روبير فالزير
تقديم وترجمة: عثمان بن شقرون
تقديم:
في نصه القصير «الكاتب» (21 شتنبر 1907)، المقتطف من مجموعته L’enfant du bonheur، يقدّم روبير فالزير رؤية فريدة للكاتب، متجاوزًا صور العبقري الفردي السائد في عصره. فالكاتب عنده ليس مركز العالم، بل ظلًّا متحركًا في «شبه ظلّ متواضع»، يراقب ويلاحق، ويختبر كل شيء في العالم من حوله، مقدّمًا إيّاه بوصفه شخصية متناقضة تتراوح بين البطل الهامشي والجاسوس المُدان.
إن جوهر تجربة فالزير الكتابية تحدده الحركة الخفية نحو التلاشي الذاتي. فالكاتب، عنده، لا يشرع في الكتابة إلا ليشرع في فقدان ذاته: ما إن تُكتب الكلمة الأولى حتى يبدأ هذا الانحلال الهادئ، لينغمس بكل شغف في حياة الآخرين، في تفاصيلهم وتجاربهم مهما بدت صغيرة أو عابرة. وهكذا تتحول الملاحظة الدقيقة إلى أداته الأقوى؛ فهي في آن واحد وسيلة للإنصات إلى العالم وفضحه، قادرة على كشف براءته مثلما تميط اللثام عن سخافته وجماله الخفي.
هنا يكمن سبق فالزير على المفكرين اللاحقين: فالمفاهيم التي صاغها رولان بارت لاحقًا تحت اسم “موت المؤلف”، أو التي توسّع فيها موريس بلانشو عبر فكرة الانصهار الذاتي للكاتب في النص، كانت متجلية عند فالزير قبل أكثر من ستين عامًا من ظهورها النظري. فهو يقدّم الكاتب ككائن متعدد الهويات، متخفيًا ومراقبًا، يجمع بين التواضع والسخرية، وأحيانًا اللعنة والقدرة على كشف ما هو مخفي في العالم. ومن هذا المنظور، يبدو فالزير كمن يسبق هذه النظريات كلها: إذ يصوّر الكاتب كذات تفقد حدودها مع أول كلمة تُكتب، منغمسة في عالم الآخرين، بحيث تصبح الكتابة فعلًا حيًّا وديناميكيًا، لا مجرّد تسجيل أو تعبير عن الذات.
**
«الــكــاتــب»
يكتب الكاتب عمّا يشعر به، ويسمعه ويراه، أو عمّا يخطر بباله. عادةً ما يجد نفسه عرضة لسيل من الأفكار التافهة التي لا يستطيع أن يفعل بها شيئاً على الإطلاق، وهذا يجره إلى اليأس في كثير من الأحيان. وفي المقابل، قد يعتمل في ذهنه أحيانًا حشد من الأفكار صالحة للاستخدام، لكنه يحدث أن يترك هذه الثروات الذهنية بورًا لسنوات، إما لأنه لا يكتشفها، أو لأنه لا يجد في محيطه الشخصَ المخلص الذي يوجه انتباهه، بنكران ذات، إلى تلك الثروات المخفية.
في يوم من الأيام، قد يخطر ببال بعض الصحفيين الشرفاء أن يدعوا مثل هذا الكاتب إلى أن يرسل لهم، بين الفينة والأخرى، عيّنة من فنه. في مثل هذه الظروف، يبتهج الكاتب، ولديه بالفعل ما يبرر إظهار لبوس البهجة، فيسارع فورا إلى الاستجابة بأقصى قدر من الدقة للرغبات التي طرقت بابه الصغير. ولهذا الغرض، وقبل كل شيء، يشرع في تدليك جبهته، ويشدّ شعره — وهو الذي يمتلك عادةً تلاً غابويا بأكمله فوق رأسه — ويفرك أنفه بسبابته، وربما يحكّ نفسه قليلًا أيضًا، ويعضّ شفتيه، ويتظاهر بتعبير يوحي بالنشاط، لكنه يبدو في الوقت نفسه باردا ومتبلّدا، ينظّف قلمه، ويجلس كما ينبغي على كرسيه أمام طاولته العتيقة، يزفر تنهيدة، ثم يبدأ بالكتابة.
