القوارض

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 10
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. رضا صالح

حكى لى وهو حزين:

” ابنى يهوى سماع الحواديت، وخصوصا حدوته المساء، كنت أثناء دراستى لا أحفظ النص؛ كما أنى لا أهوى القص، وأستطيع القول أن مخي فاضي؛ لم أكن أعبأ بالمستقبل أو الماضي؛ ولا أتذكر الحواديت؛ ولما كنت عائدا من الفرن حزينا ومخذولا؛ وجسمي بالعرق مبلولا؛ وقد شطتُ شياطا؛ وكدت أهرى نفسى بكاء وعياطا، فلم أشأ أن أنقل إليه ألمى؛ أو أبثه حزنى و همي؛ فضحكت فى وجهه ضحكة المكلوم، وأحسست لأول مرة أن وجود الأولاد قد يكون كارثة؛ بل أن وجودنا نحن هو عين الكارثة؛ لأننا نؤذى الدولة، ونكلفها ما لا طاقة لها به؛ ونزيد على كاهلها الأحمال الثقال؛ ونطلب منها العيش؛ وهى فى غنى عنا؛ وعلمت أنها تحزن كلما نظرت إلينا؛ قائلة بوجه عابس: أنا معكم..أنا معكم… ولكنها بعد قليل تهرب من وجوهنا؛ ولا يهمها أمرنا؛ وتنزعج عندما تعلم أننا مازلنا نعيش؛ ونبحث عن رغيف عيش.

***

استأنف حكايته بعد أن هرش رأسه؛ قائلا:

سرحت مع ابنى؛ وقدّرني الله؛ فقلت له: كان يا ما كان؛ في قديم العصر وسالف الأوان، ولا يحلى الكلام إلا بذكر النبى عليه الصلاة والسلام، كان هناك تحت الشمس بلد واسع وجميل، شمسه رائعة طول العام؛ وهواءه متجدد على الدوام؛ تحده البحار، وتجرى فى أراضيه أطول الأنهار؛ بالخيرات ملىء؛ ولكن شيوخ المنسر كانت تروح به وتجئ.

تطل على إحدى بحاره مدينة ساحرة؛ سمعت أنه قد وصلت يوما إلى ساحل تلك المدينة أحلى وأضخم باخرة؛ كانت تحمل أطنانا من الدقيق والغلة، معونة لنا من بلاد تجارينا فى اللغة والملة، أرسلها لنا أمير طيب؛ عملا بالآية الكريمة ” إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا؛ إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا” أرسلها حتى لا يسأم العباد الحياة، ويكرهونها، من جراء الوقوف ليل نهار أمام المخابز الشعبية؛ فى انتظار لقمة العيش الأساسية؛ التي كان منتهى أملهم أن تكون هنية، ويطلبون من ربهم ليل نهار أن يرزقهم حسن الخاتمة، لأنهم تيقنوا أخيرا أن هذا العالم ليس مرتعا لأمثالهم، وأنهم أهل للآخرة، وتأكدوا من أن الدنيا نار المؤمن وجنة الكافر، وأن لهم جنة الخلد إن شاء الله آمين.

***

احتار الحاكم فى هذه الكميات الهائلة من الدقيق والحنطة، وأراد أن يجعل لتوزيعها خطة، وراح يسأل حاشيته عن كيفية الوصول بها إلى بر الأمان؛ دون أن يشكو أحد من الحرمان. أشك أنه لا يدرى أن بلدنا معظم إداراتها لا تملك فكرا ولا خطة، وتنفذ المشاريع كما تسير البطة، و حسبما يشير عليهم أصحاب المصالح والرأسمال؛ ويهملون كلام المفكرين والمديرين والكبراء..

وأثناء سيره يوما؛ رأى الحاكم الناس تتدافع وتملأ الطريق، فسأل ياوره عما يرى، فقال له:

إنهم يا سيدي يقفون فى طابور العيش..

رد الحاكم:

ولم لا تفتحوا لهم الصوامع وترسلوا للأفران ما يكفى من الدقيق؟

نظر له الياور نظرة ذات معنى، وقال له:

يا سيدى هؤلاء البشر لا يملأ عيونهم سوى التراب، انظر إلى هذه الواقفة هناك، إنها تأتى من

أطراف المدينة كى تزيد الطين بللا؛ وتعيث فسادا وتلفا، فهى يا مولاى تشترى الخبز للحيوانات علفا..

تعجب الحاكم؛ وأبدى الأسى وقال بحسرة:

سيدة ليس عندها ضمير..

قال الياور:

يا سيدى الاقتصاد الحر طعمه فى بلدنا مر؛ والسوق عرض وطلب؛ والعلف أغلى من العيش، فماذا يفعل الفلاح؟

هرش الحاكم رأسه وقال:

عندى فكرة؛ نعطى للناس كوبونات يصرفون بها العيش

رد الياور:

ولكن هناك ناس ليس لديهم بطاقات تموينية

رد الحكيم:

يا سيدى لدى فكرة، تسد على الشيطان ثغرة؛ أقولها لكم – إذا سمحتم لى – و أمرى إلى الله

قال الحاكم:

وماهى يا حكيم؟

قال الحكيم:

يا سيدى لا يصح إلا الصحيح؛ فلا يجوز أن تباع سلعة واحدة بأكثر من ثمن، وقد نهت الأديان عن الكيل بمكيالين، ودعك من العواطف الرهيفة،فهى مدخل لذوى الضمائر الضعيفة؛ تدفعهم دفعا لبيع الدقيق بالجوالات؛ وقبض ثمنه فى الحال بالآلاف والمئات؛ وخصوصا أن الدولة هى القدوة، فما بالك يا سيدى بالمواطن العادى ؟

تساءل الحاكم بتهكم:

والفقير الفقير..ماذا يفعل يا فيلسوف الغبراء؟

رد الرجل:

لابد من إلغاء الدعم؛ وليس معنى هذا أن تأخذ الدولة فلوسه وتنام عليها، ولكن ترفع به الأجور،ويبدأ المرتب بألف؛ وهو يساوى فى بلاد الحبيب أقل من سبعمائة، وهو مبلغ لا يرضى به كناس بنجلايشى عدمان؛ أو خادم هندى غلبان؛ وعلينا يا سيدى أن نستفيد من تاريخنا؛ ونفعل كما فعل محمد على وإسماعيل وناصر والسادات؛ ونشق الترع و الطرقات؛ وننشىء المدن الجديدة والمدارس والمستشفيات؛ وجميع أماكن الخدمات؛ ومن الممكن أن نضاعف سعر الرغيف؛ ونمنع الازدواجية فى المعاملة؛ وكذا نلغى كل القوانين الاستثنائية؛حتى لا نفتح خروما للأفاقين والحرامية؛ لأنك لو وضعت أى فقير مكان صاحب الفرن لباع الدقيق بيعا، وهل يجرم البيع والشراء إلا إذا كان هناك خلل؟

وفى نفس الوقت نقلل شرائح الجباية فى شتى مصالح الدولة، كالضرائب والعوائد والدمغات وغيرها، ونيسر على الناس سبل المعاش؛ نزيد وسائل المواصلات ونحسن أنواعها؛ لتشعر الناس أنها بشر؛ ونساعدهم على الوصول إلى أعمالهم ومصالحهم دون ملل أو كدر…

***

تململ الحاكم قائلا:

وماذا يفعل أصحاب المهن الحرة والذين لا راتب لهم يا حكيم؟

العاجزون أمامهم الشئون الاجتماعية؛ ففيها الخير للبرية؛ والباقون لا تخف عليهم يا سيدي؛ ولا تلتفت إلى من يحاول إقناعك بأنهم حجة للإبقاء على الدعم؛ من المؤكد أنكم سمعتم عن نظرية الأواني المستطرقة! هؤلاء يتشممون رائحة السوق؛ ويرفعون أسعارهم ويخفضونها حسب العرض والطلب.

***

أتى الحاكم بحركة؛ كمن ألقى بحجر في بِركة؛ وقال:

أفكر فى توزيع الدقيق بالمجان..

تفتق ذهن داهية من الدواهى المحيطة؛ بكل كبيرة وبسيطة؛ عن كلمة يراءى بها الحاكم، ويداهنه ويجعله فى يده كالخاتم، قائلا له:

يا سيدى.. أحب أن أقول لكم قولا، إن سمعته سوف تفوز؛ ونفوز جميعا..

تساءل الحاكم منشرحا:

وما هو؟

أردت أن أحذرك من توزيع الدقيق والحنطة على الناس بالمجان، فإنهم قد يتعودوا على ذلك ويدسوا رؤوسهم فى كل شان؛ ويظنوا أن كل شىء يؤخذ هكذا ببساطة،إنهم إن أحسوا ذلك سوف يتفرغوا لمهاجمتنا؛ والوقوف لنا بالمرصاد؛ وسوف يفتحون آذانهم وأعينهم، وقد لا نجد سبيلا إلى ملاحقة طلباتهم وسدها والوفاء بها.

وماذا نفعل؟

شىء يسبط ياسيدى، أبسط مما تتصور

شوقتنى إليه، ما هو؟

تململ الداهية؛ وقال:

نشيع فى المدينة أن السفينة وقفت بالميناء وتعطلت مراوحها ومواتيرها، لأن الفئران قد ملأتها، وتخللت كل ركن فيها؛ ولم تترك مكانا إلا ولجته؛ ولا شيئا يؤكل إلا وقضت عليه..

