القديسة سناء جميل

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

علي حسن

كم كنت أحب الكتابة عن هذه السيدة؛ لكن لعنة الله على التردد. إنه الخوف ألا تقدم جديدًا.
مَن ذا يضيف إلى الشمس تعريفًا وتقديمًا، مَن ذا الذي يمنح الماء جلالًا وقيمة؟
“سناء جميل” أو “ثريا يوسف عطالله” مواليد ملوي في (٢٧ إبريل ١٩٣٠-٢٢ ديسمبر ٢٠٠٢).
هي الملكة، الإمبراطورة، سلطانة المسرح، قديسة الفن العربي، زهرة الصبار، السيدة الجريئة، الصريحة حد الصدام، العنيفة، العصبية، المرتبة، المنظمة، الرقيقة، ابنة الأصول والغنى، الفقيرة، القنوعة، الشابعة المتشبعة، المثقفة، الحكيمة.
منذ نفيسة في فيلم “بداية ونهاية” (١٩٦٠)؛ كانت البدايات، لكنه لم يكن أبدًا نهايتها. “سناء جميل المطرودة من بيت أهلها، المغضوب عليها، والتي سكنت أحد بيوت المغتربات، بفضل مساعدة العظيم زكي طليمات، عاشقة الفن، تقر بأن لا مصير لها إلا ما عشقت، ولا حياة إلا في ظل ما أحبت.
إنه “الفن” يوم كان ذا جلال وقدر؛ قدمت أحد أعظم أدوارها على الإطلاق، وهي الفتاة التي تحبو في دنيا السينما.
سناء” تخرج كل ما تحمله من فزع ورهبة داخل غرفة الحجز؛ تصبح نفيسة، لا شيء إلا نفيسة، تسمع المشبوهات وأرباب السوابق يتغنين باستهزاء:
“يا حلوة يا بلحة يا مقمعة.. شرفتي إخواتك الأربعة”
نفيسة على نيل منطقة الزمالك؛ تقف على حافة الجسر، تضرب وجوهنا قبل أن تنتحر، نظراتها سياط تلهب ظهورنا، نحن “المشاهدون، المجتمع، النظام الفاسد” دقات قلبها طلقات رصاص تخترق ضمائرنا قبل عقولنا، بصائرنا، كل حواسنا كمشاهدين! نشعر جميعًا بلا استثناء أننا “المنتحرة” نقف على شفا الجحيم رغم الماء! ليس من مخلوق يصرخ “قف”. الأخ؛ يدفعها لتنهي حياتها، إنقاذًا لحياته، مستقبله، شرفه الهش. هذا الأخ “حسانين” حين وقف وقفتها بعد صحوة ضميرة، لم نعره انتباهًا، لم نتأثر بنهايته، فقط نفيسة “أخته” تؤلمنا، تشعرنا بوخز ضمائرنا!
أبكت نفيسة المجتمع، ونالت منه. “حسانين” -عمر الشريف- يرجوها أن ترفض صفعته قبل انتحارها:
– يا سناء بلاش القلم، أنا إيدي طارشة!
– أنا مش سناء؛ أنا نفيسة أختك. القلم لازم يكون قلم، اتفضل يا أستاذ.
ويتوقف التصوير أسبوعًا؛ الأستاذة سناء خدها متورم!
يقول الأستاذ “نجيب محفوظ”: “لقد قالت سناء جميل في “نفيسة” بكل ما لم أستطع كتابته أو التعبير عنه بالقلم”.
“نفيسة” غير “حفيظة” زوجة العمدة في “الزوجة الثانية”. العمدة “صلاح منصور” يصارع، يتحدى، يقف أمام سيدة جاءت إليه من أساطير مصر القديمة، فلاحة من ريف مصر، تعشق الحياة، وتتآلف مع الخلود والنماء، إيزيس جديدة بروح ستينيات القرن العشرين. الصراع بينهما يبدو في خلود أعظم عبارة لها في السينما المصرية:
– الليلة يا عمدة. فيرد لها الصاع صاعين قائلًا:
– هي حبكت!
في فيلم “المجهول” إخراج أشرف فهمي – ١٩٨٤؛ الجبار عادل أدهم، يتنازل عن كل ما للفنان من إمكانات، يطرح المعطيات أرضًا، فلا يرتكز إلا على تعبيرات وجهه، لغة عينيه، إنطباعاته!
أبكم أصم، أمام عملاقة التمثيل والتعبير بالوجه ولغة العيون، فوق كل هذا، هي أم تلهث وراء ابنها -ضحيتها- فلا تعيدها الصرخات، أنينها، الهرولة خلف شخص، اختارته تحديدًا، كي لا يتسمع أسرارها، ولا ينطق بما شهده!
نشعر بالعداء تجاهها؛ لكن في غمضة عين، تسلب من الإرادة، تجعلنا مع أم بينها وبين فقد ابنها لحظات!
أسمع رسول الله حين يقول: “صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة”؛ سمية عندما تتمزق أوصالها في الرسالة، تقطع قلبي، تمزق جسدي معها، إلى حد يجعل زوجها الأستاذ “لويس جريس” هل سناء أسلمت، فأتحول إلى الإسلام كي يصح زواجنا؟
“فضة المعداوي”؛ امرأة هي نتاج التشوهات، تجسيدًا لعصر الانفتاح، الإنقلابات المضطربة، الهوس المادي، هزائم القيم والأخلاق وكل صادق سليم!
“ولا يا حمو.. التمساحة يلا..” يصمت الدكتور “أبو الغار” رغم دفاعاته، يصيبنا الفيروس، نصمت معه، بل إن المجتمع يضربه الخرس المركب، منذ سمع عبارتها تلك، فلا يتمرد، يكتفي فقط بالألم والحسرة دون أن يتمرد!


تسأل الأستاذ أسامة أنور عكاشة”: “الست دي مسترجلة؟ لكي تفهم طبيعة شخصية “فضة المعداوي” ثم تستنكر كلمة “شمس” فتقول: “مفروض فضة تقول “سمس” فهي امرأة جاهلة. وأسامة أنور عكاشة يستمع إليها منبهرًا، مذهولًا، كأنه يستمع إلى سيناريو وحوار لم يستمع إليه من قبل، وهو الذي كتبه!
في “اضحك الصورة تطلع حلوة” يسلك العملاق “أحمد زكي” الطريق نفسه الذي سلكه “عادل أدهم” قبله ومعه في سواق الهانم. فيصمد أمام هذا الطوفان الهادر والبركان المتفجر! تقول زهرة الصبار “سناء جميل” في أحد أعظم أدوارها، مستنكرة الوضع الذي آلت إليه مصر:
– في إيه يا سيد؟ دانا شيلت النكسة فوق دماغي سنين طويلة، ولفيت بيها البلاد، لحد ما وقعت وانكسرت تحت رجليه. لكن مكنتش عارفه إن فيه نكسة تانية، مستخبية! سيد طمني على بنتنا (تقصد مصر) فيرد ابنها سيد قائلًا: “اطمني يامه، البنت بخير، أنا عارف إنها بخير!”.
وفي حوار بين سيد ؤزمه من أجمل ما رأيت في السينما المصرية، تقول العملاقة سناء جميل:
– “دا إحنا صغيرين قوي يا سيد..
– لا يامه؛ محناش صغيرين، إحنا كبار قوي، بس مش عارفين نفسنا!
تقول العظيمة سناء جميل عن العبقري “أحمد زكي”: “أنا أنحني لهذا الفنان.. أنحني له، لأنه فنان عظيم!” ويجب أن أسجل هنا أن السيدة “سناء جميل” قبل أن يقف أمامها أحمد زكي في سواق الهانم. قالت له عبر الهاتف: “تفسي أمثل قدامك يا أحمد قبل ما أموت”.
في مسرحية “الحصان” جملة، كلما جاء موعدها على المسرح، تجهش العملاقة سناء جميل بالبكاء”
“الإنسان المصري العظيم، عازف الهارب والناي، أول فيلسوف ومفكر، صانع أول حضارة، هذا الإنسان العظيم.. إزاي يتحول من مظلوم لظالم لنفسه؟ إزاي.. إزاي؟
قالت سناء جميل:
“في حاجة اسمها عيب للمسرح.. المسرح مش كباريه، المسرح مسرح يُحترم. المسرح ياما داست على خشبته ناس عظماء.. لهذا يجب أن نحترم المسرح.”
“أكثر حاجة تسعدني هي ضحكة لويس زوجي، لما بيضحك بحس إن قلبي بيرفرف كدة!”.
“بعد أن طردني أخي من البيت لأني قررت أن أصبح ممثلة؛ لم أجد غير بيت الأستاذ “سعيد أبو بكر وزوجته، فتح لي بيته ثلاثة أشهر، وبعدها في بيت المغتربات، ثم في شقة لا عفش فيها. نمت على هدومي لأني لا أملك مرتبة! هدومي اللي نمت عليها هي اللي عملت سناء جميل، إذا ما كان هناك شيئ اسمه سناد جميل.”
“أنا أرفض المستحيل؛ لكني لا أنكره، فهو موجود. قصة حياتي شيئ من المستحيلات! لقد أثبت لنفسي ولأهلي الذين طردوني من بيتي أن البنت الصعيدية دي ممكن تكون ممثلة محترمة.  أهلي قالوا: هو إحنا علمناكِ عشان تكوني مشخصاتية؟ فأثبت لهم مع الزمن -وهم عايشين وشايفين – إن أنا سفيرة محترمة لبلدي في كل مكان.”
“عمري ما بخلت في أي موقف إني أعطيه كل ما عندي من إحساس وحب واحترام، أنا أحترم العمل جدا، أحترم المسرح والسينما، أحترم العمل الفني عمومًا، أحترم كل عمل يؤديه الإنسان بإخلاص وصدق وإتقان.”.
“المسرح هو الموجه الأول؛ هو المؤثر الأول في الجمهور، ومن خلاله تستطيع أن تقود فكر الناس، إذن المهم أن تسأل نفسك ماذا أقول، وماذا أقدم للمجتمع؟”.
“لم أدخر شيئًا لشيخوختي؛ إلا جمهوري، اسمي، وربنا يخلي لي لويس.. ده كل اللي أمتلكه في الحياة.”.
“لما يقابلني إنسان في الشارع ويقول لي: “روحي يا شيخة ربنا يخليكي لمصر.. دا بكنوز الدنيا كلها.”.
هي سيدة مصرية، فنانة عظيمة، وربة منزل، قبل أن تكون ممثلة مسرح عملاقة أو سينما جبارة، فهي تطبخ وتمسح وتكنس وتكوي الهدوم بنفسها، دون الاعتماد على أي شخص أبدًا.
ناقشها الأستاذ “لويس جريس” الزوج في موضوع الإنجاب، قالت: ” أنا مش ممكن أخلف وغيري يربي” إشارة إلى الدادة. ولإنشغالها وانشغاله، قررا عدم الإنجاب، لكنها قبل وفاتها قالت له “أنا كنت غلطانة قوي يا لويس!”.
سناء جميل” قدمت ما يقرب من مئتي عمل؛ على المسرح قدمت طبيب رغم أنفه، ماكبث، الحجاج بن يوسف، زواج الحلاق، ابن جلا، الدخان، سقوط فرعون، الحصان، قاتل الزوجات، رجل الأقدار، شهرزاد، مريض بالوهم، جيفارا، شمس النهار. كذلك عشرات من العروض المسرحية الفذة التي لا يمكن نكرانها أو نسيانها.
في السينما قدمت بداية ونهاية، فجر يوم جديد، بلال مؤذن الرسول، عندما يأتي المساء، المستحيل، الزوجة الثانية، البعض يعيش مرتين، الشوارع الخلفية، حكمتك يا رب، توحيدة، الشك يا حبيبي، المجهول، السيد كاف، سواق الهانم، اضحك الصورة تطلع حلوة، الرسالة.
لأنها ابنة العائلة الارستقراطية؛ بعد وفاة والدها ووالدتها وهي في سن العاشرة، أرسلها أخوها الأكبر إلى مدرسة “الميرديوديور” الفرنسية الداخلية، ودفع لها مصاريف التعلم حتى تصل إلى الثانوية “دفعة واحدة” ليتخلص من أعبائها! لم تتقن العربية، وبعد اختبار الأستاذ زكي طليمات لها، تبناها، ووضع لها منهجًا لتعلم اللغة العربية، وأحضر لها أستاذًا يعلمها اللغة العربية، كما طلب منها قراءة القرآن الكريم، وقراءة كتاب “كليلة ودمنة” بصوت مسموع.

مقالات من نفس القسم