المبدع والإنسان

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حازم الشيخ

أؤمن أن الحديث والكتابة عن رحيل الأحباب صعب وموجع، وأن الحديث بعد رحيلهم مباشرة أكثر ألما وصعوبة، تتداخل مشاعر الحزن والألم مع مشاعر الفقد، وتتداخل مشاعر الاشتياق والحنين للقاء أخير ولو بشكل عابر مع مشاعر وذكريات سابقة رسخت فى الأذهان والعقول، تتداخل مشاعر الغضب والحسرة مع مشاعر الندم على أوقات وأزمنة ضاعت كان من الممكن أن تستثمر فى لقاءات أو محادثات لم ولن تحدث أبدا.

عرفت الأستاذ محمد جبريل فى طفولتى وصباى اسما بارزا فى مجالى الأدب والصحافة، طالعت عددا من أعماله الروائية والقصصية ومقالاته المتعددة، أتذكر فى مرحلة الجامعة إعجابى الشديد بروايته «إمام آخر الزمان»، قرأتها وأنا منشغل بفكرة انتظارنا الدائم داخل عالمنا العربى والإسلامى لإمام آخر الزمان الذى سيأتى فى يوم من الأيام ليملأ لنا الدنيا عدلا لا نستحقه ولم نناضل من أجله أو نسعى إليه، أتذكر أن الرواية كانت تحمل ردودا وإجابات وتساؤلات عديدة تركت فى قلبى وعقلى أثرا لازلت أتذكره.

عرفته أيضا صديقا مقربا من والدى الكاتب الروائى الراحل أحمد الشيخ، تشاركا معا فى حب الكتابة والأدب وحمل هموم وأعباء الوسط الثقافى مع اختلاف شخصياتهم وأرائهم ورؤاهم، تزاملا معا أثناء عضويتهما فى مجلس إدارة اتحاد الكتاب لأكثر من دورة، كنت قد اعتدت فى نقاشاتى مع والدى على تصنيفه للكتاب والمثقفين لفئتين: فئة تملك موهبة حقيقية وصادقة وترغب فى تحسين الوسط الثقافى ودفعه للأمام، لكن أعدادهم القليلة وعزوفهم عن الصراعات والتربيطات التحتية أكسبتهم مزيدا من الاهمال والتجاهل لصالح من لا يستحقون، وهى الفئة التى طالما كان يحترم ويقدر أصحابها مهما اختلف معهم أو تعارضت الآراء بينهم.

أما الفئة الثانية فكان يسميهم بأنصاف المواهب أو معدوميها، وهم من يملكون القدرة دائما على افتعال صخب بلا طائل وإظهار وتلميع من لا يستحقون، فأعدادهم الكبيرة وقلة حيائهم وترابطهم الشديد أكسبهم مزيدا من الأضواء والشهرة، وقد كانت خلافاته مع هذه الفئة تحمل قدرا كبيرا من الحدة التى لا تهدأ ولا تنتهى أو تمر بمرور الزمان.

كان الأستاذ جبريل ينتمى بالقطع للفئة الأولى فى نظر والدى، أتذكر عندما تم ترشيح اسميهما لنيل جائزة الدولة التقديرية فى نفس السنة وحصل على الجائزة اسم آخر من المرشحين، يومها اتصل الأستاذ جبريل بالأستاذ أحمد على تليفون المنزل لكنه لم يكن موجودا فقال لنا نصا: أنه لو حصل أحمد الشيخ على الجائزة بدلا منه لم يكن ليغضب أبدا لكنه غضب فقط لأن الجائزة ذهبت لمن لا يستحق، وعندما عاد والدى للمنزل وأخبرناه بكلام الأستاذ جبريل رد علينا بأنه هو الآخر لم يكن ليغضب أبدا لو حصل الأستاذ جبريل على الجائزة لأنه بالفعل يستحق.

بعد رحيل والدى ببضعة أيام أقام نادى القصة ندوة بداخله لتكريم اسم الراحل، كنت أعرف أن الأستاذ جبريل يمر بأزمة صحية منذ فترة وأنه لا يخرج من منزله إلا فيما ندر وأن تحركاته قد صارت صعبة للغاية بسبب إصابة ظهره، لكننى تفاجئت يومها أنا والأسرة والحاضرين جميعا بقدوم الأستاذ جبريل وإصراره على التواجد معنا متجاوزا آلامه وأوجاعه وهو موقف إنسانى عظيم لا يمكن أن يُنسى وكلما تذكرته غالبتنى الدموع ومشاعر الاحترام والتقدير.

تواصلت معه عبر الهاتف فاقترح علىّ زيارته داخل منزله ففعلت، كنت أشعر بالحرج الشديد أثناء زيارتى الأولى له، أفلح هو بدماثته المعهودة فى إخراجى من حالة الحرج، تجاوزنا معا فارق السن والخبرة واختلاف الأجيال، أحسست أنه صديق حقيقى أرغب فى الحوار معه، أستاذ ومعلم أرغب فى الإنصات إليه، ممثل لجيل أعشق تجربته الحياتية والإبداعية، كاتب كبير يدرك قيمة وأهمية غيره من الموهوبين متجردا من مشاعر الحقد والغيرة التى تتسلل لغالبية المبدعين.

استمر تواصلنا عبر الهاتف أو من خلال لقاءاتى معه كلما سنحت الظروف، تناقشنا فى كثير من الأمور عن الفن والثقافة والسياسة والاجتماع والتاريخ، تبادلنا الآراء حول الكتّاب وكتاباتهم وسيرتهم الذاتية، توافقنا فى كثير من الأمور واختلفنا فيما ندر، لكنه كان قادرا على تجاوز أى خلاف أو اختلاف بيننا فى الآراء والرؤى، وكلما انشغلت عن زيارته فترة أعاتب نفسى قبل أن أتصل لأعتذر له عن تقصيرى فى حقه، فيرد بكلماته الرقيقة مهونا ومتجاوزا أى أمور قد تعكر صفو تواصلنا.

كنت أرغب فى زيارته الأسبوع الماضى فاتصلت به لأخبره، لاحظت تغيرا فى صوته فسألته عن السبب قال بسبب دور البرد الذى أصابه ولم يتعاف منه، أخبرته بضروره الراحة والحرص بسبب برودة الجو الشديدة وأننى سوف أزوره بعد بضعة أيام حتى يكون قد تماثل للشفاء وأننى بالتأكيد سوف أتصل به قبل الحضور، رد علىّ فى نهاية المكالمة قائلا: «تعالى على طول يا حازم من غير استئذان.. ده بيتك».

هكذا عرفت الأستاذ محمد جبريل، كاتبا كبيرا وأستاذا للصحافة الأدبية، إنسانا نبيلا وصديقا رائعا يمتلك قدرا هائلا من المحبة والكرم والنزاهة والثقافة والإبداع، لروحك الجميلة السلام يا أستاذنا ولقلوبنا الصبر، عزاؤنا الوحيد فى كتاباتك وأثرك وميراثك الفنى والإنسانى مستحيل النسيان.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم