د.عبد النور مزين*
في مقالته الشهيرة “دفاعا عن الشعر” التي نشرت سنة 1595، يرد الشاعر الإنجليزي السير فيليب سدني (1554-1586 ) على الهجمة الشرسة التي شنها مثقفو الكنيسة البيورتانية المحافظة على الشعر وصلت أوجها عندما هاجم استيفان غوصن في كتابة “مدرسة الرذيلة”، الشعر والشعراء. وكأن التاريخ يعيد نفسه بشكل ماكر منذ أفلاطون مرورا بعصر النهضة في إنجلترا وصولا عندنا مؤخرا عندما هاجم مسؤولون حكوميون الثقافة والمثقفين، ليصلوا أبعد من أفلاطون وغوصن.
هكذا مر ويمر الشعر بزمن المحن دوما على الرغم أنه من أرفع الانتاجات الذهنية وأسماها التي أنتجتها البشرية في سموها الجمالي والدلالي وإمكاناتها الحسية في التأثير النفسي العميق في النفس البشرية. هذا لأنها، كما أكد ذلك أرسطو في كتاب “الشعر”، تتمتع بقدرة هائلة على المحاكاة والايقاع اللذين يشكلان ميولا فطريا للإنسان في التفاعل معهما كمصدر للذة والسعادة. لذلك أكد السير فيليب سدني[1] في رده عبر إظهار دور الشعر في التربية والإسعاد: ” الشعر إذن هو فن التقليد، لأن أرسطو أطلق عليه Mimesis في كلمته ، أي تمثيل أو تزييف أو اكتشاف – للتحدث مجازيًا ، صورة تتحدث ؛ مع هذه الغاية ، للتعليم والإسعاد. “
إذن في الشعر “صورة تتحدث”. والشاعر محمد أحمد بنيس في ديوانه ” ندم أسفل اللوحة” جعل اللوحة أو الصورة بتعبير السير فيليب سيدني عنوانا لهذا الديوان إمعانا في التماهي التام مع مفهوم الكلام بالصور والبلاغة والرمز كأدوات للمحاكاة.
والعنوان “ندم” “أسفل” “اللوحة” مكون من ثلاث كلمات هي “المكان” و” المعنى” والحالة”. فإذا كان المكان “أسفل” محدد نوعا ما حتى بدون الغوص في رمزيته وأوضح منه حالة “ندم” بخلاف “اللوحة” التي تشكل الصورة أو تركيز الكلام أو الحديث بلغة سيدني.
والندم هو الشعور العاطفي الذي ينتاب الشخص عندما يشعر بالأسف أو الندم على فعلٍ قد تم أو لم يتم فعله. وقد يُشير الندم إلى أحد الأحاسيس الرئيسية، وهي التأمل في التجارب السابقة ومدى تأثيرها وكذلك طريقة التفكير وتصوُّر الحياة.
وال”أسفل” مكان يشير إلى الخارج بمعنى عدم الانتماء وهو مرادف للشعور بالعزلة والانفصال عن الواقع الخارجي الذي تجده إلى حد ما معترك الوجود الإنساني الذي صرنا في عزلتنا خارجين عنه مهما كنا قريبين منه، كعنوان للانشطار والانسلاخ عن الجمع أو الجموع. ليس خارجه فحسب بل أسفله بما ما قد تحيل إليه من دونية وعزلة مضاعفة.
“اللوحة” في تشكيلها وتلونها وصيرورة بنائها كرمز للحياة بمختلف جوانبها. اللوحة قد تكون تشكيلًا فنيًا أو تصويرًا رمزيا للواقع والتجارب الحية، سوآءا كمعنى مجازيا للحياة، أو للتجارب الشخصية التي ترسم مسار الإنسان وتؤثر فيه.
في المقطع الافتتاحي للقصيدة:
“الجميع لا يعنيه ما يحدثُ.
لكني، وبعثرة واحدة،
أجلس أسفل لوحةِ
نزفت حتى النهاية.
