هاني منسي
في كل نص يظهر هناك متن يتباهى بخطه العريض، وبحجمه الذي يطلب من القارئ أن يقف عنده، أما الهامش يظهر على استحياء، كسطرٍ ذليل صغيرٍ، يهمس، لكنه ربما يشد النظر بصمته أقوى من أي عنوان صارخ.
الهامش خزان الكلمات التي كادت أن تندثر، ونطاق تلك المصطلحات غير الموجودة في المعاجم، حاملة حمولة ثقافية شعبية أو إثنية متغلغلة في النسيج اليومي؛ هو الذاكرة الشعبية والصوت الذي لا يطالب بحق التمثيل بل يعزز وجوده بنفسه رغم مكانه تحت أقدام المتن.
المتن المغرور غالبًا ما يعد الهامش تفصيلاً لا قيمة له، لكنه لا يدرك أن في قوام الهامش متونًا أخرى، كما أن للهامش في الحياة هامشًا، وللهامش الآخر هامشًا أيضاً — حلقة لا تنتهي من اختلافات صغيرة وكبيرة تعيد ترتيب مركزيةِ الأشياء وتكشف عن كون متعدد المزايا.
إلى الإنسان المغرور: تذكر دائما أن هناك آخر يراك هامشا.
هذا الإلحاح على وجود الآخر يجعلنا نتذكر أن الإنسان ليس مركز الكون؛ فهناك آخرون — ناس وبشر ومخلوقات — يعيشون على حافة رؤيتنا، أو خارجها، يروننا بطريقتها الخاصة، ربما كنت في نظرها هامشا، وربما كما نراها نحن، وينتجون نصوصهم الخاصة: لغتهم، أسطورتهم، غضبهم، رحلتهم إلى الحضور. وبالتبعية، شخصيات الهامشِ ترى شخصياتٍ أخرى على الهامش؛ وهامش الهامش يفضح طبقات التهميش ويعيد طرح سؤال الأسبقية والحق والبركة — لماذا تصبح البركة حكراً على أحد؟ (في قصة يعقوب وعيسو مثلا)
لماذا تعطى الأسبقية والاستحقاق لمن يملك خطاب القوة وربما يعمل العقل في فعل الشر؟ هل البركة (الإلهية) تسرق ولماذا لا يمكنها أن تكفي أخين من التؤام؟ ولماذا تميز البكر، والبكر فقط دون غيره؟ اليأس من هذا السؤال يولد سرديات عن سرقة، عن تزوير، عن خبث يبدو مقدسا يتظاهر بتنفيذ الوعد الإلهي. وفي الحياة، كما في السرد، ثمة اشكال مختلفة من الرؤية الإقصاء والإخصاء النفسي والوجودي: إنسان يصطاد العصافير والحمام والبط البري… للمتعة والتسلية، إنسان يصطاد السمك للطعام أو للترفيه، إنسان يقيم مسابقات للصيد تمنح فيها جوائز لمن يقتل عددًا أكبر من الكائنات… أمثلة لا تظهر فقط قسوة الفعلِ على الحيوانات، بل تكشف عن منطق ثقافي بشري عام يرى الكائنات الأخرى هامشًا مشروعًا للترفيه والسيطرة.
الهامش إذًا دعوة متواصلة لإعادة النظر: في المركز، في المتن، في المكانة، في حق الوجود؛ ولها صوت كهذا الصوت، لا يمحى ولا يخضع إلا عندما نقر بأن للعالم مراكز متعددة، أو هوامش متعددة، وأن نزع المركزية عن النفس قد يكون أوّل طريق لعيش أكثر إنسانية — ليس بتقليل قيمة المتن، بل بإعادة توزيع الحضور والاعتراف بالآخر وأحقيته الكاملة في الوجود.
……………
*كاتب وناقد





