علي الدكروري
عندما أوشكَ أن يغفو، سمعَ أصواتَ أطباقٍ تتكسرُ بشدة في كل حجرات المنزل. وضعَ الوسادةَ فوق رأسه، واستدار للناحيةِ الأخرى ونام.
بعد قليل أيقظهُ صوتُ أخيه وهو يطرقُ النافذة ويستنجدُ به ويتوسلُ إليه.
استدار عائدًا للناحية الأولى ونام. جاءه الرجلُ الذي سرق الجلبابَ الأبيضَ والعمامةَ وعاتبهُ بشدة، ثم علا صوتهُ وحاول أن يخنقهُ بين يديه، لكنه تخلّصَ منه بصعوبةٍ شديدة.
البيتُ الذي يعيشُ فيه بين الحقول ينفردُ بنفسه بعيدًا عن القرية، وله أبوابٌ كثيرةٌ لكنها مغلقةٌ بعناية. والقريةُ صغيرة، وكل رجلٍ بنى بيتًا وسط أرضه، والجميعُ نزحوا إلى هنا ليكونوا قريبين من زراعتهم.
بعد العشاء تقريبًا لا تجدُ أحدًا خارج البيت، لدرجة أن قصةً بسيطةً انتشرتْ، وهي أن رجلًا ثريًا ضرب ابنه بشدة لأنه عاد للبيتِ بعدَ العشاء بساعةٍ.
كلهم ينامون مبكرًا ليستيقظوا عند الفجر للذهاب إلى الحقول.
أخبره أبوهُ مرةً أنه جاء إلى هذا المكان أولًا واشترى أرضًا وأقام. وأنهم كانوا يرون الماردَ بالنهار قبل أن يكثرَ العمران، وأن الماردَ كان طويلًا ولا يرى أحدٌ وجهه، ويظهرُ ويختفي، ويسيرُ في الغيطان وهو يحترق. لا يعلمُ ما الذي جعل أباه يتركُ المدينة ويأتي إلى هنا. وكل مرة يسألُ أمه فلا يجدُ جوابًا شافيًا، وهو لا يحبُ القرى لكنه رضي بذلك ليكونَ بجوار أمه التي تحبه.
كل ليلة بعد العشاء يسيرُ على طريقٍ واسعٍ يلتصقُ بالترعة الصغيرة التي تقسمُ القرية إلى نصفين متساويين بمهارة. يستمتعُ بالنسيم الذي يشفي الروحَ ويثيرُ الحنين، ويعشقُ الليلَ ويراقبُ النجوم، وفي كل مرة يسمعُ أصواتَ كائناتٍ ضخمةٍ تسقطُ من السماء في الترعة، فيصيبهُ رذاذُ الماء وتبتلُّ ملابسه، ولا يهتم.
المرأةُ التي رآها للمرة الأولى ذهبت في الليل إليه، وكانَ يراها وهي تبكي في الشرفةِ، ويسمعُ صوتها وهي تتحدثُ مع أحدٍ لا يعرفه. وهو مع الوقت بدأ يحادثها ويسألها عما يريدُ أن يعرفه عنها، وقال لها: “أحبك” لأول مرة في المطبخِ وهي تُعِدُّ الطعام.
قالت أمه: “البيتُ سيسقطُ علينا يا ولدي، نريدُ بيتًا جديدًا. أود أن أموتَ في المكان الذي عشتُ فيه عمري وأجمل أيامي.”
أحضرَ آلاتِ الهدم، وبصعوبةٍ تم هدم البيت. كان البيتُ كأنه جبلٌ يرفضُ أن يسقط، وبذلَ العمالُ جهودًا مضنية. ولأيامٍ كانوا يتعجبون، وتكسو وجوههم الدهشةُ لأن البنيان قديمٌ ويستعصي عليهم. زاره الرجلُ ذو الجلباب الأبيض وطلبَ منه ألا يبني بيتًا جديدًا لأن الأرضَ تحتها كنزٌ ثمينٌ ومقبرةٌ كبيرة. شكره بسخرية، وبنى بيتًا جديدًا، وفرحت أمه وقالت: “سأموتُ وأنا راضية عنك.”
لم يتغيرْ شيء، فنفسُ الأشياء ظلت تحدثُ تمامًا كما كانت في البيت القديم.
حين ماتتْ أمه أغلقَ البيتَ وانتقلَ لبيتٍ جديدٍ قريبٍ من عمله. حمل حاجياته في الليل بالسيارة، وودعته الكائناتُ الضخمةُ التي تسقطُ من السماء في ترعة القرية. لم يحكِ مرةً لأحد ولم ينتبه، فهذا تقريبًا يحدثُ في جميع البيوت وجميع البحار، ولكلِ الناس.
في غرفته الجديدة ظلَّ ساهرًا ولم ينم. كلُ شيء هادئٌ تمامًا، ولا تسمعُ أصواتًا ولا ضجيجًا. حين سارَ على البحر في الليل لم يسقطْ شيءٌ من السماء. شكا لصديقه أنه منذ شهورٍ لا ينامُ، ويرغبُ في البحث عن بحرٍ جديدٍ، وبيتٍ جديدٍ، ليعيش ككل الناس ويستمتعَ بحياته كما كان يحدثُ من قبل. يريدُ بيتًا يتشاجرُ فيه رجالٌ لا يعرفهم، ويكسرون الأطباق كل ليلة. وتأتي إليه بسمة في كل ليلة كعادتها، وتبكي في الشرفة حتى الصباح. ويظل أخوه يطرقُ على النافذة طوال الليل ويتوسلُ إليه، فيستدير للناحية الأخرى وينام.