القعيد اسمه غوركي !
يا يوسف اكتب عما تعرف
في يوم الاثنين 21 أيلول 2015 نشر السيد المحترم يوسف القعيد مقالته، "مذكرات زوجة دوستويفسكي"، في صدر الصفحة 11 بصحيفة "الأهرام" الغراء – هكذا يقولون- ولقد تأبطتُ الصحيفة طويلا قبل أن أقرأها في المساء، لأنني ظهيرة ذلك اليوم، كنت في مقهى "زهرة البستان" بوسط المدينة. كنا خمسة تقريبا، وكان كل الحضور يتندرون على أخطاء قوميسير التربية والتعليم الذي يقلب رغم أنفه الزاي ذالاً، والذال زايا، ويضع النون مكان التنوين من دون قصد، وبقصد يضعه رؤساؤه مكان طه حسين ومحمد حلمي مراد، فيتشجع ويتطاول ويجلس على كرسي طه حسين ومحمد حلمي مراد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
تحينتُ الفرصة واتكأتُ على نفسي واندمجتُ راغباً في تحويل الدخان الأسود إلى فرح شعبي، وتعمدتُ أن أطرب كأنني عاشق فأنصتُّ إلى مكاوي سعيد الذي سمعته يصوّب أغنية زكريا أحمد، "يا صلاة الزين يا صلاة الزين"، ويغنيها هكذا: "يا صلاة الذال، يا صلاة الذال"، وظللتُ حتى بعد انتهائي من قراءة مقالة القعيد في المساء، ظللتُ أردد الأغنية طوال الأسبوع، إلى أن انقطع نَفَسي وزالت دهشتي وأصبحتُ عاجزا عن الاستمرار، واكتشفتُ أن عجزي ليس سببه غزارة وجوه الشبه بين القوميسير والقعيد، وإنما سببه إدراكي فجأة أن التقويم الذي تجري عليه حياتنا هو أحد اختراعات يوسف. في الأسبوع سبعة ايام، لذا شرعتُ في ترتيب الحوادث التي مررتُ بها، وكانت قليلة، وفي ترتيب عواقبها، وكانت أكثر، وذلك على ضوء تقويم الأستاذ الذي ترك لنا حرية اختيار أسماء أيامنا. ولما انقضت سبعة أيام أخرى، نظرتُ إلى المرآة، فاكتشفتُ أنني بلعتُ لساني الطويل من دون أن أشعر. ساعتها قيل لي: لا يحدث هذا إلا بسحر القراءة، وأنا في الحقيقة لم أفعل طوال هذه المدة غير العكوف على مقالة الأستاذ، قرأتُها من جميع الجهات، من أعلى إلى أسفل، ومن أسفل إلى أعلى، ومن الجانبين، ونظرتُ إلى خرومها لأسرق ما أخفاه الأستاذ، لكنني لم أجد شيئا، ومع ذلك لم أستطع أن أمنع هروب كلماته من رأسي. الأدهى أنها كانت تصر على ألاّ تغادر بمفردها. كانت تسحب معها كلمات الآخرين. وخشية أن أفلس تماماً، سألتُ نفسي: هل أنا حقا مضطر إلى هذه القراءات؟ وقبل أن أقول لا، سمعتُ شيطاني الوقح يوسوس: نعم أنت مضطر، فسألتُ نفسي ثانية: هل أنا حقاً مضطر إلى الكتابة عنها لمجاراتها والرد عليها؟ لكن شيطاني اختفى وتركني أجيب بنفسي. وانطلاقا من وحدتي، نما بداخلي إحساس طاغٍ بأنني أجلس وحدي مثل رجل مسخوط يعاني بشدة في سبيل كتابة مقالته ويستعين أولاً باستدعاء عدد فائق من الكتّاب المساكين الحيارى، ويكتب أسماءهم على ورقة فولسكاب: المازني وزكي مبارك ويحيى حقي وابرهيم أصلان ومحمد البساطي وعبد الحكيم قاسم ويحيى الطاهر عبدالله ويوسف إدريس ويوسف الشاروني وفتحي غانم وإدوار الخراط وغالب هلسا ومحمد خضير وزكريا تامر وسعيد حورانية وعبد السلام العجيلي وحسن داود وهدى بركات والطيب صالح وعبد العزيز بركه ساكن وسليم بركات وفاضل العزاوي... الخ الخ، ويفكر كيف كانوا يعانون عندما يشرعون في البحث عن قالب، وعن معنى، وعن قرين، وعن عدو، وعن بطل، وعن إله، وعن زمن غير زماننا. وبقدر المعاناة التي يعانونها كانوا يلجأون إلى التأملات أحياناً، وإلى الأحلام أحيانا، وإلى آفة التنقيب في الكتب غالبا، وقد يرتبكون ويسخطون على أنفسهم، وعلى بعض ما حاولوا إنجازه، وقد لا يصلون في النهاية، وقد لا يصلون أبدا، وقد يقولون لأنفسهم: الكل باطل وقبض ريح، وقد ييأسون، لكنهم سيعودون ويعاودون، كأنهم أولاد سيزيف. ها إنني أجلس وحدي مثل رجل مسخوط يعاني بشدة، ويستعين ثانيا باستدعاء عدد أكبر من الكتبة الراسخين الأقوياء ذوي البأس، وعلى ورقة فولسكاب يحاول أن يكتب أسماءهم، فيعجز إلا عن تكرار اسم يوسف القعيد يوسف القعيد يوسف القعيد. هؤلاء الكتبة يعمدون إلى طريقتهم المثلى المسمّاة بالكتابة الآلية، التي ليست كما أرادها أندره بروتون وجورج حنين والآباء السورياليون، ولا كما أرادها الشطّار والعيّارون والغاوون، ولكن كما أرادها أهل الخطوة، أهل الحل والعقد، والتي بسبب خيلاء أصحابها وزهوهم، عرفنا أنها كتابة صرفة تشترط عدم التـأهب للكتابة، لا بالقراءة ولا بالتفكير ولا بالجوع ولا بالانتظار. يكفي أن تجعل قلمك أسرع من قلبك وعقلك ولسانك. يكفي أن تجعله مقطوع الصلة بثلاثتهم، أن تجعله تحت أسنانك، بالضبط تحت ضرسك، لأنك ستكتب كرسول ملهم لا يعرف اليأس. وإذا امتلأت مقالتك بأخطاء اللغة: التهجئة والنحو والصرف، وأخطاء المعرفة: المعلومات والوثائق وسوء الفهم، وأخطاء الروح: السطحية والثقل والجلافة، فلا تعبأ. لأنه ليس من الواجب أن تنسب هذه الأخطاء إلى الكاتب. إنها، وهذا ما نعلمه جميعا أخطاء الطريقة، طريقة يوسف وإخوته. ومع قراءتي الأخيرة لمقالة يوسف (مذكرات زوجة دوستويفسكي) دخلتُ مدينة الأخطاء مجدداً، ولما استرخيتُ، تذكرتُ كيف عرفت يوسف للمرة الأولى. أيامها كنت عاشقا أستكشف العالم، وأقرأ كل ما يقع في يدي، وبالمصادفة التقطت يدي روايته "أيام الجفاف"، التي شغلني بطلها، الذي كان مدرّساً وحيدا في قرية لم تستطع احتضانه وإزالة وحشته، مما دفعه إلى كتابة رسائل حب إلى نفسه، وتفنن في إرسالها بريديا من أماكن بعيدة. أحببتُ "أيام الجفاف". كانت هشة ونقية وبريئة. في ما بعد قرأتُ له روايتين أخريين قبل روايته "الحرب في بر مصر" التي