علي حسن
الأديب والروائي الكبير جمال الغيطاني اسم من الصعب أن تسمعه دون أن يتوارد إلى ذهنك للوهلة الأولى الزيني بركات ووقائع حارة الزعفراني أو أن تدع عينيك تسبحان في أجواء من عبق التاريخ الفاطمي والمملوكي بين أزقة حي الجمالية والتكايا والسُبل والمساجد العامرة.
ما زلت أذكر الأستاذ الغيطاني وهو يتجول من حارة إلى حارة في منطقة الحسين والجمالية التي عشقها وصادق أهلها وأحبهم فأحبوه٬ وذلك من خلال برنامجه الرائع ” تجليات مصرية ” الذي كان يقدمه على قناة دريم٬ كم كان شغوفًا بهذه المنطقة الأثرية والعتيقة.
حالفني الحظ أن جلست في حضرة الأستاذ جمال الغيطاني غير مرة٬ كان آخرها يوم 14 مايو 2015 وكان ذلك احتفالا بصدور كتابه الجديد ” حكايات هائمة ” عن دار نهضة مصر وذلك في ” مكتبة البلد الثقافية ” في شارع محمد محمود بمنطقة وسط البلد.
كان رحمه الله في غاية الوداعة والرقة.. كما كان أيضًا رغم سعادته لصدور كتابه محبطًا ومرهقًا وأشهد أنه على بساطته ووداعته لم يضحك يومها إلا نادرًا!
للأستاذ الغيطاني أكثر من اثنين وستين مؤلفًا ما بين الرواية والمجموعات القصصية والكتابات التاريخية والفكرية٬ غير أن في هذا الكتاب وهو آخر مؤلفاته ” حكايات هائمة ” قد وضع كل خبراته الحياتية ونظرته الفلسفية٬ فكان بحق خلاصة فكره وثقافته وهو قارئ نهم يفيض معرفة وعلمًا صوفيًا وفلسفيًا قل أن تجد له نظير.
من يعرف الغيطاني يعرف أنه كان متيمًا بالتاريخ والأماكن٬ ويعشق الحوار مع الحجارة ويخلق ألفة بينه وبين التاريخ والأثر٬ لذلك فإن حكايات هائمة يفيض عشقًا بالمكان والزمان معًا وتظهر بكل وضوح رؤيته الصوفية والفلسفية للحياة وما بعدها.
في حواره معنا في هذا اليوم الذي لم أنسَه أبدًا أشار الأستاذ الغيطاني إلى عميق شغفه بالأهرامات وبالقاهرة الفاطمية ومنطقة الحسين٬ فعن الهرم يقول أن لشدة ولعه طلب من المسؤولين السماح له بقضاء ليلة داخل الهرم وفي حجرة الملك خوفو٬ وبالفعل قضى الغيطاني ليلتين داخل الهرم ونام داخل تابوت الملك ليلة كاملة ليعايش بنفسه لحظة دخول الضوء في ساعات الفجر الأولى حين يلامس وجه الملك. ومازالت أذكر كلماته وضحكاته حين قال أنه لم يكن خائفًا أبدآ من الظلام الحالك ولكن ما أرعبه هو أنه كان يسمع أصوات الفئران وهي تتحرك داخل غرفة الملك لكنها لم تدخل إلى التابوت ورغم صعوبة هذه الليلة إلا أنه تمنى أن يكررها.
وهذا العشق للحضارة الفرعونية جعله يروي في كتابه حكايات هائمة تحت عنوان “كتاب الكتب” أن المؤرخ تقي الدين بن أحمد المقريزي يقول في خططه: ” أن الهرم الأكبر كان مغطى بطبقة من الحجر الجيري عليه كتابة مذهبة بقلم الطير (الهيروغليفية) فإذا أشرقت الشمس تبرق الحروف حتى لترى من مسافة قصية قيل أنها تبلغ مسيرة يوم٬ حتى إذا تعامدت الشمس فوق ذروة الهرم عند منتصف النهار اختفت الحروف تماما حتى أنها لا تبين.. غير أن الوهج يستأنف حدته عند الغروب حتى ليفوق لمعته عند الشروق ثم بعدها يمضي إلى خفوت كأنه لم يكن”!
