“الكاتبات والوحدة”.. رحلة معاناة النساء المبدعات

نورا ناجي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. نيرمين خليل محمد

“الكاتبات والوحدة”، كتاب لنورا ناجي عن عشر كاتبات تنفذ من خلالهن لمنافذ إبداعهن وتميزهن الذي تبلور من خلال إحساسهن بالوحدة والانعزالية عن مجتمعهن، والظروف القاسية التي اقتسموها فيما بينهم، بالرغم من اختلاف البلدان والأزمنة التي ينتمين لها. تشاركن الوحدة.. هذا الإحساس الخفي المرهق على النفس وطال معظمهن، أو ربما الشرنقة التي وضعن أنفسهن فيها أو أجبرن على ذلك، وكيف ساعدت الظروف القاسية في خلق تحد أو كشف لأغوار النفوس التي تحيط بهن، فأصبحن أكثر شفافية ورؤية لمن حولهن.

ذاتية الكاتبة

اختلط الحكي بسرد ذاتي عن معاناة الكاتبة من هذا الإحساس الرمادي في غربتها، إلى أن وصلت لزمن (ميدان التحرير)، وتحولاته الفارقة والعميقة ببنية الفرد النفسية والمجتمع ككل، والمكاشفة التي بعدها تغير كل شيء ببر المحروسة.

وصفت نورا رحلتها بمعان تترجم إحساسها بصدق رغم قسوة تلك المشاعر  التي تشكلت بضبابية البلد الذي هاجرت إليه، فكان قرارها بالعودة لبلدتها الصغيرة ربما ترجع لها نفسها التائهة، وأيضا كانت صريحة وصادقة  في رسم مشاعر الأمومة المشوشة والحائرة ما بين الغريزة والفطرة وحب ابنتها الذي لا غبار عليه، ولكن في الوقت نفسه صارحت قراءها بثقل المهمة والمسئولية وحيرتها أمام تغير حالها،  ووضعت حقيقة وحدتها التي لا تنافي غريزة الأمومة داخلها، ومرارة ما تكشف لها بعد إعصار ميدان التحرير وما يجول بداخل نفس حائرة، فأصبحت جزءا من مجموعة الكاتبات اللائي تم اختيارهن لكي تقص لنا سيرهن الذاتية، قدمت ظروفهن القاسية ونفوسهن التائهة في إنتاج أدبي له طابع خاص، اختيار الكاتبة لتلك النماذج جاء ناجحا ففي كل نموذج كاتبة نقطة محيرة وتساؤلات حول سبب هذا النضال المرير لكي يواصلن الكتابة.

الوحدة هي تيمة هذا العمل التي جمعت بين بطلات الكتاب، ولم تنفصل الكاتبة عنهن بل هي معهن في بوتقة الوحدة، فأعطت الكتابة بعدا آخر لإحساسها الذي طالما تحيرت وربما تبرأت منه، وتقول نورا في هذا السياق الذي لخص فلسفة الكتاب وغاية الكاتبة منه: “الوحدة شرفة روحي، هي ما يظهر خارجي رغم امتلائي بالحياة من الداخل، والوحدة في نفس الوقت ونس، ليست بالضرورة جافة وفارغة، أحيانا تكون الوحدة مليئة بالحياة والموسيقى والكتابة والقراءة وأكواب الشاي الساخنة التي أشربها وحدي فأشعر أنني محاطة بالدفء”، وتؤكد المعنى فتقول: “بدأت الكتابة وأنا أتمنى لو ذابت وحدتي في وحدة الكاتبات، لكن ما حدث هو أن وحدتهن أحاطتني كحلقة أمان، كشرنقة دافئة، اكتشفت نفسي مرة أخرى، وأعدت النظر في تفاصيل كنت أحسب أنني نسيتها، اعترفت بأشياء لم أجرؤ على التصريح بها، وتفهمت لحظات ضعفي وحزني وقسوتي، تعاطفت مع جانبي المظلم، وتمكنت من إدراك معنى جديدا للحياة…”

في أثر إيمان مرسال وعنايات الزيات

بدأت الكاتبة بالحكي عن رحلة الشاعرة إيمان مرسال وهي تبحث في سراديب الكاتبة عنايات الزيات التي اختارت أن تهجر روحها جسدها المرهق المتلاشي ربما تصبح أكثر توهجا فيلاحظها من تجاهلها وهي جسد ينبض، فقضت إيمان أربع سنوات تبحث عن أثر عنايات بين الشوارع والبيوت والناس الذين عاشوا معها وتكلموا وتعاملوا معها إنسانيا، فكانت دائما غائبة بروحها التي اختارت أن تطلقها كعصفور يبحث عن حريته المقدسة، وتقول نورا إنها أحست أن عنايات قريبة منها، ووصفت مدى قربها بأنها تشعر باختراقها، وأنها طيف يحوم حولها يحثها على الكتابة واختراق الصمت المميت الذي يحيطها، كما كانت إيمان مرسال هي الأكثر انصهارا وتشابكا في حياة عنايات رغم اختلاف التفاصيل والزمن. حتى إحساس الأمومة والمصارحة المريرة صاحب إيمان ونورا وسبقتهما لتلك الحقيقة عنايات، فكما أن للأمومة مذاقها الفطري الخلاب، هناك وجه آخر للمعاناة والوحدة.

اختارت الكاتبة أن تفتتح كتابها بكاتبتين معا (إيمان وعنايات) ربما هما الأقرب لها وربما هما الأصدق في ترجمة زاوية الوحدة بحياة نورا، فلكل منا زاوية يمكن أن يطل منها نحو وحدته وألمه، فالوحدة عنوان واحد يمكن أن نروي من خلاله تجربتنا الذاتية بشكل مغاير كألوان قوس قزح، التي تخرج منه ألوان لا حصر لها عند امتزاج تلك الألوان، فالتجارب الإنسانية وما تصنعه نفوسنا يتناثر بينها الألم ولا غريب أن أشبها بالألوان فالحياة هي ألوان لعذابات البشر.

مي زيادة: والسعي إلي الكمال

عندما تجتمع عناصر الكمال أو الاقتراب من المثالية وهذا ينافي طبيعة وفطرة الحياة، تكون اللعنة محققة.

ولمي زيادة تجربة فريدة بالحياة، تقول نورا: “كانت مي تسعى إلى الكمال، وهو ما لم يكن في صالحها أبدا، تقول: “أنا امرأة قضيت حياتي بين قلمي وأدواتي وكتبي ودراساتي، وقد انصرفت بكل تفكيري إلى المثل الأعلى، وهذه الحياة “الأيدياليزم” أي المثالية التي حييتها جعلتني أجهل ما في البشر من دسائس”، وتتحدث نورا عن وجه تشابهها مع مي وعن تجربتها في البحث عن المثالية، وأيضا توحدها مع سيرة مي الذاتية ورؤيتها عن الحياة والحب، مي الجميلة بل الفريدة التي اجتمع عندها الجمال والمال والشهرة والثقافة.. يا لها من معادلة صعبة الفهم، علينا أن نصدقها فقط، ولكنها حقيقة مؤكدة متجسدة في شخص الكاتبة الرقيقة البديعة مي زيادة، أما الحب عند مي فهي تعيشه بكل صدق وإخلاص لمعنى الحب ذاته، وهذا ما قتل مي وسجنها بوحدتها، فتقول نورا: “الحب بالنسبة لمي هو فكرة مطلقة تسيطر عليها وتبقيها في حالة نشوة ما، لهذا لم تصد رسائل الغرام ولا كلمات الإعجاب من الجميع، بل كانت تترك الباب مواربا لهم جميعا”، وربما عبرت حالة عدم إخلاص مي لذوات محبيها وأحسوا أنهم يلعبون أدوارا ثانوية في حياتها، وأن البطل بالنسبة لها هو الحب ذاته وما يصحبه من وهج ودفء يملأ مي وتأنس به دونهم، ولذلك ماتت مي زيادة وحيدة شاحبه باردة على سريرها.

نوال السعداوي: التمرد سبيلها

تلك الكاتبة المثيرة للجدل وربما القلق أو حتى النكران والتي نعتت بالجنون ليس من الساسة والرجال بل أيضا من النساء، وربما بصورة أكثر ضراوة في الحكم عليها، تقول نورا: “قوة المرأة تخيف أشجع الرجال، ونوال اختارت طريقها من البداية، التمسك بقضيتها وأفكارها، حتى ولو كلفها ذلك انعزالها عن المجتمع، ووحدتها التي قبلت بها ثمنا زهيدا مقابل الحفاظ على هويتها”.

كان للكاتبة رأي في اختيار نوال وإصرارها على الكتابة رغم ما لاقته من هجوم وإقصاء وأيضا سجن وتشريد وعزلة، فقد كان ذلك هو السبيل في الحفاظ على ذاتها من التلاشي والضياع الحقيقي، وهو الملجأ والملاذ من مجتمع أنكر قوتها وصلابتها أمام تعنت ورجعية بعض المعتقدات وأحوال الناس التي لم تناسب العصر ولا حتى العقل، ولكنها صمدت إلى النهاية متمسكة بكل ما آمنت به، بصرف النظر عن ما جاءت به، وصمودها هو ـأمر يثير الإعجاب حقا.