إن حياة الكاتب الصادق لها دائمًا وجهان: وجه في الظل ووجه في النور؛ ولها موضعان: موضع يجلس فيه وآخر يقف فيه؛ ولها درجتان: درجة أولى، ولكن أيضًا درجة رابعة كئيبة. إن مهنة الكاتب، وإن بدت في ظاهرها مسلية وأنيقة، قد تكون شاقةً للغاية، ومملة جداً في بعض الأحيان، وغالبًا ما تكون محفوفة بالمخاطر أيضًا فالجوع والبرد والعطش والبؤس والرطوبة والجفاف، هي ظواهر عرفتها كافة العصور التاريخية والثقافية في مسيرة « بطل القلم » الحافلة بالتناقضات. ومما لا شك فيه أن الأمر سيظل على هذا المنوال في المستقبل أيضاً. لكن من الصحيح أيضاً أن بعض الكتّاب قد جمعوا الثروات، وشيّدوا لأنفسهم في مناطق البحيرات فيلات تكاد تكون فخمة كالقصور، وعاشوا فيها حتى نهاية أيامهم في بهجة دائمة.حسناً، أولئك الكُتّاب تحديدًا، يستحقون ذلك بجدارة.
إن الكاتب الجدير بهذا اللقب هو رقيب وصياد وقنّاص، وباحث ومُسكتشِف؛ إذن هو نوع من «الفرسان» يترصّد فريسته باستمرار. ويعاين الأحداث، ويطارد غرائب العالم، يقتفي أثر الاستثنائي والحقيقي، ويصغي بانتباه ما إن يظن أنه سمع ضجيجاً ينبهه إلى اقتراب – ليس خيول الهنود الحمر الراكضة – بل انطباعات جديدة. إنه متأهب على الدوام، ومستعدٌ دوماً لشنّ هجوم مباغت. فإذا اقترب جمال ما — بريء وساذج، وربما مرتديًا زيّ فلاحة — يندفع الكاتب خارج مخبئه، وينقضّ على السيدة المتنزّهة وحدها، ليغرس في قلبها قلمه المضاء، المغموس في السمّ الفادح لموهبة الملاحظة.
لكنه ، في العموم، يدرك أيضًا ما هو دنيء ومروّع، ولا يخشى، وهو يكتب ويصف، أن ينتهك البراءة الطفولية؛ ولذلك، كما نعلم، فهو يستحقّ في الحقيقة أن يُزجّ به اليوم في السجن أكثر من أيّ وقت مضى. لقد دسَّ أنفه الفضولي، في لحظةٍ ما أو تحت ذريعةٍ ما، في كلّ شيء، ولا يزال يواصل النبش والتلصص. وهنا بالذات — هكذا يُظَنّ عادة — تكمن أسمى مهامّ الكاتب الماهر ذي الضمير. فهو يُبقي دائمًا مصراعا منخريه مشرعين على اتساعهما؛ يشمّ ويستنشق ويتقصّى ويقتفي الأثر، ويرى أن من واجبه أن يصقل حاسّة الشمّ لديه حتى يبلغ بها أعلى درجات الحدّة.
