافحة الحارقة في السطوح والغرف والأقبية والمزابل. لاحت بلدتنا مثل أرض منكوبة افترسها الخراب والفوضى.

أما أنا فكنت، بقلب مفجوع، أتسَقط الأخبار، رفقة زمرة ممن تعلقوا بالكتاب ودأبوا على السفر فيه. كنا منذ زمن بعيد نختبئ في أمكنة نائية عن الأنظار، لنعاشر الكلمات بين دفات الكتب، فنستكشف مختلف الجغرافيات والتواريخ، ونصغي لحِكم العقلاء ورؤى المجانين، ونتذوق ثمراتِ رهافةِ الإحساس، ونرشف لذيذ الحكي، ونبلغ مآرب أخرى.     

أقصتنا البلدة إلى الهامش، لم ترغب في سماع “زبورنا”، فلذنا ببستان الكتب نتجول تحت ظلاله، بشوقِ فراشةٍ إلى الضوء، وشغفِ نحلةٍ تمتص الرحيق. ولمّا رأينا الكتب تفترس البلدة، عرفنا أنها استوحشت، فعكفنا على كتبنا بألفة ورددنا:

«فلنأكلها قبل أن تأكلنا!».

 

مقالات من نفس القسم