أصبحت فيلم "المواطن المصري". نفرتُ من الروايات والفيلم، لأنها فقدت الهشاشة والنقاء والبراءة، فظهرت كل عيوبها جلية. وانقطعتُ عن متابعته كأنني لا أعرفه، لولا المقالات التي يكتبها، والحقيقة أنني لم أطارد مقالاته قبل أن يبدأ النشر في "الأهرام"، والحقيقة أيضا أن سياقاً جديدا شمل القعيد وسواه في سنوات "الأهرام" الاخيرة يختلف عن السياق الذي عرفته في السبعينات حيث كنت أسمّي الأيام بأسماء الكتّاب: الثلثاء زكي نجيب محمود، الأربعاء عبد الرحمن الشرقاوي، الخميس يوسف جوهر، الجمعة بنت الشاطئ، السبت لويس عوض، والأحد توفيق الحكيم، والإثنين يوسف إدريس. في ما بعد أصبحت الأيام بلا أسماء. في السياق الأول كنت أتجاهل فقط يومي الخميس والجمعة، وفي السياق الثاني أكاد أتجاهل الأيام كلها، باستثناء جلال أمين على رغم أنه يبحث عن خلاصه بقارب من فلّين، فيما اكتشفتُ أن قارب خلاصي ضاع. مقالات السياق الأول كانت أشبه بالتأسيس. مقالات السياق الأخير أشبه بالفرجة، فرجة بلا سياق، مما جعل يوسف القعيد يظن أنها فرجة ما بعد حداثية، ويفرح، وخصوصاً أن روح كتابته ظلت دائما عامية، أعني وليست شعبية، أكثر منها مثقفة، وأنها ذات طبيعة شفاهية أكثر من طبيعتها الكتابية، كأن صاحبها لا يعرف الكتابة. أحدهم، وكان يميل إلى السياسة أكثر، قال لي: رئيسا فرنسا ديغول وميتران كانا يقفان على قمة الجبل، فيما ظل الرئيسان الأخيران ساركوزي وهولاند يقفان تحت السفح، فأجبته: نعم، هذان للتأسيس، وهذان للفرجة. فاستطرد، بن غوريون ونتنياهو، محمد الخامس ومحمد السادس، بومدين وبوتفليقة، بورقيبة والسبسي، ثم سكت فجأة كأنه يفكر، ثم قال: نجيب محفوظ واسماعيل ولي الدين، عبد الرحمن الشرقاوي ويوسف القعيد. وانصرف. كان الكتّاب السبعة في السياق القديم علامة "الأهرام" المائية، ولاؤهم خلفهم أو تحتهم. إنه، أي الولاء، موجود وجود الظل. في السياق الأخير، الكتّاب كأنهم بلا أسماء، ولاؤهم أمامهم أو فوقهم. إنهم، هم، موجودون وجود الظلال، مما أربكهم جميعا. فعلاء الديب الذي أحبه حقاً، صار بابا نويل يوزع هداياه على الجميع، وخصوصاً غير المستحقين، فأصبحوا شعبه. خليل كلفت، يا هواي عليك يا خليل، يخلع صليبه الأحمر أحيانا، ويلبسه أحيانا، وفي الحالتين يضيع. لن تستطيع أن تصدّق أن أحمد حجازي لا يشبه محمد صبحي الممثل. في الظاهر، ومن الأعماق. جابر عصفور رأسه غاطس حتى صدره تحت ثلوج التنوير، إذا أخرج رأسه، استهان، وعمل كمؤرخ أدبي، فهي مهنة شائعة، وأهمل أعماله في نظرية الأدب. أما يوسف، وأكاد أظنه معذوراً لأنه محفوف بهؤلاء الأعلى كثيرا من يوسف قدرا ومكانة، أعود وأقول: أما يوسف فكتاباته كلها تحيات وتهنئات وتعاز وأعياد ميلاد ومصالح وذكريات غير صالحة لأي إثارة. وها هي مقالته الأخيرة (مذكرات زوجة دوستويفسكي) تنتصب بلا معمار، سوى أن الفاتحة أكذوبة والخاتمة أكذوبة والحشو قطن أسود. يقول يوسف في فاتحته: "أقرأ الآن وباستمتاع غير عادي مذكرات زوجة دوستويفسكي، ترجمها عن الروسية مباشرة في ترجمة سلسة لا تقل جمالاً عن الأصل الدكتور أنور محمد ابرهيم". سنتغاضى عن الحماسة والمدائح، فهي ركن من أركان عاميته. ما لا نستطيع أن نتغاضى عنه، هو أن هذه العبارة لا يجرؤ عليها سوى شخص ذي لسانين، عربي وروسي، أو شخص دعيّ وسطحي وساذج. فيحدود علمي، وأنا مصيب تماماً، أن عربية يوسف خربة وفي حاجة إلى إصلاح وتهذيب، في حاجة إلى سجن أضيق من سجن اللغة. أما روسيته فهي شهوته المكبوتة وعادته السرية. ربما تكون منفاه أو جنّته الموعودة. مثلما فعل يوسف في الفاتحة، فعل في الخاتمة، وكتب "إن هذه المذكرات هي أكثر المذكرات التي كتبت عن دوستويفسكي صدقاً، ها هما الشخصان يظهران، شخص صاحب ألسنة تجيد اللغات كلها ليتابع كل ما كتب عن دوستويفسكي، والآخر الدعيّ السطحي الساذج، يقول بول فاليري: يا ناثانيل، أوصيك بالدقة، لا بالوضوح. بالأكذوبتين أحاط يوسف مقالته كأنهما سوران عاليان لا يسمحان للأغراب بالدخول، لأنه يخشى من العين. ولولا أنني يئستُ من قدرتي على التحمل، ما حاولت الاقتراب. فكل مقالات يوسف السابقة على هذه المقالة، منسوجة من أخطاء كنت أصادفها وأصارعها وأصرعها بالضحك والاستهانة حتى فاض الكيل، وكثيراً ما تصورت أن الكبيرين نجيب محفوظ وهيكل سينبّهانه إلى أخطائه، فإذا لم يكفّ سيوبّخانه، فإذا لم يكفّ سيموت أحدهما ويبقى الآخر. ولأن البعض يعتقد أن فصاحة المقالات تتحقق ببعض النقدات، ويوسف يحب أن يكون فصيحاً، لذلك وجّه نقداته إلى الترجمة السورية للكتاب ذاته، "مذكرات زوجة دوستويفسكي". لم أتوقع أن تكون نقداته محمولة بروح العلم، ولا حتى بروح الجدل البلاغي، توقعتها شقشقة، فكانت محض شقشقة. عاب على الترجمة السورية اختصارها المخلّ، وعلى أنه لا المترجم ولا المراجع ولا صاحب المقدمة (هؤلاء ثلاثة أشخاص) تحدثوا عن جوهر مسألة الاختصار، ولماذا تمت وعلى أي أساس جرت وما هي الفلسفة التي حكمت عملية الاختصار. اللافت أن الترجمة المصرية كاملة، أما الترجمة السورية فقام بها الدكتور هاشم حمادي وهو نفسه صاحب المقدمة ولا يوجد مراجع (هؤلاء شخص واحد)، وطبعتها "دار طلاس". في المقدمة يؤكد المترجم حرصه على الاقتصار في ترجمة هذه المذكرات على ما يتعلق بدوستويفسكي بالذات، فجاءت الترجمة، هكذا يقول، أقرب إلى التعريب أو الترجمة باختصار، ثم يقول: كلي أمل أن أكون قد وفقت في الاختيار، يعني اختيار ما ترجمه وما استبعده، وتلتزم دار النشر ما أعلنه المترجم، وتجعل عنوان كتابه دالاً على ما فعله، "دوستويفسكي في مذكرات زوجته"، وتكمل التزامها في هذا المعنى بأن تضع صورة دوستويفسكي على الغلاف، وليس صورة زوجته، كما في النسخة المصرية الكاملة. فور انتهاء يوسف من نقداته، ينتشي. لقد أصبح مثقفاً يكتب وينقد، فيقفز مرة على روايات تولستوي وسيرته بقلمه وقلم ابنته، وكي لا نطيل لن نتوقف عند تولستوي لأن القعيد كان يرقص فوق قشرته من دون أن يكسر القشرة، لكننا سنراه يقفز ثانية ويغرس أقدامه في قبري تشيخوف وغوركي، يغرسها بعزم وجدية، ويكتب بيقين لا يملكه سواه: "كان تشيكوف كاتبا ما زال يواصل البحث عن مشروعه، وكان بحثه يعلن تجلياته بمحاولة العثور على أسلوبه ورؤيته للعالم وطريقة كتابته. كان قلقه الذي أوصله لأن يوصف بأنه صاحب القصة القصيرة في العالم ومؤسسها ما زال يشغله، أما مكسيم غوركي الذي أصبح كاتباً كبيراً ملء السمع والبصر، ورغم هذا رد على كل خطاب أرسله له تشيخوف، وخطابات الشاب والشيخ تقدم تجربة جيدة في تعامل الأجيال مع بعضها". انتهى كلام يوسف. كانت صورته على رأس مقالته وقبل أن أمزقها كي أهدأ، تأملتها، فأحسستُ به يخرج من الصورة، ويمسك يدي، ويشير إلى خيال بعيد، ويقول: هل ترى ما أراه، إنه هو، إنه أنا، نحن شقيقان، نحن توأم. ففطنتُ أن الخيال الذي يشير إليه، هو خيال غوركي، وأحسستُ أن من يمسك يدي، هو عفريتهما، عفريت غوركي وعفريت يوسف. وسمعتُ صوتا يهتف: "انصرف بسرعة واقرأ بصوت مرتفع ما كتبه مارك سلونيم عن غوركي". كان كتاب مارك سلونيم على السفرة، فتحتُه وشرعت في القراءة المسرعة هكذا: "كانت "الأم" وهي واحدة من أضعف رواياته وأكثرها شعبية، هي قمة كتابته ذات المضمون الاجتماعي، وقد كتب غوركي هذه القصة، بأسلوب عالي الطبقة، غالبا ما يبدو مسطحاً مصطنعاً. لقد كان غوركي مجردا من الابتكارية الخيالية، وكانت مؤلفاته نسخاً مطابقة للواقع، تمثله أصدق تمثيل. ولما كان غوركي اشتراكيا وصديقاً للينين وزعماء المستقبل الشيوعيين، سرعان ما اصبح قائداً اسميا للجناح اليساري من أدب الطبقات الكادحة". استيقظتُ ورفعتُ رأسي الذي سقط في النوم فوق صفحة الجريدة، الصفحة رقم 11. بحثتُ عن العفريت والشبح فلم أجدهما، خطفتُ صفحة الجريدة، ومزقتُها، وطردتُ مارك سلونيم, ونمت نوما عميقاً من دون كوابيس.
العادلون: يا يوسف ليتك لا تكتب
- منتصف ليل الخميس 10 أيلول 2015 هاتفني صديقي مصطفى الملطاوي وحدثني عن عمر الشريف وعزت العلايلي وفيلمهما "المواطن المصري" المأخوذ عن رواية يوسف القعيد، "يحدث في مصر الآن"، لكنني قاطعته وصارحته بعدم حماستي للرواية والفيلم وأغلقتُ التلفون وأغلقتُ ذاكرتي.
- صباح الجمعة 11 أيلول 2015 التقيتُ حسب عاداتي يوم الجمعة بالدكتور أحمد القصير الذي أهدى إليَّ كراسته عن المادية التاريخية، وفي المساء، بعدما أصبحتُ في بيتي، أغرتني الكراسة بالبحث عن ترجمة الدكتور القصير لكتاب يضم أربعة فصول عن تشيخوف كتبها مكسيم غوركي وآخرون، وغمرني السرور لأن علي أدهم هو مُراجع الكتاب، وعلى إثر سروري انفتحت شهيتي وبحثتُ عن كتب أخرى، فوجدتها، ووضعتها أمامي على طاولة السفرة هكذا:
1- مجمل تاريخ الأدب الروسي تأليف مارك سلونيم ومراجعة علي أدهم.
2- أنطون تشيخوف تأليف يرميلوف وترجمة عبد القادر القط وفؤاد كامل ومراجعة علي أدهم.
3- مجلد انطون تشيخوف "حياة في صور".
وبينما أنا منهمك في النظر إلى الكتب ومبتهج بها اخترقت ذاكرتي مكالمة الملطاوي ليلة أمس، وتعكرت مياهي وخرجت مني على هيئة عرق غزير لأنني فكرت من جديد في رواية "الحرب في بر مصر"، وتخيلتُ يوسف القعيد، يلبس جلباباً خطوطه الطويلة سوداء وبيضاء، ويجلس على الجانب الآخر من خيالي ويراقبني.
- نهار السبت 12 أيلول 2015 جلستُ أتابع بحنان بالغ حياة صاحبي القديم أنطون تشيخوف، مذ ولد في سنة 1860 حتى وفاته 1904، وبالحنان ذاته تابعتُ علاقته بتولستوي كمريد، وعلاقته بغوركي كقطب أكيد، بعدها راجعتُ تاريخ صدور الطبعة الأولى من أعماله الكاملة باللغة الألمانية في خمسة مجلدات سنة 1896. في تلك الأثناء كان غوركي لا يزال يمشي على الحصى. بعد أربع سنوات، وبالضبط سنة 1900 سيصبح تشيخوف عضواً فخرياً في أكاديمية العلوم، وبعدها في آذار 1902 سوف يطلب إعفاءه من العضوية الفخرية اعتراضاً على أمر القيصر بإلغاء اختيار غوركي عضوا فخرياً في الأكاديمية. غمرتني رعشة محبة فأحسستُ بالرغبة الجارفة في الكتابة، لذا شرعت في نقل إحدى رسائل تشيخوف إلى صديقه أ. إي. سومباتوف، وأعدتُ قراءتها بعد تدوينها. أظن أن صوتي كان عالياً، "أوافقك الرأي في صعوبة الحكم على غوركي، فعلى الأقل يستلزم ذلك الإلمام بكل ما كتب وقيل عنه، لم أشاهد مسرحية "البيت"، أعلم عنها القليل جدا، ولكن وبلا ريب تكفيني فقط قصص مثل "الرقيب" و"تشيلكاش"، حتى لا أعتبره كاتبا مغمورا، أما "فوماغوردييف" و"ثلاث" فلا يمكن قراءتها، فهي أعمال رديئة، كما أنني أرى "الوضيع" صنيع تلميذ ثانوي، إن صنيع غوركي لا ينصبّ في الإعجاب به، وإنما في كونه أول روسي، بل والأول في جميع أنحاء العالم الذي لم يتحدث عن البورجوازية الصغيرة باحتقار واشمئزاز". لحسن حظ تشيخوف أنه مات قبل أن يكتب غوركي روايته "الأم".
- صباح الاحد 13 أيلول 2015، جددتُ نشاطي بإصراري على استنساخ رسالة أخرى أوردها ياكو لافرين في كتابه "تعريف بالادب الروسي"، وهي من غوركي إلى تشيخوف، يقول غوركي: "هل تعرف يا أستاذي ما أنت صانع، لقد أخذت تذبح الواقعية، وإنك لذابحها عما قريب، وستخمد أنفاسها إلى غير رجعة، وفي هذا الخير، لقد عمّرت الواقعية أطول من زمانها، هذه حقيقة، وإن أحداً لن يستطيع أن يسلك هذه الطريقة في أثرك، نعم لن يستطيع أحد أن يكتب في مثل هذه البساطة عن أشياء بسيطة كهذه، وأن يحسنها كما تحسنها أنت، وإن كل شيء بعد أي قصة من قصصك مهما قلّت أهميتها ليبدو فجاً كأنما كتب بهراوة لا بقلم، وعلى هذا فأنت مجهز على الواقعية لا محالة". انتهت رسالة غوركي إلى أستاذه. ما أضحكني كثيرا هو تلك الرصانة التي ترجع في ما أظن الى رصانة المترجم مجد الدين حفني ناصف. ما أضحكني أيضا هو استغرابي الغبي مما ذكره القعيد عن أن غوركي أستاذ تشيخوف وأنه تواضع وأجاب عن كل رسائله.
- ليل الأحد 20 أيلول 2015، أعدتُ الكتب كلها إلى أماكنها، وأطفأتُ النور، فرأيت مرة ثانية يوسف القعيد بجلبابه المخطط يجلس على الجانب الآخر من خيالي ويراقبني. أعترف أنني خفت أن أنام، وخشيتُ أن أراه في كابوس جديد، وفي محاولة مني لاستئناسه وإيناسه، فكرتُ في قراءة روايته "أيام الجفاف"، غير أنني اكتشفت أنها لم تعد في مكتبتي. عند ذلك أيقظتُ زوجتي وأرغمتها على مشاركتي في البحث عن خلاص، وقبل أن تندمج، فاجأتُها وحكيتُ لها عن محبتي لسعدي يوسف على رغم أنه يشطّ كثيراً، وعن إعجابي بغرائب صافيناز كاظم على رغم أنها لا تعرفني ولا تمتنع عن شتمي إذا لزم الأمر، وعن علاقتي المرتبكة ببعض شيوخ جيل الستينات، وعن إشفاقي على يوسف القعيد لأنه يتشبّه بالكتّاب والأعلام والأساتذة ويحاول أن يفعل أفعالهم وأن يقول أقوالهم، لكن يده ولسانه يخذلانه. رمقتني زوجتي باستغراب فحكيتُ لها عن كاتب غزير كان اسمه ابرهيم الورداني اكتفى طه حسين بأن قال عنه، هذا رجل رضي بجهله ورضي عنه جهله. لم تبتسم زوجتي فاندفعتُ أحكي لها ثانية عما قاله طه حسين عن كتابات محمود أمينالعالم وعبد العظيم أنيس "يوناني لا يُقرأ". سألتني زوجتي لماذا تحكي لي هذه الحكايات، فقلت لها: انتظري قليلاً، وقرأتُ عليها مأثورات يوسف القعيد عن تشيخوف وغوركي، وقبل أن أنتهي، وضعت زوجتي يدها فوق كتفي، بعدما كادت تضعها على فمي، ونظرت في عينيَّ وصرخت صرخة يائسة: كفى كفى، وتوقعتُ أنها ستقول: يوناني لا يُقرأ، ولكنها خذلتني وقالت: الجنازة حارة والميت غلبان. وأخذت تندب بأبيات حفظتها عني:
ليس أضنى لفؤادي
من عجوز تتصـــابى
ودميم يتحالــــــــى
وعلـــــــــــيم يتغابى
وجهول يمـــــــــلأ
الأرض سؤالاً وجوابا
روى لي بعض العارفين بكل الأمور، أنه بعدما قرأ مريدو يوسف القعيد المقالة السوداء، "القعيد اسمه غوركي"، ذهبوا إليه جميعاً، ووقفوا تحت نافذته، ونادوا عليه حتى أطل عليهم، فرفعوا صورة الكاتب يطالب بحقوقه، وهتفوا في صوت جماعي:
كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعا
يُرمى بصخرٍ ويُعطى أطيب الثمرِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقلاً عن النهار اللبنانية