محمد العربي كرانة
المدينة الجاثمة فوق صخورها، المستكينة خلف أسوارها، المستسلمة لبحرها ورياحها، ولسمفونية نوارسها المحلقة فوقها، تخرج في بطء من سباتها الشتوي والربيعي. تنفض عنها غبار الكسل والرتابة، وتتفتح كأزاهير الربيع باعثة عبيرها نحو الآفاق. نشاط غريب يدب في أوصالها، يسري في عروقها، ويعم دروبها وأزقتها وقصبتها. وكالعروس ازينت وأظهرت مفاتنها، وقالت لزوارها هيت لكم.
وكالجراد استجابوا، ومن كل حدب وصوب وفدوا، فابتلعتهم حتى التخمة ثم مجت الباقي في الحدائق والدروب. من بابها الشمالي انطلق الموكب معلنا افتتاح الموسم، ازدحام على الأرصفة، والفرق الكناوية تترى في ثيابها المزركشة المختلفة الألوان والمزينة بأصداف “الودع”، كل فرقة بلونها وإيقاعها مزهوة.
في النوافذ نساء مزغردات وعلى السطوح رؤوس مشرئبة، وأصوات الطبول والقراقيب تصم الآذان ووميض الهواتف يخطف الأبصار… وأنا – ابن المدينة وكناويها – أمشي ضمن فرقتي متبخترا كالطاووس، عيناي ترصدان الرضا والتشجيع وتتغاضيان عن نظرات شزراء لفئة قليلة تراني والموسم تخديرا للعقول وهدرا للطاقات. في الساحة المجاورة للأسوار توقف الركب وانفرط عقده، وتبارت الفرق في إظهار مهاراتها كل على حدة، ضاربة للجميع موعدا غدا.
ليلة مرهقة، كتمت أنفاسي بكوابيسها وجعلتني أستيقظ مرارا مذعورا لاهثا، ناسيا تفاصيلها غير بقايا مذاق مر بالفم وارتعاش بالجسد. اتجهت صوب النافذة، متجاهلا نظرات التساؤل في عيني زوجتي، وفتحتها على مصراعيها، تيار بارد لفح وجهي محملا برذاذ البحر الهادر وراء الأسوار، وزقاق فارغ إلا من قطط تتنازع بقايا طعام وقد كسر مواؤها هدوء الليل.
ما كنه هذه الكوابيس؟ ولماذا في هذه الليلة بالضبط، وأنا أنتظر حدثا هاما في حياتي؟ أهو توجس أم خوف أم تعب بعد ساعات طوال قضيتها في الاستعداد لما ينتظرني غدا. أغلقت النافذة وعدت إلى الفراش، دفء الغطاء والتنفس المنتظم للزوجة ساعداني على أن أغرق في نوم بدأ خفيفا وسرعان ما صار عميقا.
دوائر هلامية تتراقص أمام عيني، تتمايل في سلاسة ذات اليمين وذات الشمال، تنصهر فيما بينها لتكون دائرة أكبر، مركزها يدور بسرعة جنونية ثم انقضت علي. صرخت بأعلى صوتي وقد اقشعر البدن. كانت صرخة صماء ماتت على الشفاه لما اقتحمت المادة الهلامية فمي وانتشرت في باقي الجسد. أهو كابوس آخر ينغص علي نومي؟ سأستيقظ .. لا بد أن أستيقظ.
فتحت عيني، ظلام دامس وعطر غريب، لا أثر للزوجة ولا للسرير ولا للغرفة، صوت هادئ، هامس مألوف جذبني كمغناطيس فتبعته، كلما اقتربت منه نأى، لكن وقعه المطمئن على نفسي، والفضول لمعرفة ماهيته جعلاني أتبعه بدون تردد، حتى أدركته. كان صوت دقات طبل طرق مسامعي يحمله الأثير على شكل موجات متقطعة تخفت حينا وتكبر أحيانا أخرى، آمرا إياي بالعودة الفورية.. فعدت.
كان الجميع متحلقا حول نار مشتعلة، الوجوه واجمة والأنظار شاخصة ترمقني بنظرات ملؤها التأنيب، وأنا وسط هذه الحلقة كالأسير… كلما اقتربت من محيطها صددت بنظرات كالسياط… ثم مزقت سكون الليل دقات الطبل، استجاب لها الجميع بهمهمات ذات إيقاع، كان لها في الجسد انعكاس، وفي النفس سحر. رغبة جامحة في التحرر والانعتاق انتابتني، تداعى لها الجسد برقص جنوني بلغ ذروته حين علت الوجوه المحيطة بي علامات الرضى، فسكت الطبل وخار الجسد.
تطهرت النفس من رواسبها، فسح الطريق أمامي، وبدون تردد توجهت نحو كوخ، أمامه امرأة عجوز فتحت ذراعيها واحتضنتني. وفي ذروة نشوة اللقاء وصفاء الروح، تعالت صرخات استنجاد، خيول جامحة تجوس خلال الديار، تخطف أرواحا وتستحيي أخرى، دماء، نار، دخان، دموع متحجرة في المآقي، وفي الفم تراب.. وأيدي تهزني هزا عنيفا. فتحت عيني فإذا بزوجتي تحاول إيقاظي وقد كست قسمات وجهها الحيرة والذهول.
حدث غريب، هد كيانا وفتت قناعات، وأنا الظان منذ الصبا بأني أعبر عن معاناة الأسلاف وشقائهم برقصي وغنائي. أتراني كنت فعلا أفعل ذلك؟ ربما.. برقصي -من حيث هو لغة للجسد عبر بها الإنسان منذ الأزل عن معاناته- أما الغناء… فمسألة فيها نظر. يبقى الإيقاع الخيط الرفيع الرابط بيننا وأسلافنا، به عبروا عندما عجزت اللغة عن ذلك. الإيقاع، الرقص، الجسد، الثلاثي السحري مرقاتي نحو السمو بنفسي عما اعترى شدو كناوة من ترهات وأحاديث وخرافات وشعوذة.
شعرت باختناق، وبحيرة كبيرة، أيعقل أن أتنكر لماض أفنيت عمرا في بنائه، ومجد أرفل الآن في نعمه، من أجل كوابيس اعترتني… أجدادنا ماتوا وانتهوا، ليس وحدهم من اضطهدوا، ثم لم أنكأ جراحا اندملت منذ أمد بعيد؟ … لن أحارب الطواحين ولن أسير ضد التيار، الشهرة تنتظرني غدا على الخشبة، واعتبار فننا تراثا إنسانيا هو في حد ذاته اعتذار ورد للاعتبار.
الكناوي سيدي ميمون… الكناوي
دقات الطبل تهز المكان، ينتشر صداها هادرا مزمجرا، يمسح الجموع المتجمهرة حول الخشبة، فيحيل سكينتها ارتعاشا راقصا، الأجساد تتمايل وكأن بها مسا، والأعناق تشرئب نحوي أنا الكناوي، أنا مركز الدائرة ، أنا سيد هذه الرؤوس المشرئبة.
شعور يملأني اعتزازا على الرغم من اعتيادي عليه، ولكنه اليوم مشوب بأسى وحزن دفين، أقطع الخشبة ذهابا وإيابا وأنا أحرك رأسي حركات خفيفة على إيقاع القراقيب..
الكناوي سيدي ميمون… الكناوي
إشارة من يدي أوقفت دقات الطبل وعم الصمت المكان، انطفأت الأنوار ما عدا دائرة من النور تتبعني حيثما اتجهت… الإيقاع، الرقص، الجسد، سمفونية لا تقاوم، هل تسمعون صوتي؟ لا جواب، المتجمهرون حولي لا يهمهم شخصي ولا معاناتي، لم تعد الخشبة لي وحدي بعد أن زاحمني عليها فنانون من كل الأصقاع، أتراهم حجوا من أجلي أو من أجلهم… أيها المتجمهرون ها أنا بينكم أرقص كالديك المذبوح ، هل تشعرون بألمي وحيرتي، وأنتم أيها الراقدون تحت التراب أتسمعون صوتي؟ هاكم جسدي مطية قربانا لأحزانكم وتطهيرا لأنفسكم، أعيدوه حيث الطمأنينة والأمان.
أهذا وقت هذيان؟ دائرة النور تجاوزتني ، وقوفي متسمرا في مكاني لم يكن متفقا عليه. تداركت الأمر بتحريك قراقبي بوتيرة سريعة.. طق… طق… احتوتني دائرة النور من جديد بينما تعالت رنات الهجهوج لتخفي ارتباكي. تماطلت في إعطاء الإشارة المتفق عليها لكي تنطلق دقات الطبل من جديد، معاكسا رغبة هذه الجموع في الرقص الجنوني.
في الصفوف الأمامية جلس الرسميون، بجوارهم مجموعة من السياح مسلحين بالآت التصوير في انتظار اللقطة المعبرة عني وعن هذا البلد الذي يتلذذ ببسط عريه أمام الجميع… طق.. طق… طق ثم أعطيت الإشارة، دقات الطبل تهز المكان والجموع، وجسدي يتمرد علي، ينخرط في رقص لا ضوابط له، القلب منطلقه ومنتهاه وغيره عدم، دماء، نار، دخان، وأيدي تستنجد بي وعيون خابية، آه لو تعلمون أيها الراقصون لرقصي ولا رقص، السامعون لطبلي ولا طبل، الباحثون عن الشهرة الرخيصة والمتع الزائفة، أي معنى لرقصي وطبلي…
طنجة في 22- 4- 2020
……………………..
* فرد من مجموعة موسيقية تراثية مغربية ذات أصول إفريقية.