يعلق الغيطاني قائلًا: “شغلت بالأمر حتى أنني كنت أحلم بهذه المسألة وأعتقد أن أمرًا حدث فلم يعد هذا الكتاب الذي بقيَّ لآلاف السنين ولم يختف إلا منذ ستة قرون تقريبًا٬ متى وكيف جرى ذلك؟ لا أحد يعرف٬ كان لكل هرم كساء٬ ومازال جزء منه يغطي قمة الهرم الأوسط رمادية اللون تميل إلى حمرة٬ وهناك أجزاء ماتزال تغطي بعض المساحات السفلى من الهرم الأكبر.. هذا يعني أن الهرم كتاب! هل هذا يمثل الغرض الأساسي من بنائه؟”
يتماهى الغيطاني في كينونة هذا الكتاب الأعظم ويتساءل ماذا كان يمكن أن نلم به لو بقيت؟ أي معرفة كانت ستضاف إلى معارفنا؟ أي كتاب هذا شغل تلك المساحة الهائلة؟ فيقول: ” لا يمكن قراءة هذا الكتاب إلا عن بعد٬ لو اقتربت لا يمكن الإلمام إلابكلمات محدودة أو سطر٬ عند زيارتي للهضبة لاحظت استحالة رؤيته كاملًا عن قرب..” البعد شرط الإحاطة”! لعله الوحيد منذ عُرفت الكتابة الذي يُقرأ عن بُعد! حروف تستجيب للشمس٬ تبلغ بآشعتها٬ في أي ظروف جُرد الهرم من كلماته؟ عندما ولجت هرميَّ “أوناس” و “تي” في سقارة توقفت شاخصًا إلى الجدران التي حُفرت عليها المتون٬ لم أعرف في حدود ما طالعته خصوصًا تجسد معنى الكتابة مثل تلك الجدران! صفحات من حجر! “
بعدها تلح عليه الأسئلة كعادته٬ ويتعمق تعلقه بما عاينه المقريزي حتى يراه رأي العين٬ لقد حاول ابتعاث لحظة شروق الشمس ـ ضوء ما قبل ظهور القرص ـ وبدأ مع لمعة الحروف تنبت الأسئلة في قلبه وعقله فيقول: ” كيف تبدو؟ متى يبلغ توهج الأصفر الذهبي مداه؟ ماذا تقول الحروف؟ ماذا تبوح به؟ أي معان تتنقل بها عبر العصور وتوالي الأزمنة؟ هل تنبئ بوقائع؟ بأسماء ملوك جاءوا وعبروا؟ هل تستعيد وقائع حروب خاضوها؟.. أغمض عيني٬ عندئذ أرى الوهج كما يبدو لحظتي الشروق والغروب٬ تدرجه نحو الألق٬ غيابه المتمهل٬ إسراعه وإبطاؤه٬ أفاجأ بمعارف تستقر عندي لم أطالعها في كل ما عرفته من نصوص! أمضي إلى الطرق المارة قرب الهرم٬ يأخذني الشغل به عن كافة ما عرفت٬ إنها الحروف .. الحروف٬ فتنبت الأسئلة من جديد! أهي نصوص تراتيل؟ إنني أوشك على الإصغاء إلى الموسيقى المصاحبة٬ أنغام لم تعبر روحي قط٬ منبعثة من آلات لا بالوترية ولا الهوائية غير أنها ليست غريبة عني.. ليست قصية٬ أعرفها ولا ألم بها٬ كأني أتلقاها آول مرة غير أنها دانية٬ أطرب من لا شئ وأنتشي بالعدم.. فقط لمجرد أنها نُقشت يومًا ودامت عصورًا! أنا أعرف من اللا شئ كل شئ!!
كتاب الغيطاني الأخير مفعم بالأسئلة٬ ورغم الحيرة فإنه يتطهر بالمعرفة٬ تشعر بين السطور أنك تستمع إلى حكمة السنين البعيدة تخرج من فم حكيم فرعوني عليم ببواطن الأمور! كيف استطاع الغيطاني في هذا السفر الخالد أن يَفُك طلاسم الحياة بحكمة كم عانى البشر كي يستنبطونها من السماء ويستنبتونها من الأرض!
تحت عنوان مسألة.. والكتاب متخم بالمسائل تجري الحكمة والفلسفة والصوفية كالنهر الرقراق٬ وتلك بعض من مسائل الغيطاني التي أطلقها كالنور بين دفتي كتابه.
ـ مسألة ” يقول الحفيد ذو الأربع سنوات: هل الغد هو اليوم؟ هل اليوم هو الأمس؟”
ـ مسألة ” إلى متى؟ إلى أي يوم سيتكرر شروق وغروب الشمس؟
ـ مسألة ” السماء.. حمرة الشفق٬ مصدرهما بصري!”
ـ مسألة ” قال تحوتي: في كل لحظة.. في كل نفس.. أرحل إليّ وأعود!”
ـ مسألة ” أعود اليوم إلي صومعتي في معبدي رغم أنني عدت إليها بالأمس!”
بجانب عشق الغيطاني للأهرام وما اكتنفها من أسرار وغموض ودراسته للأثار الفرعونية فإنه كان شغوفًا أيضًا بالجمالية ويعود هذا الشغف إلى كونه قد نشأ بين جنبات مساجدها ودروبها وأزقتها وأشار رحمه الله أنه كان يسكن بالطابق الخامس حيث كان يرى من عل كل مساجد وقصور الجمالية٬ ومنذ نعومة أظافره نشأت معه تساؤلات عن الوجود وتولدت داخله نزعة صوفية وميلًا عميقًا لمعايشة التاريخ وأسراره وأثر الزمن على الجدران والمكان والإنسان فعشق التاريخ وقرأ فيه ونظر إلى العمارة الإسلامية نظرة مغايرة تهتم بالفلسفة وترصد مواطن الجمال.
يقول الغيطاني: ” أننا في منطقة الحسين نستطيع أن نمشي داخل الزمن٬ من قصر الشوق الفاطمي نمر إلى بيت القاضي المملوكي فإذا توجهنا ناحية العتبة نكون قد جاوزنا حقبة تاريخية إلى حقبة تاريخية أخرى هي القاهرة الخديوية التي بناها الخديوي إسماعيل”.
وفي نهاية كتابه “حكايات هائمة” وبشكل يثير فينا نحن هذه المرة تساؤل في غاية الأهمية٬ نسأل هل كان الغيطاني يشعر بدنو أجله وأنه أوشح على الرحيل؟
الكتاب من خمسمئة صفحة من القطع المتوسط٬ في الجزء الأخير منه يخوض الغيطاني في فلسفة الموت ويسأل عن مغزى الحياة وتحت عنوان ” تحول ” يشير إلى محي الدين بن عربي فيقول عندما قرأ له نصًا صار هذا النص من مكوناته وشكل فلسفته في الحياة والموت٬ هذا النص هو ” لما كانت الحياة جمعًا والموت تفرقة “.
لقد شغله الموت وحال تفرقه.. عندما كان يزور الغيطاني المراقد كان يتأمل ما نبت فوقها وحولها من أشجار وأزهار.. ثم يتساءل: هل تحتوي الأغصان والثمار والورود تلك بعضًا مما كون الراحلون؟ أم أن الصيرورة تنتقل إلى بعيد؟ ثم يتمادى في تساؤلاته إلى أبعد من ذلك فيقول: لو صح احتواء تلك الأشجار على ذرات أبي أو أمي أو أي من الأحباب٬ ألا يقف الطائر المهاجر على طرف الغصن ويلتقط بعضًا من الثمر؟ ألا تنتقل المكونات إلى الأقاصي؟ إلى بلاد لم يطأها ولم يبلغها الراحلون إلى اللاشئ؟
أم أن التفريق يتم عبر مسارب وسُبل في اللاوجود لا قبل لنا بإدراكها خلال سعينا؟
ويتذكر الغيطاني أغصان الريحان٬ ولونه الأخضر العميم حين صحبه والده لزيارة مرقد الإمام المراغي وكان صبيًا.. فيقول صفحة 496 ” غير أن الغياب الأبدي اتصل عندي بكل ما يمت إلى الريحان.. وروح وجنة نعيم٬ لن يطول اختفائي طويلًا.. بضعة أسابيع.. قل شهور٬ لنوعية الرمال والأرض ودرجات الجفاف والرطوبة علاقة! حتى ما نظنه سيبقى سيولى يومًا.. أعني العظام الرميم!
ثم يتمنى الراحل العظيم أن تكون نهايته مع طائر فيقول : ليس مثل الطيور مخلوقات تعلقت بها٬ ما أتمناه إندماج بعضي باليمام!
أي جهة؟.. ذلك الزغب الواقع ما بين الرقبة والصدر.. والممتد إلي ما تحت الجناحين.. يا دفء مسعاي٬ ويا قرة وجدي.. من يدري؟
ربما ألتقي بيمامة الظهر ـ والكلام مازال للغيطاني ـ التي آنستني فوق السطح٬ وودعتني عند الانتقال إلى الدرب الأصفر.. ثم ظهرت عندي في مستشفى كليفلاند٬ لعليّ استفسر منها عن السر”
يقول الغيطاني ” لعليّ استقر في جذع شجرة تتشربني جذورها الدفينة التي توغل في التربة لترضع الماء والغذاء وتمتد به فروعها في الضوء٬ سأرحل مع كل ذرة٬ كلَّ منها تحتويني!”.
في صفحة 502 حين يشرف الكتاب على الإنتهاء يتساءل الغيطاني:
ـ “هل من هناك عندما أمضي إلى هناك؟”.
ـ “هل من جهة أسلكها عندما يبدأ تفرقي عني أم أهيم إلى كل صواب؟”.
ـ “هل من مستقر أم سأتبع كل نسمة؟”.. وتحملني كل ريح وتنقلني كل موجة إلى حيث لا أدري.
ـ “هل سيعي بعضي بعضه بعضًا؟”..!
وفي النهاية ومثل كل مؤمن بقضاء الله وقدره يختتم الكاتب العظيم رحمه الله كتابه بالآية الكريمة ( وحنانًا من لدنا) صفحة 504
وبالآية الكريمة ( ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت) صفحة 505.
رحم الله جمال الغيطاني الصديق الذي لم تطل صداقتي به ولكن وعلى قصرها لم أنس لحظة منها على الإطلاق.. سبع سنوات تقريبًا منذ رحيل الغيطاني في الثامن عشر من أكتوبر عام 2015.