اللعب

الجن..الدراجة.. والمراجيح.مقطع من "ألف جناح للعالم"..رواية تصدر قريبا
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد الفخراني

اللعب، هو السبب فى أنهم لم يتدبروا إيجار البيت حتى الآن، غير أن هذا لا يقلقهم، فلم يحدث ولو مرة أن سددوه فى وقت لائق، كما لا يقلقهم كيف يحصلون على مال، فحينما يضطرون لذلك، يخرجون للعمل عدة ساعات، لكنهم لن يفعلوا الليلة، فكلٌ منهم يجهزّ نفسه الآن لليلة طويلة من اللعب.

 “نور” فى حجرته المشتركة مع “ظلام”، وكلٌ منهما يعدّل تسريحة شعره أكثر من مرة، ويجرّب قطعة ملابس ثم يخلعها ليجرّب أخرى، ولا يقلقهما أنهما يستعملان نفس الأشياء، وكثيرًا ما يرغبان فى فعل نفس الشىء فى وقت واحد، ولا أنهما فى كل مرة يحبان نفس الشابة أو المرأة ويعترفان بحبهما لها فى يوم واحد، يعجبهما هذا لأنه يمنحهما مساحة خاصة من اللعب، فقط يحيّرهما أن أية حبيبة حتى الآن لم تصرح بمن أحبته منهما.

بمواجهة “ظلام” و”نور”، يسكن “حب” فى حجرة رغم أنها الأصغر، إلا أنه أصر أن تكون له وحده، فهو يكره أن يشاركه أحد أىّ شىء، فى الوقت الذى كان “موت” ساكن الحجرة الملاصقة له، يسرق منه شيئًا واحدًا كل يوم، ثم يعيده لمكانه فى اليوم التالى، فلا يمر يوم إلا وشىء ضائع من “حب”، وحيرة صغيرة تربكه، لم يكن “موت” يستعمل الأشياء التى يسرقها، فقط يريد أن يلاعب “حب” بتلك الحيرة.

كان “كذب” فى صالة البيت يتحرك بخفة وهو يجهزّ منضدة اللعب، ويرتب الأشياء بطريقته الخاصة، ويعيد توزيع قطع الأثاث القليلة، حتى يمنح شكلاً جديدًا للمكان مثلما يفعل كل ليلة، وبين لحظة وأخرى ينادى أصدقاءه “الوجهاء المساكين” كما يطلق عليهم، ويسخر منهم لأنهم فى النهاية سيخسرون لصالحه، يضحك “كذب” ثم يلتفت لصورة حبيبته “متعة” على الجدار، ويقفز إليها من فوق منضدة اللعب، ليضبط وضعها، رغم أنها بالفعل فى وضع مضبوط.

“كذب” الوحيد الذى وضع صورة لحبيبته بالبيت، رغم أن كل واحد من أصدقائه لديه بالفعل حبيبة أو كان، ربما لأنه الوحيد الذى ظل على حبه لحبيبته طوال الوقت، لم يحب غيرها، ولم تنته علاقته بها.

يخرج “حب” من حجرته، وتظهر عليه حيرة صغيرة، لأنه لم يجد تميمة حظه التى يلفّها حول معصمه، ولا يتوقع أن يكسب فى اللعب بدونها، فى الوقت الذى كان “موت” عند باب حجرته يرقبه بنظرة جانبية، أحس بها “حب” وتجاهلها، فهو لم يكن متأكدًا أن “موت” هو من يخبئ أشياءه، إلا أنه فى نفس الوقت متأكد أن لا أحد غيره يفعلها.

 كان “ظلام” قد جلس إلى منضدة اللعب المستديرة، يلعب بالأوراق مع نفسه، ويسحب بعضها ليكوّن أرقامًا لا يمكن أن تخسر، ويتمنى أن يحصل عليها وقتما يبدأ اللعب، بينما وقف “نور” بجوار “كذب” ينظر معه لصورة “متعة” فى تسريحة شعرها البسيطة، وعينيها الملونتين بما لا يفهمه ولا يعرف اسمه غير “كذب”، ويجعله لا يبدأ اللعب قبل أن يتأملهما لنصف دقيقة، يجلس بعدها إلى منضدة اللعب، بحيث يكون بمواجهتهما، مثلما يفعل الآن بعد أن أمسك بيد “نور” وأجلسه عن يساره، ثم كان “ظلام”، و”حب”، و”موت”.

 يلعبون للتسلية، لا ليحصلوا على مال بعضهم بعضًا، لا توجد رهانات على منضدة اللعب، يفكرون أن لو كان هناك رهان، فسيفعل هذا بهم أى شىء إلا أن يجعلهم أصدقاء، كما فى نهاية اللعب لن يكون الأمر مسليًا للكثيرين منهم، فى كل ألعابهم هناك فائز واحد، يحدد لكل خاسر شيئًا عجيبًا يفعله، وعلى الخاسر أن يفعل هذا الشىء مهما كان، وفى أحيان كثيرة يتمنى كل منهم الخسارة حتى تُطلب منه الأفعال العجيبة.

“كذب” يجمع أوراق اللعب من سطح المنضدة، ويكون حريصًا أن تقع عيناه على ورقة البنت قبل أن ينتهى من ذلك، لو حدثت تلك التفصيلة الصغيرة سيكسب طوال الليل، أو يخسر إذا أحب، ولا يكون مضطرًا لأن ينظر لصورة “متعة” بين لحظة وأخرى، لتخبره عيناها بأوراق أصدقائه، وتقترح عليه ما يفعل، لكنه فى كل الأحوال سينظر لعينيها بين لحظة وأخرى، إن لم يكن لتلعب معه، فلأن حبه لها يجعله يفعل.

:استعدوا للعجائب.

قالها “كذب”، وأطلق ضحكته الشهيرة، وقبل أن يرد عليه أحد أصدقائه، رد صاحب البيت

         :استعدوا للمبيت فى الشارع.

كان صاحب البيت قد فتح الباب بنسخة من المفتاح يُصرّ أن تبقى معه، ودخل دون أن يشعروا به، مثلما يفعل مرتين أو ثلاثًا كل يوم، ليرتب أو ينظف، أو ليفعل لا شىء، فقط لا بد أن يدخل مرتين على الأقل كل يوم، لكنهم يضطرونه أن يدخل مرات إضافية من أجل الإيجار المتأخر دومًا، وفى كل المرات الإضافية، يصمتون جميعًا، ويتركون “كذب” يتفاهم معه.

كان صاحب البيت يوجّه كلامه وغضبه فى كل مرة “لكذب”، ليس لأنه ضيف دائم وسيضطر أن يتحمله، ولكن ليفتح معه أىّ حوار، وكان الجميع يعرفون أن صاحب البيت يحب “كذب” بشكل خاص ويستمتع بالكلام معه، الأكثر من ذلك أنه الوحيد الذى يثق به منهم، لأنه يقول الحقيقة لو سأله عن أى شىء، فعندما ينكر أصدقاءه مؤجرو البيت أن معهم أى مال يدفعونه، ويسحبون جيوبهم ويقلبونها فارغة ليؤكدوا لصاحب البيت أنهم مفلسون، ليس عليه إلا أن يسأل “كذب” ليخبره فورًا عن الأماكن التى يخبئون فيها نقودهم الفقيرة، والتى لا تكفى فى كل الأحوال لسداد الإيجار.

 لا يتعامل “كذب” مع صاحب البيت بهذه الطريقة لأنه ضيف على أصدقائه، لكن لأن تلك هى الطريقة الوحيدة التى تضمن استمرار الجميع، وتجعل من أحدهم موضع ثقة، كما يبدو الأمر وكأن تلك طبيعة “كذب”، فلن يستطيع أن يتصرف بهذه التلقائية فى كل مرة إلا لو كانت تلك طبيعته.

أكثر من ساعة قضاها صاحب البيت واقفًا يتحدث مع “كذب”، الذى لم يتحرك من مقعده، فى حين نهض “ظلام” و”نور” للمطبخ، وفى الشرفة كان “موت” يبتسم للقمر، و”حب” يقف قريبًا منه يرقبه بحيرة، ويفكر كيف لم يستطع ولو لمرة أن يمسك به وهو يسرق أحد أشياءه، أو وهو يعيد نفس الشىء فى اليوم التالى؟! رغم ذلك كانت الفكرة تجعل “حب” يبتسم.

:استعدوا للعجائب.

قالها “كذب” بحماس أكبر هذه المرة، فجاءه أصدقاؤه ولم يسأله أحدهم كيف تصرف مع صاحب البيت، إلا أن كل واحد منهم فاجأه شىء جعله يشعر بأنه لم يعد فى حال تناسب ألعابهم العجيبة، فقد تغيّر مزاج “نور” بلا سبب، وتذكّر “حب” حبيبته التى خسرها منذ أيام قليلة، فأحس برغبة فى الجرى بلا هدف، وازداد إحساس “ظلام” بالقلق على أعز صديقاته “رحمة”، التى تواصل الرسم على الجدران فى الشوارع منذ شهر متواصل دون نوم أو طعام، وفكر أن يخرج ليطمئن عليها، بينما كان “موت” يتلفت حوله بلا تركيز، وهى الحالة التى يكون عليها عندما يريد عدة أشياء فى وقت واحد ولا يتذكر منها شيئًا، ولن يهدأ إلا لو خرج للشارع، وعندما نظر “كذب” فى وجوههم عرف أنهم لن يتحملوا أن يبقوا لحظة أخرى فى البيت، فابتسم بطريقة ذكرتهم بأنهم “الوجهاء المساكين، واقترح

:الملعب؟

اتجهوا للباب، وتأخّر “كذب” عنهم قليلاً، بعد أن بعثر أوراق اللعب على المنضدة، ووقف للحظات يخمّن أية ورقة من الأوراق المقلوبة ستكون البنت، كان عليه أن يكتشف ذلك مع أول ورقة يسحبها، وعندما فعل ذلك، رفعها “لمتعة”، وهو ينظر لها بجديّة، ليذكّرها بأنه لم يخطئ أبدًا فى الورقة الصحيحة، كما لم يتوقف أبدًا عن حبها، هل كان يعرف أنه سيخطئ عندما يتوقف عن الحب؟

فى الشارع وعلى بعد أمتار قليلة من البيت صادفوا “حزن” و”حنان”، وصحبوهما معهم، ثم ظهرت “رحمة” منهمكة فى الرسم على جدار بلا بداية، وكما هو متوقع ظهر “خوف” على بعد خطوتين منها، يحمل علب ألوانها، وينظر لها بنفس الوَلَه الذى تنظر به لرسومها، وكان على “ظلام” بعد أن ناداها أكثر من ثلاث مرات ولم تسمعه أن يذهب إليها، ويُحوّل وجهها إليه رغمًا عنها، ليرى فى عينيها نظرة فنانة مفتونة، فيضرب خدها بأصابعه مرتين: “تقتلين نفسك”، ويمنعها من العودة للرسم، ويحاول أن يتجه بها حيث “كذب” والأصدقاء، لكنها تقاومه، فيتدخل “خوف” ويجذب فرشاتها من يدها، وقبل أن تثور عليه يقول ضائعًا فيها: “ارتاحى قليلاً”، ويداعبها وهو يعبث بفرشاتها فى وجهه ليصنع رتوشًا عشوائية، فتبتسم بشجن، وعندما يربت خدها وتشعر بحبه العجيب على وجهها، تتنهد وتتراجع خطوة لتلقى نظرة على رسمها، فيضع الفرشاة مع علب الألوان فى حقيبة صغيرة يغلقها عليهم، وينتظر حتى تنهى نظرتها، ثم يمسك أحد ذراعيها، ويمسك “ظلام” ذراعها الأخرى وينضمان بها للأصدقاء، حيث يطلب “كذب” أن يمروا فى الطريق على أعزّ أصدقائه “صدق”، فيجدونه وابنته الصغرى مشغولين على شاطئهما الصغير بصنع القوارب والبيوت الخشبية، ويراقبه “كذب” للحظات قبل أن يناديه.

أول شىء يفعله “صدق” بعد أن ينضم وابنته للأصدقاء أن ينفرد “بكذب”، ويقول له شيئًا سريًا، فيبتسم “كذب” تلك الابتسامة التى تخصّ “متعة”، ولا تظهر إلا عندما يراها أو يسمع اسمها، بينما يستعمل ابتسامة أخرى لبقية العالم.