أروى صالح: المبتسرون

تقول نورا: “تساءلت هل طاقة الحياة تنفذ حقا عند الكاتبات؟” هكذا كانت علاقة أروى بالموت واختياره والحياة، أروى صالح ليست من زمن بعيد عنا، فهي في الجوار بميدان التحرير، ربما تقابلنا في أحد مقاهي وسط البلد.  تحكي الكاتبة عن انهزامات المثقفين  وأروى أحد أولئك الشخصيات التي حلمت بعالم مثالي من غير ظلم، وانحازت فقط للإنسانية دون تنميط ولا إقصاء تقول نورا :” بعد عام 73، تبخر الحلم الذي كان قد قارب على التحقق، معظم الرفاق تشتتوا مندمجين داخل النظام نفسه، واكتشفت أروى أن المنشغلين بالقضية لم يكونوا مخلصين تماما كما كانت تتصور، وبالنسبة لحالمة مثالية، لا يوجد درجات رمادية في طبيعة البشر، لا يمكن أن تتفهم الابتعاد أو الضعف أو اليأس بأي معنى آخر سوى الخيانة، فبدا العالم وكأنه فرغ من معناه، زخم الحياة، والانشغال بهدف واحد، والإخلاص لقضية محددة، كل شيء تبخر، تاركا فراغا مؤلما في قلبها. عزلة وصمت واكتئاب وإحساس كبير بالغدر” في يوم 7 يونيو عام 1997م وضعت أرى صالح نهايتها وودعت الحياة بإلقاء نفسها من شرفة بناية في القاهرة، وغادرت دنيا طالما أحبتها بل عشقتها وفعلت الكثير لكي يصبح العالم أفضل. هكذا ظنت.

رضوى عاشور: الإحساس بالمسئولية تجاه العالم

لم تكن رضوى عاشور مثل الكاتبات الأخريات تواجه تهميشا أو حياة قاسية تدفعها دفعا للاكتئاب وإحساس الوحدة المؤلم، بل كانت امرأة شجاعة تلقي بنفسها في خضم الحياة والمسئوليات، لها من التقدير والحفاوة والاهتمام ما ينجيها من هوة الحزن والكآبة، تقول الكاتبة: “ثقل رضوى، حزنها أو اكتئابها، لم يكن مرتبطا بحياتها الشخصية قدر ما هو مرتبط بالأحداث العامة، هي تشعر طوال الوقت بمسئوليتها عن العالم والناس، لا تسامح نفسها لسقوطها أمام المرض الذي يمنعها من التواجد في الميدان مع الشباب الذين يتساقطون كل يوم، تسمع أخبار الموت والتعذيب والألم فلا تتمكن من النوم، حساسيتها الشديدة تجعلها مذنبة في نظر نفسها، لماذا يموتون هم وتعيش هي؟”، هكذا كان عذاب رضوي من النوع الإنساني وتحمل مسئولية أن لكل مثقف لديه من الوعي والإدراك أن يكون إصلاحيا بقدر المستطاع لكي يحمي تلك القلوب النقية الطاهرة التي طالما هي من تدفع ثمن بشاعة الحدث، رضوى عاشور كان ابتلاؤها بهشاشتها النفسية وإحساسها العالي بالمسئولية لأنها من ضمن طليعة المجتمع ورافعي راية الاستنارة. الكآبة والوحدة تأتي من أبواب عدة وليست بالضرورة وليدة شقاء مادي، ربما المعاناة تكمن بالروح وليس الجسد فقط الذي يأكله الفقر أو الإهمال والتهميش، وليست دائما الأحقية في الشهرة والمجد منجية من ظلام النفس والروح.

هكذا كانت حياة مجمل الكاتبات العربيات دون الأجانب اللواتي ذكرن بالكتاب، ليس تحيزا ولكن لأن حياتهن ومعاناتهن هي الأقرب لنا، فمهما توحدت المعاناة إلا أن لكل جانب من العالم خصوصيته وتفاصيله التي تميزه عن الجانب الآخر. الشرق يختلف عن الغرب حتى في عذاباته ومعاناته، فالإنسانية تجتمع بالمعاني وتميزها التفاصيل.

  

 

مقالات من نفس القسم