أبحث عن ملصق لحياة سابقة
قد لا أدرك منها شيئا .”
نستطيع أن نستشعر درجة التشظي، والتيه وعدم الرضا. إحساس تضافرت قوة الكلمات وما يوحي به معجمها من أجل صبغ مناخ ومزاج بداية القصيدة بهذا التكثيف في إشاعة الجو السلبي العام. كلمات مثل “لا يعنيه” ” عثرة” ، “أسفل” ، ” نزفت” ، “أبحث” ، “ملصق حياة سابقة ” و ” لا أدرك”.
في هذا المقطع من القصيدة يتم توجيه الانتباه إلى الشعور الشخصي الفريد في مواجهة الحياة والبحث عن معنى الذات والوقوف عند التجارب السابقة.
“الجميع لا يعنيه ما يحدثُ.”
يبدأ المقطع بجملة تُظهِر انغلاق وبعد الآخرين عن مشاعر المعني أي المتكلم، وعن تجاربه الشخصية. الجميع قد يكونون متجاهلين لتجاربه ومشاعره، وقد يعتبرونها تافهة أو غير ذات أهمية. هذه الجملة تعكس شعورًا بالعزلة وعدم الاتصال الحسي والسيكولوجي مع الآخرين.
“لكني، وبعثرة واحدة،
أجلس أسفل لوحةِ
نزفت حتى النهاية.”
تبدأ الجملة التالية بكلمة “لكني” مما يوحي بالاستفراد والفرادة. يُظهِر الشاعر عملية الانفصال والانغماس في التجربة الشخصية. الجلوس أسفل اللوحة يمكن أن يُفهَم رمزًا لتفكير الشاعر العميق والتأمل في التجارب والأحداث في انفصال عن الآخرين وعن تجارب الحياة السابقة. “نزفت حتى النهاية” هي صورة بصرية قوية تعكس إحساس الشاعر بالندم الذي يتجلى وينزف من داخله حتى النهاية.
“أبحث عن ملصق لحياة سابقة
قد لا أدرك منها شيئا.”
يستخدم الشاعر الصورة البصرية للبحث عن ملصق، وهو عبارة عن رمز لتجربة حياتية سابقة. البحث عن الملصق يُظهِر رغبة الشاعر في فهم وتحليل تلك التجارب السابقة وكشف النقاب عن المعنى الكامن وراءها. وتعبير “ملصق الحياة ” قد يوحي بنوع من الإحالة إلى الجمود والتسطيح بل نوع من الخرائطية من أجل الدراسة وليس من أجل اتجاذه كنموذج للتبني ، ومع ذلك، يعبِّر الشاعر عن عدم القدرة على فهمها بالكامل، مما يُظهِر الإحساس بالتراجع عن الفهم الكامل للتجارب السابقة.
أما في المقطع الثاني :
“ الجميع يعنيه ما يحدث هذه المرة.
غير أنسرب الريح الذي ارتطم بي
فجأة،
كان يلهث في كل لحظة،
كـأن يتسلق قدما تتدلى من صهوة
حصان،
وينحدر متنكرا في شكل مجوف
للغاية،
ثم يفتح الهواءَ،
ويتدحرج
إلى أن ينتهي به المطاف،
حيث يدخن الفرسان دموع أحذيتهم.”
يستعرض الشاعر مشهدًا ملحميًا يصف فيه حدثًا مهمًا ويُضفِي عليه دلالات رمزية. وعلى عكس المقطع السابق يحاول المتكلم أن يفهم تلك اللوحة/الحياة حيث يضفي عليها حسب فهمه لهذا العالم حيوية معينة وحركية مفاجئة تشبح الحياة في اندفاعاتها وحربيتها وذلك عبر معجم معارك مثل ” الريح”، ” ارتطم” ، ” يلهث” ، ” يتسلق” ، “صهوة” ، ” حصان” ، ” ينحدر متنكرا ” ، “يتدحرج” ، يدخن الفرسان دموع أحذيتهم” . غنها أجواء معركة منذ البداية إلى النهاية في إشارة إلى ذلك الملصق ، ملصق الحياة السابقة ، التي ترتسم أمامه في تلك اللوحة التي يجلس نادما أسفلها وهو يحاول تفسيرها كما يبدأ المقطع الثالث و الأخير:
“هكذا فهمت الأمر …
الجميع لا يعنيه ما يحدث..
لذا، سيكون من الطبيعي
أن أطفئ ندمي، وأروِّج لأخطاء الآخرين،
وأبدأ من حيث تنتهي الريشة. “
في هذا المقطع الثالث والأخير من القصيدة، يظهر المتكلم استنتاجه الشخصي ورؤيته للتجارب والصراعات التي واجهها.
“هكذا فهمت الأمر …”
تبدأ هذه الجملة بصيغة مؤكدة، مما يُظهِر أنه قد وصل إلى فهم واضح ونهائي للأمر. هنا، يكشف عن استنتاجه الشخصي بعد التفكير والتأمل في التجارب والأحداث.
“الجميع لا يعنيه ما يحدث..”
تكرر الجملة السابقة في المقطع، مما يعكس استمرارية الفكرة السابقة بأن الجميع قد لا يهتمون بتجاربه ومشاعره.
“لذا، سيكون من الطبيعي
أن أطفئ ندمي، وأروِّج لأخطاء الآخرين،
وأبدأ من حيث تنتهي الريشة.”
في هذه الجملة، يتخذ موقفًا قويًا بأنه سيُطفئ الندم الذي يشعر به ويبدأ من جديد. يُظهِر تحولًا نفسيًا بأنه لن يدع الندم يؤثر عليه بل سيتقبل أخطاء الآخرين ويستمر في رحلة الحياة. “أبدأ من حيث تنتهي الريشة”، في الكتابة والتعبير عن تجاربه الشخصية حتى نهايتها.
إن القصيدة في مجملها وقفة أسفل لوحة الحياة بكل قوتها وجبروتها من أجل محاولة قراءتها واستنباط المعنى والمغزى منها بالرغم من عزلتنا ودون وهم أو انخداع عن أنك قد تعني شيئا للحياة أو الآخرين. فهي حياتك وهي صراعك كالريح التي قد تداهمك فجأة لتفرض عليك معاركك الخاصة التي عليك أن تخوضها بمعزل عن الآخرين كاستمرار للحياة، من حيث انتهت الريشة في اللوحة السابقة لترسم لوحة لاحقة. هكذا تعلمنا القصيدة كيف نكتب بالصور لنتعلم ونسعد أيضا كما قالها في عصر النهضة السير فيليب سيدني وقبله أفلاطون وأرسطو.
فالشعر والقصيدة أبقى.
ولد الشاعر محمد أحمد بنيس سنة 1970 بمدينة تطوان، وهو حاصل على الدكتوراه في العلوم السياسية، سبق له إصدار ديوان بعنوان “بصحبة جبل أعمى”، ضمن منشورات وزارة الثقافة المغربية (2006) والذي نال به جائزة “الديوان الأول” التي يمنحها بيت الشعر في المغرب سنة 2007.
وقد ترجم الشاعر الديوان إلى الإسبانية وصدر لاحقا ضمن منشورات جامعة “سان خوسي” ومؤسسة بيت الشعر في كوستاريكا، ليتم تقديمه ضمن فعاليات المهرجان الدولي للشعر الذي احتضنته كوستاريكا في أكتوبر سنة 2013.
كما صدر لبنيس ديوان آخر تحت عنوان “ندم أسفل اللوحة”، عن “دار النشر والتوزيع” بالقاهرة سنة 2012.
…………………..
* طبيب أديب ومترجم، باحث في الديناميات الثقافية والهامش.
[1] : An Apology for Poetry, ” from Criticism: The Major Texts by Walter Jackson Bate ,
1952 by Harcourt Brace Jovanovich