لا يعلم الكاتب كل شيء، فمن المعروف أن الآلهة وحدها هي التي تعلم كل شيء؛ ولكنه يعلم شيئاً يسيراً عن كل شيء، ويستشعر أموراً يفضّل جلالة الإمبراطور نفسه أن يغض الطرف عنها. لقد وُلِد وفي رأسه أعمدة تشوير تهديه دائمًا إلى الاتجاه التي ينبغي لعقله أن يسلكه كي يبصر ما يتنبّه إليه، بل وما يكاد يكون عصيًّا على الإدراك. إنه يهتم بكلّ ما يستحق أن يُعرَف ويُتعلَّم في هذه الدنيا، وهو على يقينٍ تام دائما بأن ذلك سيجلب له نفعًا وللآخرين على حد سواء. فإذا اختبر إثراءً داخلياً، ولو بمقدارٍ ضئيل، رأى لزامًا عليه أن يلقي على الورق هذا المزيد، هذا الفائض، وعلى الفور أيضاً؛ من غير أن ينتظر ثلاث ساعات ليقوم بذلك. أجد هذا جميلاً من جانبه. إنه بذلك يبرز أنه شخص منجذب بصدق نحو الخير، ويرى أنه من الظلم تكديس التجارب دون أن يعيد منها ولو أصغر جزء لمن يتنفسون إلى جواره. ومن ثَمَّ فهو نقيض الشحيح الجشع. فمن ذا الذي، في عصرنا المهووس بالملذات والمسارات المهنية، يمكنه أن يشعر بأنه خادم للإنسانية، والصديق الطيب للفقراء، إن لم يكن الكاتب؟ لديه ما يكفي من الأسباب الوجيهة ليكون كذلك، لأنه يدرك أنه لو ظلّ يدبّر شؤونه بدافع مصلحته الخاصة وحدها، لزالت المتعة التي يجدها في عمله الحيوي. هناك « شيء ما » غامض يحيط بشخصه يجبره على نسيان الذات. إنه يضحي بنفسه، فماذا تخبئ له الحياة؟ إذا كان الآخرون يضحكون حتى تلمع عيونهم بدموع صافية وجميلة، تراه هو واقفًا في شبه ظل متواضع، خائضا تماماً في واجبه الذي يهمس له: «ادرس هذه البهجة، وانقش في أعماقك تدرّجات هذا الفرح، لكي تستطيع، عندما تعود إلى بيتك، أن تصفها وتلوّنها بالكلمات».
في الحياة، يشير الكاتب إلى ما يُطلق عليه « شخص مثير للسخرية »، وهو على أي حال، يظل دائماً مجرد ظل، ودائماً على الهامش، في حين يمكن للآخرين أن ينعموا بالمتعة التي لا توصف لكونهم في المركز، وإذا لعب أي دور، فذلك لا يحدث إلا عندما يمسك بيده قلمه المثابر، أي بكل تحفظ شديد. هذه إذن هي المدرسة التي، على حساب شتى أنواع الحرمان والصدود المُهين، علّمته التواضع. خذ على سبيل المثال علاقاته بالنساء: هنا، الكاتب الجادّ، المستغرق في القضية التي يخدمها، يضطر إلى الحذر، إلى درجة غالبًا ما تكون محرجة تمامًا بالنسبة لسمعته كإنسان، وكذكر.
والآن، بدأت أتبين لماذا لا يتوانى الناس عن وصف الكاتب بـ« بطل القلم»؛ فهذا اللقب قد يبدو مبتذلا، لكنه صحيح فهو قادر على أن يختبر كل شيء في إحساساته: هنا يدفع العربة، وهناك نادل ومبارز ومغنٍّ وإسكافي، وسيدة مسنة، ومتسوّل وجنرال، ومتدرّب في بنك، وراقصة وأمّ وطفل وأب ودجّال ومخلوق وعاشقة. هو ضوء القمر وخرير النافورة، هو المطر، والحرارة في الشارع، والشاطئ، والشراع. هو الجائع والشبعان، هو المتباهي والواعظ، هو الريح والمال. يسقط على المنضدة مع قطعة الذهب في اللحظة التي يكتب فيها، وهي (كونتيسة بولندية) تحسب نصيبها. هو الاحمرار على خد المرأة التي تدرك أنها تحب، وهو الكراهية في قلب كاره بغيض، باختصار، هو كل شيء ويجب أن يكون كل شيء. ليس له سوى دين واحد، وشعور واحد، ورؤية واحدة للعالم: أن يتسلل إلى رؤية العالم والشعور والدين لدى الآخرين، لدى جميعهم إن أمكن، مع عناية حانية. لقد انمحى وجوده في كل مرة يكتب فيها الكلمة الأولى، وما إن ينسج الجملة الأولى حتى ينفصل عن ذاته. أعتقد أن هذا كله يمكن أن يجعله جديراً بالثناء…





