عبد العزيز دياب
لم يكن ديوان “خازنة الماء” للشاعر فتحي عبد السميع مجرد قصائد مائية فقط، إنما تتجلي فى ثنياها مفردات كونية، يتم بها بناء لحم القصيدة.
“فوق الورقة”
كان الشاعر موفقاً أن تتصدر الديوان قصيدة “فوق الورقة” فهي تحمل بطاقة تعارف بين الشاعر والقارئ، أو قل بين الشاعر والمائية، بالأخري بين الشاعر والكون بأسره.
“نحن الشعراء/ أفراس خضراء/لكن الأفق أمام سنابكنا درقة/نحن الشعراء/عشاق فقراء/مسجدنا الليل”
يا لها من قريحة تضيف اللون الأخضر إلى الأفراس، هذا اللون بدلالته الكونية يضيفه إلى الأفراس ليقدم لنا منتجاً آخر يتمتع بقوة وجسارة الأفراس، يشير بدلالته إلى الخير والنماء، أي أنها الأفراس/الشعراء لا ترمح بفرسانها إلى المعارك والدم، إنما للبناء والخير والنماء.
هذا إضافة إلى تعبيرات شائكة، أتي بها صريحة جلية فى قوله “نحن الشعراء/عشاق فقراء، فالعشق ينهزم غالبا مع الفقر، لكن عندما يكون العاشق هو الشاعر يختلف الأمر كثيراً.
وتنفرط المفردات والصور فى “مسجدنا الليل” مكان العبادة والصلاة، ليتحول إلى مكان تمارس فيه عبادة وصلاة تخص الشعراء وحدهم، ويتم إنتاج الصور والتحليلات ليكتمل بناء القصيدة فى قوله:
“ننتظر النجم الطيب/نتمتم بالدعوات/ونلقف من كفيه الصدقة”، صدقة النجم الطيب للشعراء تتمثل فقط فى القصائد ومكوناتها من تعبيرات وصور.
“كيل”
ينتهي الشاعر من تقديم نفسه للقارئ والمسألة الكونية ويبدأ فى “الكيل”، وتتفجر الأسئلة: من يكيل لمن؟، هكذا يتساءل القارئ.
بوسع الشاعر أن يتساءل “هل طفح الكيل؟”، لتحدث النقلة الفنية فى القصدية، نقلة “سردية” تنتقل بالقصيدة بكل جمالياتها من بعدٍ إلى بعد آخر، وتبدو كأنها، كما يقولون “مثل صرعة درويش”
“ترحال”
“رمل/وهجير/وعيون متكالبة/ومضارب تعوي”
علاوة على المفردات الكونية لهذا المقطع/القصيدة أتي الشاعر بواو العطف فى بداية القصيدة تهيئة للقارئ، تأتي بعدها الصياغة المشهدية “تل يتطاول/تل يذوي” أتي بها لا شعوريا ليخفف من تجريدية القصيدة.
نلاحظ هنا أن الرمل، والهجير، والمضارب، والغزلان هي مفردات كونية، كما أنها من مفردات الصحراء التي تستدعي بالضرورة “الترحال”
“ليلي ومحاولات قيس جديد”
يبدأ القصيدة بطلب المستحيل: “حاولت أن أخطف النحل من جبة الريح”.
ليأتي قوله: “وحاولت غسل الرمال/ ولكني ما وجدت دماً” تشكيل للمفارقة والسخرية معا، وهو ما يطلق عليه فى السرد “الكوميديا السوداء”
وجاء تعبيره “ينام الجحيم على حجر ليلي” اقتران ليلي الحبيبة المعشوقة فى التراث العربي بالجحيم، وما يكتنفه هذا التعبير من دلالة.
“وأرسم خارطة للقاء”، أتي بمفردة “خارطة” بكل حمولتها ودلالتها السياسية، وهي التي صارت ضمن تكوين مصطلح “خارطة الطريق” فى فترة تاريخية لاحقة، مصطلح انشعل به العالم بعض الوقت.
“تلك الجمرة”
“خذ تلك الجمرة/وافرك أحداقك فى زخرفها”
فعل الأمر فى بداية الكلام العادي يختلف عن فعل الأمر فى بداية مقطع شعري، وعندما يكون هذا المقطع الشعري لقصيدة جيدة مثل هذه تتحق السخرية، المفارقة، والدهشة. الوظيفة الفيزيقية للجمرة معروف هى فى أى أمر تستخدم، لكنها فى القصيدة يكون الأمر مختلف، هي جمرة ليفرك بها متلقي القصيدة أحداقه.
إضافة إلى الكونية التي تتمتع بها القصيدة، يتخذ الشاعر من تكرار ذلك المقطع القصير “خذ تلك الجمرة” ليحدث نقلة على مستوي السرد ونقلة علي المستوي النفسي.
“خذ تلك الجمرة/واقرأ ما يتجمهر أسفل بشرتها/من قصص”، هي استراحة سردية وفك ركام التجريد العالق فى لحم القصيدة.
“خذ تلك الجمرة/ وادعك أعضائك جرحاً جرحاً/أين الرغبة فى خلخلة الدنيا”، وتنفرط الأسئلة من قبيل “أين القسم على كسر الحلكة؟/فى أي رماد بات جناحك؟/منذ متي وعظامك تنساب مولولة/بين الأحجار؟”، أسئلة وجودية يقذفها فى وجه القارىء المفترض.
“خازنة الماء”
فعل الأنسنة فى قصيدة خازنة الماء أهم ملمح فني فى القصيدة، خازنة الماء تتجول وتمشي
“أخيراً خازنة الماء على اليابسة/ها هي خازنة الماء/توارب أيقونتها/تتفقد هلوسة الشعبين/تدنو خازنة الماء/تتطلع خازنة الماء”
هذا إضافة إلى فنيات اخري: نزيف من الأسئلة يرشه فى منعطفات القصيدة، إلى جانب الحوار السردي، كل ذلك أضاف إلى فنية قصيدة “خازنة الماء” التي كانت متخمة بمفردات مائية، أو مقردات لها علاقة بالماء: توني، أزرع، اليابسة، الظمأ، صيد، يسيل، أعشاب.
وأظنني أسمع صرعة الدرويش بين حنايا القصائد، ذلك الدرويش الذى أتي به فى مقطع قصير “أنا أول درويش”، هو ذلك الدرويش الذى كان يحضرني منذ بدأت القراءة.