“الملعب”، الكرات فى كل مكان، و”قسوة” و”سعادة” تقفان على حافة بركة ماء صغيرة تريدان الوصول لكرة تطفو بمنتصفها، وفى نفس الوقت لا تريد أىٌ منهما أن تبلل نفسها، ضحك “كذب” منهما وبللهما بتعليقات مضحكة، وقبل أن تجف عنهما التعليقات، كان “نور” قد دخل بركة الماء وعاد بالكرة يجففها بملابسهما، فتضحكان ولا تقاومانه.

ارتبكت شوارع وكائنات كثيرة داخل الكرة عندما ركلها “نور” تجاه “حزن”، الذى لعبها بكتفه مباشرة، فاشتعلت داخلها شمعة تمسكها شابة وحيدة، وانطلقت غزالات من بين أشجار غابة كثيفة، وعندما ضربها “موت” برأسه، انسكب أحد أنهارها فى بيت صغير، وأوشك على الغرق فيه، لكنه تمسك بإطار نافذة كبيرة، واستجمع كل قوته وقفز للشارع، وعندما وصلت الكرة “لصدق” تبادلها عدة مرات مع “كذب” قبل أن يدحرجها لابنته، فتؤدى معها عرضًا صغيرًا للمهارات، يتسبب فى مفاجآت كثيرة داخلها، وقبل أن تقرر لمن ترسلها، التقطتها “قسوة” من فوق رأسها وركلتها تجاه “سعادة”، التى تستقبلها بهدوء على صدرها وتريحها قليلاً، ثم تركلها بحركة بهلوانية تجاه “حنان”، إلا أن “خوف” يلتقطها فى منتصف المسافة، ويدفعها برفق تجاه “رحمة”، التى تركلها عاليًا بكل قوتها، ثم تجرى لأقرب جدار تكمل رسمها، فيتبعها “خوف” بالفرشاة والألوان.

ترتفع الكرة وتغيب عن عيونهم لحظات، تتغير فيها عوالمها عدة مرات قبل أن تعود إليهم، فيلعبون معها حتى يشعروا بالتعب، ويجلسوا حولها يراقبون مزيجها العجيب، وعندما يرى “حزن” المرأة التى يحمل لها مشاعر قوية، وهى تمشى فى ركن بعيد داخل الكرة، وتتجه للنهر لتستحم، يقفز هناك، ويتبعها كعادته دون أن تشعر به، فى حين يدخل “حب” ويقف عاريًا تحت مطر غزير، ويُلقى “موت” بنفسه فى شلال يعجبه، وتسرع ابنة “صدق” وتنضم لمجموعة من الصيادين يدفعون قاربًا جديدًا لأحد البحار هناك، فيلحق بها “صدق” ليحمسهم بصيحاته، ويضحك “كذب” وهو يدفع “قسوة” و”سعادة” داخل الكرة ويقفز خلفهما، وعندما تنظر “رحمة” من مكانها عند الجدار، وتلمح داخل الكرة لونًا كانت تبحث عنه، تقفز إليه، وخلفها يقفز “خوف” حريصًا على ألا يُسقط شيئًا من ألوانها.

كانوا جميعًا داخل الكرة عندما تأرجحت فى مكانها، بعد أن سقطت لعبة صغيرة من يد طفل يجرى فى أحد شوارعها، وعندما سقطت لعبة أخرى، تحركت وبدأ كل ما فيها يميل لبعضه البعض، وبلعبة ثالثة تحركت الكرة بشكل أسرع، وبدأت كل الألوان والمياه والكائنات تتماس وتسكب من بعضها لبعض، كأنما يتذوق كل منها الآخر ويتبرع له بجزء من حياته، ثم تسقط لعبة بعد أخرى من أيدى الأطفال كما لو أنهم يتعمدون، فتجرى الكرة، تجرى، وتمتزج العوالم، الكائنات، الأفكار، والمشاعر ببعضها بعضًا، ولا يتوقف اللعب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* من مجموعة قصص تلعب مع العالم

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم