ممدوح رزق
يبدأ قارئ ما مراجعته لإحدى الروايات على موقع جودريدز بهذا الاستفهام المجازي: (هل تبحث عن رواية جميلة؟ .. إذن لا تقرأ هذه الرواية) .. لا يكمن المجاز في الإجابة الاستباقية لهذا التساؤل “الشائع”، وإنما في إقراره البلاغي لمعرفة يراها غير قابلة للشك عبر هذا الاستفهام: (أنا أعرف ما هي الرواية الجميلة، وأعرف أن الشروط التي أحدد من خلالها “جمال العمل الروائي” هي نفس الشروط التي يتبناها جميع القراء، ولقد توليت نيابة عن كل هؤلاء اختبار هذه الرواية لتقديم اليقين المسبق الذي سيتكوّن لديهم عند قراءتها، وبالضرورة تكفلت بحمايتهم من إهدار الوقت، وبذل الجهد دون طائل، وهو أمر يجب تقديره، ومنح من يقوم به المكانة اللائقة) .. هو لا يتوجه بحديثه هنا إلى أشخاص محددين، بل هو “القراءة” تخاطب نفسها .. الحقيقة التي لا تتعلق فحسب بـ “المبالغات العنيفة والمقززة لبعض الأعمال الأبوكاليبتية”، وفي الوقت ذاته لا يخدشها أي سلوك مضاد، غير متوافق مع بداهتها “الإنسانية”.
شخص آخر يعتبر نفسه قارئًا (غير عادي) لمجرد أنه يركّز في ريفيوهاته على إدانة الروايات التي تبدو كإعادة تدوير عصرية للأفلام المصرية القديمة .. هذه الصورة أو “الهالة” التي يحاول تثبيتها عن نفسه يراها جديرة بإعطاء إدانته لنوعية أخرى من الروايات صفة الصواب الكامل .. أتحدث عن الروايات ذات النزوع الإيروتيكي أو البورنوجرافي على سبيل المثال .. كأنه بالضبط يقدم تعريفًا محصنًا لذاته كقارئ بهذا الخطاب الضمني: (لقد أثبت مدى العمق الذي يتمتع به وعيي القرائي عبر انتقاد الروايات الساذجة، ولهذا يحق لأحكامي المطلقة عن الروايات البذيئة والفاحشة والخادشة للحياء أن تؤخذ بإيمان تام) .. هو لا يرى في مجابهة “الرومانسيات الحديثة” مبررًا لفرض الوصاية الإرشادية على القراء الآخرين وحسب، بل يرى في ذلك دافعًا أيضًا للخمول، للاستكانة، لعدم التفكير فيما يتخطى قرارته التأويلية .. لعدم البحث في الأسباب الأخرى داخل الحياة والموت التي تُكتب من أجلها مثل هذه الروايات التي يرفضها ويحذر “التجمعات القرائية” منها .. لعدم قبول التباين والحق للأفكار والعواطف البشرية والجماليات المُعارضة والآلام الأخرى التي يجهلها في أن توجد دون تهديد أو محاكمة أو قمع .. لعدم الاعتراف بالتجارب التي لم يعشها، ويعجز عن فهمها، وتمثل عداءًا لما يعتقده .. لعدم مواجهة (سقف الوعي) الذي يخرّب فكرته عن نفسه كـ (قارئ غير عادي) طالما لا يستطيع تجاوزه.
لكن على جانب آخر هناك منطق قد يمنع عنا الشعور بالتنافر مع الاستفهام المجازي للقارئ حول “جمال العمل الروائي” .. نحن أمام قارئ لديه إدراك بالفعل لخصائص ومبادئ عامة، أو قواعد كلية لماهية “الرواية الجميلة” في وعي القراء الذين ينتمي إليهم .. الذين يصادقهم، ويتناقش معهم، ويتعرّف على انحيازاتهم .. هذا القارئ لديه إدراك لما يمكن أن يُطلق عليه بشكل أو بآخر (طبيعة قرائية حاكمة) لجموع أو حشود متزايدة من القراء، وهو ما يسهل عليه بالضرورة اعتبار أن (التاريخ الكوني للقراءة) يواصل امتداده من خلالهم .. نفس الأمر ينطبق على القارئ الآخر الذي يؤمن بأن العالم مهما كان لا أخلاقيًا فإنه يجب على الكتابة ألا تكون كذلك، بل على العكس ينبغي لها أن تكون في صدارة الحرب ضد الرذائل السائدة، وأن يظل القراء ـ بوصفهم القضاة العادلين رغم اختلافهم وتناقضهم ـ هم العلامات المضيئة التي تقود الكتّاب في هذه الحرب .. ينبغي أن يظل القراء هم الضمائر السليمة التي تعاقب هؤلاء الكتّاب إذا بدر منهم ما يشير إلى انحراف أو انتهاك أو عند قيامهم بأي ممارسة يمكن أن تصنّف كـ “خيانة للقيم” .. نحن أمام قراء يتحدثون ـ صدقًا ـ باسم جماعات ترتقي لأن تكون شعوبًا مهيمنة، وتتشارك بصيّغ عديدة في أنماط وجماليات لها من التطابق والتقارب ما يُغري بالنظر إليها كتيارات وظواهر قرائية تمتلك انسجامها وخضوعها الخاص لذاكرة أو، بالأحرى لجذور تكاد أن تكوّن فيما بينها ملامحًا أزلية لكاتب أصلي يواصل إنتاج نسخ لا حصر لها من ذاته.