ولابد طبعا من أن تسمن الفئران وتتضخم؛ وتزيد أحجامها عن المعقول، وقد نسفت الحمولة كلها، وعندما لم تجد شيئا يؤكل؛ قفزت إلى الميناء فى جماعات رهيبة العدد؛ وتسللت تحت جنح الظلام دون إذن أو تصريح، للتوغل فى أنحاء المدينة، وتقرض كل ما يصادفها قرضا وتعيث فيها فسادا..

وبذلك نتخلص من طلبات الناس ومضايقاتهم..

***

هرش الحاكم رأسه، وسرح بفكره، توجه ببصره إلى الداهية، وسأله:

وكيف لنا أن ننفذ ذلك؟

بسيطة، نتوجه الى معامل الأبحاث، وأقسام المكافحة، ونناشدهم أن يطلقوا ما فى محابسهم وحوزتهم من فئران للتجارب، و خصوصا السمين منها، السريع التكاثر؛ حتى تملأ المدينة فى أيام وتتخلل شوارعها وحواريها وميادينها، ويصدق الناس ما قيل، وبعد أن يمر الأمر بسلام، ندفع بالمعونة إلى الجمعيات الاستهلاكية أو نبيعها فى المزادات الفلكية، لكبار التجار؛ وبذلك يبعد عنا شر ذلك الأمر؛ ونذوق ثمار جهدنا كأحلى من التمر؛ بعد أن نطلع علي الناس بخطبة من الكلام المعسول؛ حتى لا يطمع فينا عاطل ولا كسول..

أعجب الحاكم بالكلام وقال ضاحكا:

وكفى الله الشر..

***

امتثل الرجل للأمر، وعرضه على أعضاء الحاشية والكبراء، فوافقوا كعادتهم بلا استثناء؛ وحبذوا الفكرة وتضاحكوا عليها بالرغم من أنهم لم يفكروا فيها؛ ولم يكلفوا خاطرهم بالاعتراض عليها لما يشوبها من نقص فادح؛ و ما يعتريها من بهتان واضح، لأنهم تعودوا على الإذعان ومجاراة الحاكم فيما يقول؛ مادامت رواتبهم وحوافزهم وبدلاتهم سائرة، و كروشهم بألوان الطعام عامرة؛ ومصالحهم لم يمسها سوء، فما الضرر إذن؟ بالرغم من أنهم قد لا يؤمنون بما أتخذ من قرارات؛ إلا أن لسان حالهم يقول:

إلى الجحيم يا حبيبي؛ خراب يا دنيا عمار يا جيبي…

***

مرت الأيام والأسابيع، وتكاثرت الجرذان وانطلقت تعيث فى شوارع المدينة فسادا، ولم يقدر أحد على التحكم فيها، وهرول أصحاب مصانع الأغذية والمعلبات؛ و مزارع ومحطات التسمين إلى الحكومة يزأرون بالشكوى، وجلهم يشغلون المناصب القيادية العليا؛ فهم أعضاء الحكومة أنفسهم، الذين وافقوا على الاقتراح؛ وأداروا ظهورهم للحقيقة؛ حتى لا يفتح عليهم نيران عدوّة أو صديقة؛ وتخيلوا أنه لا علاقة لهم بمن جاء وراح؛ عملا بالمثل القائل: الباب الذى يجىء لك منه الريح؛ سده وأستريح..

***

أشاع الخبثاء من ذوى الحس الرقيع، والنوايا الخبيثة، أن الحاكم اعتزل، وضعف بدنه وهزل؛ وزعم آخرون أنه اختبأ لحزن أصابه وكمد ألم به لما حاق به من أضرار عظيمة، أصابت زراعته ومصانعه فى مقتل؛ وتضاعفت خسائره، وجاءت الأخبار فى الميديا عن القوارض؛ فسألنى ابني:

ما القوارض يا أبى؟

قلت:

أغلب الظن هى التى تأكل كل شىء أمامها؛ ولا تستحى من القضاء على طعام الفقراء؛ وتأخذ كل سفينة غصبا..

قال:

لم أفهم يا أبى..

أردفت:

هى التى قد نراها تجرى هنا وهناك؛ ولكننا فى الغالب لا نستطيع أن نراها؛ ولا نحيك الشباك حولها لأنها سريعة التأقلم؛ ولها فوق هذا وذاك ذكاء مذهل؛ تعمل دائما فى الظلام والناس نيام؛ وتجيد فن الاختباء، والبعض منها يشكوه الناس إلى مليك مقتدر؛ لأنه كذاب أشر؛ لا يعيه أو يهمه الظهور بليل أو نهار؛ فهو من الفجار الأشرار؛ يلوك كلاما لا يعنيه؛ لأنه تمكن من حماية نفسه؛ ولا يفكر فى هروب؛ لأن لديه من القوة مسالك ودروب..”

***

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال