ربما هذا ما شعرت به مبكرًا أيضًا، منذ بداية تعرفي على كتابة ياسر في 2005 مع (قانون الوراثة) تلك الرواية التي ـ على الرغم من صغرها ـ إلا أنها كانت فارقة ولا تُنسى، تلك الرواية التي استطاع فيها “ياسر” أن يحكي عن ثلاث أجيال بالتفصيل في أقل من 100 صفحة!
لا يختلف الأمر كثيرًا مع (يونس في أحشاء الحوت) حينما تتحوَّل المذكرات اليومية والأحلام والحوادث العابرة إلى قصص مكتوبة بإحكام وشاعرية شديدتين، وفي ظني أن قدرة “ياسر” الأساسية تكمن في الإمساك باللقطة أو اللحظة الشاعرية في موقفٍ ما أو حدث ما وتفكيكه تمامًا لينسج منه تلك القصة الطويلة المتشعبة إلى مسارات مختلفة لكنها تنضم كلها مرة واحدة إلى بناءٍ متماسك وقوي ..
انظر مثلاً إلى (أروى على الهواء) .. حينما يبدأ المشهد باستدعاء الذكريات، منذ بداية تعرف السارد على “أروى” هذا، ثم تقاطعات الحياة بينهما فجأة، ويسير معك خطوة خطوة حتى تصل معه إلى موقف “أروى” وهو في بمنى الإذاعة على الهواء فعلاً، ما بين تعرفك ـ كقارئ ـ على “أروى” ووصولك بـ “أروى على الهواء” مسافة تقطعها في تفاصيل أخرى، تفاصيل مكتوبة بعناية تجعلك في “قلب الحدث” كما يقولون، ثم هو في النهاية مجرد رصدٍ عابر لذلك الموقف، تتجاوزه ببساطة، ولكنه مع ذلك يحتوي على مساحاتٍ عديدة للتأويل ..
ربما تبدو “الشاعرية” بشكل أكبر في قصة متصلة منفصلة في أجزائها الأربعة (أربع دراسات لضوء النهار) التي تتكون من تلك المقاطع التي تبدو عابرة وعادية جدًا (أسماءٌ سميتموها) ولقطة (حديقة الحيوان بالجيزة) ثم اللقطة الشاعرية الدالة جدًا في (إدوار) حينما يتحدث عن فيلم تسجيلي عن الروائي إدوار الخراط ويعجبه مشهد خروج إدوار (سائرًا سائر ا من عمق الشارع، على أن تواجهه الكاميرا الثابتة، بحيث تبدو العنابر على يمينه بينما هو يتقدم في الكادر قادما من بعيد تحت الرذاذ المتطاير. خلف المونيتور، بدا الخراط وقد جاوز الثمانين، بالشعر الأبيض على جانبي رأسه، وبمعطفه الأسود شيخاً شديد الوقار. وفي لحظة، بدت لي تلك المسيرة التي قطعها من نهاية الشارع لأوله بين أنقاض المخازن، تمثيلا رمزياً لمسيرته الأدبية بكل حمولتها الرومانتيكية، اختزالا جماليُا لها في لقطة واحدة) إلا أن المخرج في المونتاج النهائي للفيلم يسقط هذه اللقطة، فيبدو “ياسر” هنا خارجًا من عباءة الكاتب إلى الشاعر الذي أصرَّ أن يرصد المشهد ويوثقه للقراء ..ثم كذلك مشهد (تحت شجر السرو) ..
التعامل المختلف مع قصص المجموعة
! بإمكانك بعد الانتهاء من قراءةٍ أولى لـ (يونس في بطن الحوت) أن تعقد اتفاقًا بينك وبين نفسك، أن تكتب عن أشياء مشابهة لهذه التي تحدث عنها “ياسر” واستفاض، ستجد أن أكثر قصص المجموعة تمسك بشكل شخصي، لا سيما ما يخص المدرسة (ترتيب الأرفف) والعلاقات في الجامعة (لقاءات قريبة من النوع الرابع) وغيرهما، دع عنك قصصًا تتحدث عن رحلاته البعيدة (في مدينة التلال والنهرين) رغم أنه شديد الحرص على أن يربطها بالواقع (دور النشر) وعلاقاته بأصدقائه أو عائلته هنا حيث تحضر حكاية العائلة كأنها القصة الأصلية التي يحاول الكاتب مداراتها بتلك التفاصيل الأخرى، ولا تنس آخر سطرٍ فيها (تركت نفسي للطفو فوق الزمان والمكان)! يمكنك أن تترك نفسك هكذا لتتأمل مثلاً فكرة كـ (يونس في أحشاء الحوت) .. العنوان في حد ذاته ذكي وملهم، يستدعي عندي مثلاً كلمات أغنية (حوا وآدم( لـ نبيل خلف (لما اتقابلوا سوا ف الجنة ما عرفناش قالوا إيه لبعض) ذلك العالم الخفي الذي لم نعرف شيئًا عن تفاصيله، ولكنه صالح دومًا لأن يستثير فينا الخيال والكتابة، ويصلح في الوقت ذاته معادلاً موضوعيًا للكثير من المواقف الحياتيه، بيننا وبين الناس، أو بين الكاتب وعالمه، تقول مارجريت ديوراس:
(عندما يشرع الكاتب في الكتابة، يشعر بنفسه وحيدًا تمامًا في قاع حفرة، ويكتشف أن “الكتابة” وحدها سبيل الإنقاذ فأن يخلو ذهنك من أدنى موضوعٍ لكتاب أو أدنى فكرة لكتاب يعني أن تصبح بصدد كتاب، فتجد نفسك أمام فراغٍ شاسع الامتداد، كتاب محتمل الإنجاز، وترى أمامك شيئًا غير محدد المعالم شيئًا كالحياة، كتابة عارية وكأنك أمام شيء مرعب، لا يسعك التغلب عليه)
أليس هكذا تمامًا هو (يونس في أحشاء الحوت)؟ ولكن الكاتب يأخذك بعيدًا عمَّا قد يتبادر إلى ذهنك من هذا كله، ويسحبك رويدًا رويدًا بتفاصيله التي يبرع في وصفها حتى تقع معه في تلك “اللعبة” الافتراضية ليوهمنا بواقعية الحدث، ويصرفنا عن معادلها الموضوعي، وعن أزمة الكاتب وعلاقته بالعالم، تلك الحياة التي تلتهمه ليجد نفسه فيها وكأنه يجدف بلا وجاديف ويتحرك دون أن ينتقل من مكانه ..
ويبدو لي أن هذا التأويل قد ينسحب على كل قصص المجموعة..
إن البراعة التي يكتب بها “ياسر عبد اللطيف” تفاصيل كل قصة هي في ظني مكمن إبداعه، تلك التفاصيل التي لم تغب عنه ـ بالمناسبة ـ في روايته الأولى، والتي يبدو أنه يعد بالكثير منها في روايةٍ يعدها على مهل!